في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، شهد قطاع غزة أشهرًا من الحرب القاسية وممارسات الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين سقط فيها آلاف من القتلى والمصابين والمفقودين غالبيتهم من النساء والأطفال. كما تعرّض سكان القطاع للحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية في خدمات الكهرباء والوقود والأدوية والمعدات الطبية، فضلًا عن اختفـاء المـواد الغذائيـة الضروريـة، وعدم توفر المياه النظيفة. وبدا أن إسرائيل لا تستهدف من تلك الحرب فقط القضاء على حماس، وإنما جعل القطاع غير قابل للحياة عبر تدمير بنيته التحتية لتحطيم معنويات الفلسطينيين الباقين على قيد الحياة.
ومع تصاعد الحديث عن تصورات لعملية إعادة إعمار غزة حال انتهاء الحرب، ثمة تساؤل مطروح حول متطلبات التعافي الاجتماعي والنفسي، لا سيما وأن مفهوم إعادة الإعمار يشمل أبعادًا متعددة، حيث لا يقتصر على بناء مؤسسات الحكم ووظائفها والبنية التحتية بعد الحرب وإنما يمتد ليشمل عمليات إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للسكان بعد صدمة الحرب، وهو ما يتطلب التركيز على ما يلي:
– الخدمات النفسية: ثمّة أهمية لتمكين الفلسطينيين من الوصول إلى خدمات واستشارات الصحة النفسية والعقلية داخل غزة بالتعاون بين المنظمات المحلية ووكالات المعونة الدولية، مع توفير برامج تدريب شاملة لمتخصصي الرعاية الصحية والنفسية والأخصائيين الاجتماعيين والمعلمين، كما يستوجب ذلك تشـكيل عيـادات نفسـية/ اجتماعيـة متنقلـة فـي المناطـق التـي تعرضـت لتدميـر واسـع وربطهـا بوسـائل الإعـلام المختلفـة للتعريـف بهـا وبأهدافهـا وخدماتهـا، وكذا القيام بحملات لرفع مستوى الوعي بأهمية الصحة النفسية لمعالجة الصدمات النفسية بعد الحرب، والعمل على تدريب الفلسطينيين على آليات التكيف والتعايش. كما يمكن تنفيذ برامج مجتمعية لتلبية الاحتياجات النفسية للأسر المتضررة من الحرب، بحيث تشمل مجموعات الدعم والتدخلات التي تركز على الصدمات، وورش عمل إدارة الإجهاد، ومن المفيد أن يكون لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والعربي دور فاعل في تنفيذ ذلك على الأرض.
– دعم النساء: تُولِي الأبعاد النفسية والاجتماعية أهمية كبيرة للنساء والفتيات في برامج الدعم ما بعد الحرب، لا سيما أنهن نزحن مـن بيوتهـن بحثًا عـن مـأوى، كما تعرّضن لفقدان الأبناء والأزواج. لذلك، ثمة أهمية لتأميـن أماكـن الإيـواء التي توفر لهن الخصوصيـة والكرامة مع مساعدتهن نفسيًا واجتماعيًا للعودة للحياة الطبيعية، كما من الأولى أن يقدم النساء أنفسهن هذا الدعم لكونهن الأقرب لفهم معاناة المرأة الفلسطينية. هنا، ثمة أهمية للاستعانة بخبرات وبرامج دولية سابقة في الدعم النفسي للسكان في بعض دول شرق أوروبا إثر انتهاء الحرب الباردة مع مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية.
في هذا السياق، يقترح تشـكيل لجنـة وطنيـة يتـم فيها تمثيـل النسـاء بشـكل عـادل لمعالجـة آثـار الحرب في غزة، خاصـة علـى الفتيـات والنسـاء، بحيث تكـون علــى تواصــل دائـم وفاعــل بالمؤسســات الوطنيـة والإقليمية والدوليـة، وتدفع لزيادة نسب المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية في لجان إعادة الإعمار من أجل مأسسة وتقنين تشكيل تلك اللجان من منظور النوع الاجتماعي.
– دعم الأطفال: ثمة أهمية لدعم الأطفال الذين فقدوا أسرهم، حيث يستوجب ذلك بدء تسجيل حالاتهم، ومعالجة الاحتياجات المادية والنفسية لديهم في إطار مفعل مؤسسيًا، مع توفير الأطراف الصناعية للأطفال الذين فقدوا أطرافهم جراء القصف الإسرائيلي عن طريق الشركات المصنعة في الدول المساندة للقضية الفلسطينية، علمًا أن الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال سيمكنهم من تيسير استكمال حياتهم بصورة أفضل، مع توفير أماكن مؤقتة لاستكمال العملية التعليمية لحين توفر البنية التحتية الملائمة في إطار عملية إعادة الإعمار الشاملة.
– دعم الشباب: ثمة أهمية لتوجيه برامج دعم اجتماعي ونفسي للشباب في غزة، من خلال إنشاء مساحات آمنة وأنشطة تعزز المرونة والتعبير عن الذات والدعم النفسي والاجتماعي. وينبغي أيضًا تطوير مبادرات الصحة العقلية في أماكن التعليم المؤقت وتسهيل برامج خلق فرص العمل وبناء المهارات لتمكين الشباب العاطل من تحسين ظروفهم المعيشية مما يؤثر إيجابيًا على حالتهم النفسية والاجتماعية، ومن الممكن البدء بتشغيلهم في مشروعات إعادة الإعمار، حال تحديدها وإيجاد التمويل لإنفاذها بعد وقف إطلاق النار.
وتتكامل عملية التعافي الاجتماعي والنفسي مع إعادة بناء البنية التحتية المتضررة في غزة، فضمان توفير الإسكان والمرافق الصحية والتعليمية والمرافق العامة يسهم في استعادة الحياة الاجتماعية والنفسية للسكان، بالإضافة إلى توفير بيئة آمنة ومستقرة للسكان، حتى يشعروا بالأمان النفسي والاجتماعي، ويتطلب ذلك جهودًا لتعزيز الأمن والسلم وتجنب عودة العنف عبر جهود مشتركة للحكومات المحلية والمؤسسات الأهلية والمانحين والمنظمات الدولية لضمان نجاح عملية إعادة الإعمار.
أخيرًا، فإن أهوال الحرب التي يعانيها سكان غزة تجعل عمليات دعمهم نفسيًا واجتماعيًا ليست يسيرة. فمن جهة، فإنها تتطلب التزامًا مستدامًا وموارد وتعاونًا مع التركيز على الاستجابة الفورية والتنمية طويلة المدى، ومن جهة أخرى، فإن إيجاد حل وتسوية للقضية الفلسطينية هو الترياق الرئيسي لعلاج صدمات ما بعد الحرب.