الطريق إلى إعمار قطاع غزة ليس ممهدًا وإنما مصاب بكثير من العقبات النابعة من التاريخ والجغرافيا الخاصة بالقطاع من ناحية، والواقع الحالي للصراع الذي لا يزال قابلًا للتصعيد وامتداد الحرب الحالية في غزة إلى آفاق إقليمية واسعة من ناحية أخرى.
لكن ذلك لن يكون ممكنًا من الزاوية العملية ما لم يتم التغلب على الحرب الحالية والوصول بها ليس فقط إلى وقف إطلاق النار، وإنما إلى ما هو أكثر من ذلك، مجسدًا في إدارة فلسطينية فاعلة، وسريان مشروع للسلام يؤكد على أن تدمير غزة لن يتم مرة أخرى، كما حدث سواء في الحرب الحالية أو في الحروب السابقة.
كل ذلك يأتي في إطار الحديث عما يُسمى وقائع “اليوم التالي”. لكن الواقع الحالي -وقت إعداد هذا المقال- هو أن مسار التفكير في الحرب لا يزال يجري في “اليوم الأول” الذي جرت فيه غزوة “غلاف غزة”، وما تبعها من الغزوة الجوية ثم البرية الإسرائيلية التي أنتجت ما يشبه “النكبة” الفلسطينية الأولى من نزوح الشعب الفلسطيني عن دياره، مع التدمير الواسع النطاق للبنية الأساسية والسكانية الفلسطينية في القطاع. كذلك، انتهز المستوطنون في الضفة الغربية الفرصة لقتل مئات الفلسطينيين، وطردهم من قراهم في الضفة الغربية. الجهود السائدة خلال الشهور الأولى للحرب بحثت فيما إذا كان ممكنًا تحسين الأحوال، من خلال إتاحة لحظات من الهدوء للقيام بأعمال الإغاثة والدعم الإنساني.
حالة الحرب الإقليمية
لا يقل أهمية عن كل ما سبق أن هنالك جهودًا سياسية ودبلوماسية تسير في اتجاه منع الحرب في غزة من التحول إلى حرب إقليمية شاملة تتورط فيها أطراف مسلحة لديها من الكراهية ما يكفي لحرب طويلة. والحقيقة أن هناك أربع مجموعات من الحروب والصدامات العسكرية أو العنف عامة في الشرق الأوسط.
أوّلها، بقايا “الربيع العربي”، أي تلك الحروب الأهلية الصريحة والعلنية أحيانًا، والساكنة في أحيان أخرى. المشهد هنا يظهر صريحًا في الحالات السورية واليمنية، حيث يوجد الصراع بين حكومة “شرعية”، بمعنى تلك الحكومة التي تمثل الدولة في الأمم المتحدة، وقسم آخر يمثل شرعية “الثورة” أو “الانقلاب” أو “مليشيات” متمردة. وهذه الحال توجد أيضًا في ليبيا والسودان، حيث إن الحرب تصعد وتهبط بصورة شبه موسمية، وتتلامس فيها الإرادات الداخلية مع أخرى خارجية.
ثانيها، مجمع أكثر الحروب شهرة في النظامين الإقليمي والدولي، والتي بدأ أوارها وسعيرها مع هجوم حركة حماس على غلاف غزة في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وما أعقبه من هجوم إسرائيلي ساحق على كل غزة، وما صاحبه من هجمات للضبط والمقاومة بين إسرائيل والضفة الغربية، وحرب محدودة ومحكومة ومحسوبة -أو هكذا يُقال- على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية، وأخرى على الجبهة السورية الإسرائيلية. هذه حرب تستخدم فيها الصواريخ والمسيرات، وتجري فيها الاغتيالات للقيادات، والجيش النظامي الوحيد فيها هو الجيش الإسرائيلي، أما ما عدا ذلك فهي مليشيات حزب الله اللبناني، وحماس في سوريا ولبنان. وبينما كل هذه الحروب على “البر”، فإن حرب جماعة “أنصار الله” الحوثي في اليمن تجري في البر والبحر، وهي منشغلة بحرب أهلية داخل اليمن، وأخرى دولية مع أساطيل “الازدهار” التي جيشتها الولايات المتحدة وبريطانيا مع أربعين دولة أخرى.
تلك الحرب تتشارك مع حرب غزة في أنها تؤدي إلى إعاقة الملاحة والتجارة الدولية وفرض الحصار على قناة السويس المصرية. ويتداخل مع هذا المجمع حرب إقليمية ودولية أخرى تشنها قوات “الحشد الشعبي” الشيعية العراقية على قواعد الولايات المتحدة في العراق وسوريا، مما أدى إلى قيام الولايات المتحدة بضرب هذه المليشيات، وهو ما قاد إلى احتجاج الحكومة العراقية نظرًا لأن هذا القصف اعتبر اعتداءً على السيادة العراقية.
ثالثها، أنّ هناك مجمعًا آخر للحروب الإقليمية تقوده إيران التي تورد السلاح والأموال والتدريب والولاء لمعسكر واسع تحت اسم “المقاومة والممانعة”. المقاومة هنا ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، أما الممانعة فهي منع كل محاولات السلام والتطبيع والبحث عن الاستقرار الإقليمي طالما لم تحل “القضية الفلسطينية”. لكن ذلك لا يمنع، على الأقل حتى الآن، من ممارسة إيران ذاتها عمليات عسكرية، حيث قامت بضرب موقع للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) في أربيل (الإقليم الكردي في العراق)، مما أدى -لأول مرة- إلى احتجاج الحكومة العراقية التي اعتبرت ذلك اعتداء على السيادة العراقية، خاصة بعد ثبوت كذب صريح وهو وجود الموساد.
إيران أيضًا قامت بعملية عسكرية طالت “باكستان”، عندما قامت بقصف موقعين لمليشيا “جيش العدل” في إقليم بالوشستان الممتد بين إيران وباكستان، مما حدا بالأخيرة لوصف الهجوم الإيراني بأنه “عمل غير شرعي” سقط فيه مدنيون ويؤدي إلى “نتائج وخيمة”، وهو ما تأكد عندما قامت باكستان بعمليتين عسكريتين في الأراضي الإيرانية. تركيا هي الأخرى تجري حروبها الخاصة ضد حزب العمال الكردي، حيث تحتل من أجل ذلك منطقة شمال سوريا وتقيم قواعد عسكرية مستدامة في العراق.
رابعها، أن الشرق الأوسط لم يكن ساكنًا أو خاليًا خلال العقود الأخيرة من العنف الذي تقوم به جماعات الإسلام “السياسي” تحت رايات “القاعدة” و”داعش”، وأخرى يذكر فيها اسم الله؛ ولكن الفعل يكون دائمًا ممتدًا في ساحة واسعة ممتدة من باكستان شرقًا إلى الصحراء الأفريقية غربًا، ومن “إدلب” السورية” إلى ساحل القرن الأفريقي حيث تنظيم “الشباب” الصومالي.
إعمار “اليوم التالي”
الحالة الإقليمية هكذا أكثر تعقيدًا من أن تكون متعلقة فقط بالقضية الفلسطينية وحدها، أو أنها ترتبط فقط بحرب غزة الحالية، لذا فإنه ربما لن يكون مستبعدًا أن يكون موضوع “إعمار غزة” جزءًا من عملية شاملة للإعمار في الشرق الأوسط، أي يقام فيه قبل الإعمار نظام “أمن إقليمي” شامل يكفل استدامة التعمير والبناء، كما حدث في “مشروع مارشال” الذي قام بتعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
مع ذلك، تجدر الإشارة هنا إلى أنه قد جرت محاولات سابقة لإعمار غزة خلال العقود الماضية وفي أعقاب الحروب السابقة التي جرت في القطاع، والتي كان آخرها المحاولة الشاملة المصرية التي تدخلت بموازنة قدرها نصف مليار دولار في أعقاب حرب غزة السابقة.
هنا، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن أفق إعمار غزة مطروح في إطار تسوية الأزمة الراهنة، والتي طرحت مصر مبادرة بشأنها تقوم على ثلاث مراحل: الأولى تتعلق بوقف إطلاق النار وعودة النازحين إلى أماكنهم وتبادل الأسرى والرهائن. والثانية إقامة حكومة فلسطينية موحدة بين الضفة والقطاع، وتكون ذات طبيعة تكنوقراطية تحوي جميع القوى الوطنية الفلسطينية وتقوم على عمليات إصلاحية شاملة في السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. والثالثة يجري فيها قيام سلام عربي إسرائيلي شامل تتم فيه عمليات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل خاصة المملكة العربية السعودية، وفي داخل عملية السلام هذه يجري استئناف عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية بهدف التوصل إلى حل يقوم على وجود دولتين إحداهما إسرائيلية والأخرى فلسطينية تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام.
ويقع ضمن هذا الإطار تعمير غزة، بحيث يكون هذا الإعمار جزءًا من الجائزة التي يحصل عليها الفلسطينيون في عملية السلام، وهو إعمار مقدر له تكلفة قد تصل إلى خمسين مليار دولار ينتظر تقديمها من مصادر دولية وإقليمية. سوف يكون مستحبًا في هذا الإطار، وفق توقيتات مناسبة، أن تعلن مصر عن محاولتها السابقة لتعمير غزة. وفضلًا عن الدروس المستفادة من تلك التجربة، فإن معرفة العقبات التي واجهتها سوف تكون مفيدة في عمليات التعمير المقبلة إذا ما قدر لها الحدوث.