من المتوقع أن تتعاظم تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة بعدما تحول إلى ما يشبه “مدينة الأشباح”، أضف لذلك مجهولية التوقيت الذي ستتوقف فيه الأعمال القتالية الإسرائيلية أو تنتهي فيه الحرب من ناحية، وتعاظم الأجزاء التي أضحت غير صالحة للسكن في ظل الضرر البالغ الذي لحق بالبنية التحتية من ناحية ثانية. لهذه الأسباب وغيرها، فإن جهود إعادة الإعمار لن تقتصر على دول الجوار أو الدول المساهمة بطبيعة الحال، ومن ثمّ تتجه الأنظار صوب المنظمات الدولية والأممية التي من المتوقّع أن تلعب دورًا بارزًا في جهود إعادة الإعمار قياسًا على أدوارها السالفة.
الجهود الراهنة والمحتملة
- تعيين منسق لجهود إعادة الإعمار: بدأت الأمم المتحدة أولى خطواتها على صعيد إعادة الإعمار من خلال تعيين السياسية والوزيرة الهولندية السابقة “سيغريد كاغ” منسقة للشئون الإنسانية وإعادة الإعمار، والتي باشرت بالفعل مسئولياتها منذ يوم 8 يناير 2024، والتي تتمثل في تسهيل وتنسيق ومراقبة والتحقق من شحنات الإغاثة الإنسانية إلى غزة، وذلك في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2720 لعام 2023 الذي يهدف إلى زيادة المساعدات الإنسانية. ووفقًا للأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، فإن “كاغ” ستشرف على استحداث آلية أممية لتسريع شحنات الإغاثة الإنسانية إلى غزة عبر دول ليست طرفًا في النزاع. وهو الأمر الذي لاقى ترحيبًا من الجانب الأمريكي، حيث صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية “ماثيو ميلر” بأن واشنطن ترحب بتعيين “كاغ”، وتأمل في تنسيق الجهود المبذولة لتسريع وتبسيط إيصال المساعدات الإنسانية الحيوية للمدنيين الفلسطينيين في غزة.
- التنسيق مع عددٍ من الدول والأطراف المعنيّة: تتطلب جهودُ إعادة الإعمار جهودًا دبلوماسية عدة تقتضي التنسيق مع مختلف الأطراف المعنية، وبخاصة مصر والأردن. وانطلاقًا من ذلك، استهلت “كاغ” جهودها بالاجتماع مع الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك، ثم توجهت في أعقاب ذلك إلى العاصمة الأمريكية واشنطن قبل السفر إلى المنطقة، ثم باشرت أعمالها بالسفر إلى العاصمة الأردنية عمّان ثم مصر؛ حيث استقبلها وزير الخارجية المصري سامح شكري بمقر وزارة الخارجية بالعاصمة الإدارية الجديدة في 15 يناير 2024، وذلك قبل أن تتوجه إلى مقر عملها في غزة. كما قامت بزيارة وجيزة للقطاع في 17 يناير 2024 قادمة من معبر رفح الحدودي، حيث اطلعت بشكل مباشر على الجوانب اللوجستية لعمليات الأمم المتحدة. كما وصلت المسئولة الأممية إلى إسرائيل لإجراء مشاورات مع المسئولين هناك. وقد سبق لها زيارة مدينة العريش لبحث كيفية تيسير وتسريع جميع مجالات المساعدة التي يحتاجها المدنيون في غزة، ومناقشة كيفية إدخال التحسينات ومساعدة مصر والهلال الأحمر.
- توسيع أنشطة منظمة العمل الدولية: قد يكون من المتوقع أن تتجه بعض المنظمات الدولية، وفي مقدمتها منظمة العمل الدولية، إلى توسيع برامجها القائمة وتدشين مشروعات جديدة لخلق فرص العمل ودفع جهود التنمية الاقتصادية، مع الاهتمام بشكل أكبر بدعم القطاع الخاص، وحماية الفئات الضعيفة، بجانب وضع إطار لمشروعات فنية محتملة تماشيًا مع خطة الأمم المتحدة المرتقبة بشأن إعادة الإعمار في قطاع غزة. إذ يجب أن تتماشى جهود إعادة الإعمار المزمعة مع الأولويات الوطنية بغية ضمان قدرة برامج العمل المختلفة على تأمين فرص عمل لائقة لجميع الفلسطينيين. ومن المتوقع أن تركز جهود منظمة العمل الدولية في إعادة الإعمار على ثلاثة مجالات رئيسية هي: خلق فرص عمل جديدة طارئة، وإدارة أسواق العمل، والاستفادة من مختلف الطاقات البشرية.
- عقد مؤتمر للمانحين: قياسًا على مؤتمر المانحين الذي عُقد في القاهرة في عام 2014 لإعادة إعمار غزة، قد يكون من المتوقّع، على خلفية عِظم تكلفة إعادة الإعمار من ناحية، وصعوبة مقارنة تلك التكلفة بأي حرب سبق وأن دار رحاها في غزة من ناحية ثانية، عقد مؤتمر دولي للمانحين لأن إعادة الإعمار لن تكون مسئولية الأمم المتحدة منفردة أو جهة مانحة بعينها. وعليه، سوف يتقاسم المجتمع الدولي مسئولية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، ويمكن الاستدلال على ذلك بتصريح مديرة مكتب الأونروا في أوروبا “مارتا لورينزو” التي أكدت أن الصراع الحالي غير مسبوق على صعيد الأضرار والدمار، بحيث يصعب معرفة تكلفة إعادة الإعمار، بيد أنها لن تكون مسئولية جهة مانحة واحدة فقط. وقد سبق أن أطلقت الأونروا نداءً للمساعدة الإنسانية والتعافي المبكر بقيمة 164 مليون دولار في أعقاب الأعمال العدائية في غزة في 2021، وهو الأمر ذاته المتوقع حدوثه في أعقاب انتهاء الحرب الجارية.
- الإدارة الدولية: قد تُفوض الأمم المتحدة مسئولية إعادة إعمار غزة، بالتعاون مع السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية، وذلك بهدف تجاوز العقبات السياسية والأمنية التي تقوض جهود إعادة الإعمار، وضمان توافر الدعم الفني والمالي واللوجستي اللازم لتلك الجهود. بيد أن هذا الطرح يستلزم موافقة إسرائيل وحركة حماس على هذا الدور الدولي دون فرض أجندات سياسية على الشعب الفلسطيني. وقد يتم التعويل على شخصيات فلسطينية تعمل في مناصب مرموقة في مؤسسات دولية (مثل: الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي) لتنسيق هذه المسئولية إن توافقت عليها مختلف الأطراف الدولية والعربية.
- الإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية وإدخال مواد البناء: من المتوقع أن تشرف الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية على المساعدات الإنسانية التي سترسلها مختلف الدول إلى الفلسطينيين في أعقاب انتهاء الحرب مدفوعة بتعاطف دولي واسع، وبخاصة في أعقاب الدمار الواسع الذي سيتضح مداه الحقيقي بعد انتهاء الأعمال القتالية. وعلى صعيد آخر، من المتوقّع أن تتولّى الأمم المتحدة الإشراف على إدخال مواد البناء إلى القطاع؛ قياسًا على تجارب سابقة. فمع نهاية عملية “الجرف الصامد” في عام 2014، عقدت اتفاقيات بين الأمم المتّحدة والسلطة الفلسطينيّة وإسرائيل، أطلق عليها اسم “آلية إعادة إعمار قطاع غزة”، بهدف إتاحة إمكانيّة نقل مواد البناء إلى قطاع غزة من أجل إعادة البناء والتطوير وتنفيذ مشروعات عامة. وبموجب ذلك، تم ترميم أكثر من 100 ألف وحدة سكنية، وبناء الحي السكني “الشيخ حامد” في خان يونس، واستحداث منشآت تحلية المياه وتنقية مياه المجاري، وبناء مستشفيات، وغير ذلك.
ختامًا، تصر إسرائيل على إنهاء حكم حركة “حماس” في قطاع غزة، وسواء تحقق هذا الهدف أو لا، فإنّ إعادة إعمار القطاع في أعقاب انتهاء الحرب الجارية ستظل مسألة معقدة وحساسة، وستتأثر بكثير من العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية. ولذا، لا يوجد سيناريو واحد محدد لكيفية تنفيذها، وقد تستغرق المنظمات الدولية والأممية عدة شهور قد تصل إلى سنة تبعًا لأكثر التحليلات تفاؤلًا وما يتراوح بين العقد والعقد ونصف وفقًا لأكثر التحليلات تشاؤمًا لتلبية متطلبات تلك العملية. إذ يجب إزالة كميات هائلة من الأنقاض، ولا يتضح أين سيعيش الشعب الفلسطيني أثناء إعادة الإعمار، هذا إن تدفقت مواد البناء والوقود إلى القطاع دون عراقيل إسرائيلية.