واجهت القضية الفلسطينية منعطفًا خطيرًا وغير مسبوق منذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، والتي ردت عليها إسرائيل بإعلان الحرب على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس عسكريًا وسياسيًا. لم تمثل هذه الأحداث تحديًا للقضية الفلسطينية فحسب؛ بل للدور المصري، ولا سيما مع ارتباط غزة بالأمن القومي المصري المباشر وسيادته على شبه جزيرة سيناء. وعليه، فقد تطلب الوضع من مصر رسم سياسات تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية في إطار مبدأ حل الدولتين الذي يمثل محدِّدًا ثابتًا في السياسة الخارجية المصرية ومحددات أمنها القومي.
تحديات ما بعد 7 أكتوبر
خلّفت أحداث السابع من أكتوبر العام الماضي جملةً من التحديات أمام القضية الفلسطينية والدور المصري تجاه الشعب الفلسطيني، ويمكن تقديرها على النحو التالي:
- عزل قطاع غزة وتفتيت الأراضي الفلسطينية: طالما كان أساس مبدأ حل الدولتين أن يتم إقامة دولة فلسطينية ذات ارتباط جغرافي وديموغرافي واحد يجمع أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة تحت مظلة حكم فلسطيني واحدة لا تنفصل. لكن بعد إعلان إسرائيل الحرب على غزة واعتزامها القضاء على حماس، اتفقت محددات الرؤية الإسرائيلية المبدئية على أن قطاع غزة لن يعود كما كان، بل إنه سيقع تحت ترتيبات أمنية إسرائيلية مشددة تجعل من الصعوبة أن يتم ربط القطاع بالضفة الغربية. لذا، تعمل إسرائيل على عزل القطاع عن ترتيبات الحكم الموجودة حاليًا في الضفة الغربية التي تتم بالتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي. وأن يتم اقتراح (ضمن ما يُعرف بسيناريوهات اليوم التالي) إقامة حكم ذاتي إما بالتعاون مع الدول العربية تحت مظلة الجامعة العربية، أو تحت إدارة حكومة فلسطينية محلية يتم تشكيلها بواسطة رجال أعمال وكبار عشائر فلسطينية في غزة.
- عدم وجود دور واضح للسلطة الفلسطينية في غزة: وفق لوائح منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية فإن الممثل الشرعي والوحيد للشعب والفصائل الفلسطينية هو منظمة التحرير. لكن في واقع الأمر فإن إسرائيل عملت منذ عقود مضت، ولا تزال منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر، على إضعاف السلطة الفلسطينية على كل المستويات، سياسيًا وأمنيًا وتمويليًا واجتماعيًا، بالإضافة إلى مجهودات إسرائيلية غير مسبوقة تقوم على رفض وجود أي دور مستقبلي للسلطة الفلسطينية في غزة، وتقليص دورها الأمني في الضفة الغربية. يتضح ذلك جليًا في ملف أزمة الأموال الضريبية، حيث تمتنع إسرائيل عن تسليم ملايين الدولارات إلى السلطة الفلسطينية بعد جباية الضرائب، بحجة أنه يتم تسليم الأموال إلى عناصر المقاومة في الضفة وغزة. كما تتفاقم الأزمة بسبب إصرار إسرائيل على موقفها الرافض لوجود السلطة الفلسطينية في غزة ضمن سيناريوهات اليوم التالي.
- اختزال القضية الفلسطينية في الدور الإنساني فقط: تعتمد إسرائيل في الوقت الراهن على تحييد الآفاق السياسية لمستقبل القضية الفلسطينية، وقصرها فقط على الأدوار والخطط الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، وبالتحديد تجاه أهالي غزة، حيث يواجهون كارثة إنسانية غير مسبوقة. وتقتصر جميع الجهود الدولية على المبادرة بالدور الإنساني فقط دون سواه من خلال اقتراح فتح ممرات إنسانية أو إقامة موانئ عائمة لإنفاذ المساعدات، وهو ما يصب في صالح الخطة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني.
- تراجع مفهوم حل الدولتين: رغم أن الخطاب السياسي لعدد من العواصم الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يميل إلى تبني مبدأ حل الدولتين في إطار إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح يتم الاعتراف بها من جانب أحادي فقط؛ إلا أن الثوابت الواضحة لمفهوم حل الدولتين في تراجع ملحوظ، ويغيب عنها الاعتراف بالعاصمة وهي القدس الشرقية، أو الاعتراف بحدودها الرسمية وفق المقررات الأممية الشرعية. يعود ذلك إلى عدة عوامل من بينها، الانجراف الشعبي الإسرائيلي إلى اليمين المتطرف خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر، إذ ذهبت نتائج استطلاعات الرأي الإسرائيلية طيلة الشهور الماضية إلى رفض حل الدولتين ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة.
السياسة المصرية
عملت مصر على تطوير مجموعة من السياسات تجاه القضية الفلسطينية بعد أحداث غزة الأخيرة من أبرزها ما يلي:
– منع تصفية القضية الفلسطينية: استقرأت مصر منذ اللحظات الأولى على إعلان إسرائيل الحرب على غزة والقضاء على حماس، أنها محاولة من حكومة نتنياهو الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية. لذلك، سعت مصر إلى رفض سياسة العقاب الجماعي، ومنع التهجير القسري للفلسطينيين إلى أراضي سيناء للحيلولة دون خلق نكبة ثانية تقوم على تصفية الشعب الفلسطيني باعتباره الذخر الاستراتيجي للقضية. كما عملت مصر على المبادأة بتقديم وساطة عبر القنوات السياسية والأمنية لوقف الحرب في غزة، واعتبارها جريمة ضد الشعب الفلسطيني في القطاع. دفعت مصر وساطتها إلى إسرائيل وحركة حماس لعقد صفقة إفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس مقابل وقف إطلاق النار، ونجحت بذلك في عقد هدنة إنسانية مؤقتة.
– تطوير عمل عربي مشترك: حرصت مصر على توحيد الموقف العربي، خاصة بين دول السعودية والإمارات والأردن وقطر، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية؛ بهدف تفويت الفرصة على إسرائيل بالذهاب في خطط تقضي بتصفية القضية الفلسطينية، مثل وضع قوات دولية أو قوات إسرائيلية في قطاع غزة، أو تحييد دور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة. بالإضافة إلى تفويت الفرصة على إسرائيل لخلق موقف متعارض بين مصر وقطر في جهود الوساطة في مفاوضات الإفراج عن المحتجزين وعقد الهدن الإنسانية في غزة. كما تستهدف مصر من خلال توحيد الموقف العربي الذهاب إلى خلق مناخ سياسي مستقر بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في إطار مبدأ حل الدولتين.
– توحيد الصفّ الفلسطيني: على خلفية محاولات إسرائيل تحييد أي دور للسلطة الفلسطينية في ترتيبات اليوم التالي في قطاع غزة، تسعى مصر جاهدة لخلق مناخ وأفق سياسي مستقر للشعب الفلسطيني في إطار المصالحة بين فتح وحماس، بهدف تطوير عمل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية سواء في الضفة أو غزة.
– تطوير العملية الإنسانية في غزة: تحاول مصر منع وقوع كارثة إنسانية في قطاع غزة بسبب احتلال إسرائيل للجزء الفلسطيني من معبر رفح . فبالاضافة إلى اعتبار مطار العريش شمالي سيناء نقطة استقبال مركزية للمساعدات التي يتم إرسالها إلى مصر من جميع دول العالم تقريبًا، عملت مصر على فتح مسار جديد يربط مصر بقطاع غزة من خلال معبري العوجة وكرم أبو سالم لزيادة كميات القوافل النافذة إلى القطاع. ووحدت مصر أيضًا جهودها بالتعاون مع الأردن والإمارات والولايات المتحدة في تنفيذ عمليات إنزال جوي للمساعدات على قطاع غزة، وبالتحديد في منطقة شمال غزة التي يقبع بها أكثر من 300 ألف فلسطيني يواجهون خطر المجاعة.
ختامًا، إن القضية الفلسطينية تواجه تحديات حرجة دفعت مصر إلى تطوير مجموعة من السياسات الجديدة تجاه القضية الفلسطينية كان من أهمها منع تصفية القضية، وإحباط المخططات الإسرائيلية الساعية لإبادة الشعب الفلسطيني إما عن طريق الحرب أو تهجيرهم في نكبة جديدة إلى أراضي دول أخرى.