تسببت الحرب المستمرة في قطاع غزة التي دخلت شهرها الثامن في قتل عشرات الآلاف من المدنيين نتيجة انتهاج الحكومة الإسرائيلية سياسات العقاب الجماعي، والحصار، والتهجير القسري؛ الأمر الذي دفع العديد من القوى الدولية للعمل على الوقف الفوري لإطلاق النار، لضمان وصول المساعدات بشكل مستدام للحد من تفاقم الوضع الإنساني في القطاع، والتوصل لاتفاق بشأن تبادل المحتجزين، والسعي إلى إعادة إحياء عملية السلام في المنطقة. فضلًا عن احتواء تبعات الحرب التي أثارت الاضطرابات في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، وأدت إلى تنامي فرص المواجهات المباشرة بين إسرائيل وإيران بعد أن كانت مقصورة على “حرب الوكلاء”.
تزامن ذلك مع توجّه بعض الدول الأوروبية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، إذ صرح مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” في التاسع والعشرين من أبريل 2024 على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي المُنعقد في “الرياض”، بأنه من المُتوقع أن تعترف عدة دول أوروبية بالدولة الفلسطينية بحلول نهاية شهر مايو، دون الإعلان عن هذه الدول.
كما سبق وطرح “شارل ميشيل” رئيس المجلس الأوروبي في الشهر نفسه أن يكون هناك تنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المُستعدة للاعتراف رسميًا بدولة فلسطينية ذات سيادة، مُقترحًا انضمام الدول ذات التفكير المماثل من خارج التكتل إلى هذه المبادرة. تأتي هذه التصريحات في سياق التحركات الإسبانية الداعمة للاعتراف، باعتبارها من أولويات الحكومة الحالية برئاسة السيد “بيدرو سانشيز”، ومصلحة جيوسياسية لأوروبا.
تحركات نحو الاعتراف
يأتي التوجه الإسباني في الوقت الذي بلغ فيه عدد الدول التي اعترفت بفلسطين أكثر من 139 دولة من إجمالي 193 دولة عضوًا بالأمم المتحدة، منهم تسع دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي -أي ما يمثل نحو ثلث دول التكتل- وهم: (بلغاريا، وقبرص، ومالطا، وبولندا، وجمهورية التشيك، ورومانيا، وسلوفاكيا، والمجر، والسويد)، إذ تحركت هذه الدول -باستثناء السويد التي اعترفت مُنفردة في عام 2014- للاعتراف بفلسطين قبل انضمامهم للتكتل. جاء ذلك بعد إعلان السيد “ياسر عرفات” زعيم منظمة التحرير الفلسطينية في الخامس والعشرين من نوفمبر 1988، للمرة الأولى في كلمته في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني المُنعقد -آنذاك- في الجزائر، إنشاء دولة فلسطينية، وتبني مبدأ حل الدولتين، وقرار الأمم المتحدة رقم (242) على أساس حدود 1967.
كما أصبحت مسألة الاعتراف إحدى أولويات الحكومة الإسبانية، حيث أكد السيد “سانشيز” في خطابه أمام مجلس النواب قبل التصويت على تنصيبه في الخامس عشر من نوفمبر2023: “إن التزام الأول للسلطة التشريعية هو أن الحكومة الجديدة ستعمل في أوروبا وبالطبع في إسبانيا للاعتراف بالدولة الفلسطينية”، وهو ما تجلى فيما يلي:
- اتجاه مُعلن: كثفت الحكومة الإسبانية جهودها نحو الاعتراف بفلسطين، سواء كان على مستوى التصريحات أو التحركات لحث الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الاعتراف الجماعي، مُشيرة إلى أنها لم تعد تستبعد القيام بهذه الخطوة مُنفردة. وأوضح السيد “سانشيز” أمام مجلس النواب الإسباني، في العاشر من أبريل 2024، أن: “المجتمع الدولي لن يتمكن من مساعدة الدولة الفلسطينية إذا لم تعترف بوجودها أولًا”، مُضيفًا أن ذلك يأتي في إطار “المصلحة الجيوسياسية لأوروبا”، وأكد على أن “إسبانيا مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية“.
علاوةً على ذلك فقد طالبت حكومته بوقف إطلاق النار منذ بداية الحرب في غزة، وعقد مؤتمر دولي للسلام، هذا بجانب دفاعها عن مبدأ حل الدولتين. كما قال رئيس الوزراء الإسباني، في التاسع من مارس 2024، خلال مؤتمر حقوقي في مدينة “بلباو” إنه: “سيقترح منح اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية”، “من منطلق قناعة أخلاقية، ومن أجل قضية عادلة، ولأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للدولتين، إسرائيل وفلسطين، أن تعيشا معًا في سلام”. مُوضحًا أنه سيقترح أن يعترف البرلمان الإسباني بالدولة الفلسطينية.
- استعداد رُباعي: تعاون رئيس الحكومة الإسبانية مع الدول ذات التوجه المماثل وهي: أيرلندا، ومالطا، وسلوفينيا، لإصدار بيان رباعي في الثاني والعشرين من مارس 2024، على هامش قمة المجلس الأوروبي في بروكسل، بشأن تبادل وجهات النظر حول الوضع في غزة والشرق الأوسط، ولمناقشة استعداد الدول الأربع للاعتراف بفلسطين. في المقابل، انتقدت إسرائيل البيان الصادر من قبل رؤساء وزراء إسبانيا، وأيرلندا، وسلوفينيا، ومالطا حول مسألة الاعتراف، فيما وصف “ليور حيات” المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية على منصة “إكس” بأن هذه الخطوة ستكون بمثابة “مكافأة للإرهاب”.
- تضامن مُوجَّه: سعى السيد “سانشيز” خلال جولاته للشرق الأوسط لأن يوضح موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، وتمثل ذلك خلال زيارته لمعبر “رفح” بصحبة نظيره البلجيكي –الذي يترأس مجلس الاتحاد الأوروبي الآن- في الرابع والعشرين من نوفمبر 2023، داعيًا إلى “اعتراف المجتمع الدولي وإسرائيل بدولة فلسطين”، مُعتبرًا أن “قتل المدنيين الأبرياء بدون تمييز في غزة غير مقبول على الإطلاق”، مُصرًا على أن تكون إسرائيل أول من يتخذ “نهجًا شاملًا” لحل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني المستمر منذ عقود بما “يشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية”. وهو ما اعترضت عليه إسرائيل وأثار غضبها وتم بموجبه استدعاء السفير الإسباني. كما أعلن عن استعداده للاعتراف، خلال جولته الثانية التي شملت الأردن، والسعودية، وقطر بحلول نهاية يونيو المُقبل.
- ترويج أوروبي: عمل رئيس الوزراء على حث الدول الأوروبية على الاعتراف بفلسطين بشكل جماعي، حيث قام –على سبيل المثال- بزيارة لأيرلندا والنرويج خلال شهر أبريل أسفر عنها توقيع إعلان مشترك أعربت فيه النرويج وإسبانيا عن “استعدادهما” للاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما تساهم بشكل إيجابي في عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين. ويُذكر أن النرويج تُعتبر من القوى الدولية الفاعلة في تسوية الصراع تاريخيًا وهو ما تُوج بـ”اتفاقيات أوسلو“، فضلًا عن تولي النرويج لجنة الاتصال المخصصة. كما تبنى البرلمان النرويجي، في نوفمبر الماضي، اقتراحًا حكوميًا يقضي بأن تكون البلاد مستعدة للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة.
فيما أوضح رئيس الوزراء الأيرلندي لنظيره الإسباني خلال اجتماعهما أنهم سيواصلون العمل مع مدريد للدفع نحو عملية سياسية من شأنها أن تحقق سلامًا دائمًا وعادلًا في المنطقة. وفي هذا السياق، أكد السيد “سانشيز” أن إسبانيا ستدعم أيضًا انضمام فلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، ودعا مرة أخرى إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في أقرب وقت ممكن بحسب موقع الحكومة الإسبانية.
ويُذكر أن فلسطين تتمتع بوضع “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة، منذ التاسع والعشرين من نوفمبر 2012، بعد التصويت بأغلبية بلغت نحو 138 صوتًا مقابل 9 أصوات وهي: (كندا، جمهورية التشيك، إسرائيل، جزر مارشال، ميكرونيزيا، ناورو، بنما، بالاو، الولايات المتحدة)، مع امتناع 41 عضوًا عن التصويت.
دعم متواصل
يعتبر هذا الموقف جزءًا لا يتجزأ من النهج الإسباني تجاه الحرب في غزة منذ اندلاعها في أكتوبر الماضي، فقد كانت مدريد في مُقدمة الدول الأوروبية الداعمة للفلسطينيين، والمطالبة بوقف إطلاق النار الإنساني. وبالرغم من إدانتها لأحداث السابع من أكتوبر، وإيضاحها أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، ومطالبتها بالإفراج عن المحتجزين؛ إلا أنها تعتبر قتل المدنيين أمرًا غير مقبول، داعيةً تل أبيب إلى احترام القانون الدولي الإنساني. وتمثل ذلك فيما يلي:
- الدفاع عن المدنيين ورفض قتل الأبرياء: طالبت إسبانيا بأهمية وقف إطلاق النار في القطاع لإدخال المساعدات الإنسانية، وانتقدت قتل المدنيين، وسعت للحصول على توافق أوروبي حول عقد مؤتمر للسلام، خلال رئاستها مجلس الاتحاد الأوروبي. فيما اقترحت السيدة “إيواني بيلارا” وزيرة الحقوق الاجتماعية، بعد نحو أسبوع من اندلاع الحرب على الحكومة الإسبانية، أن تقدم “نتنياهو” أمام المحكمة الجنائية الدولية لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وقد توافق معها وزراء في الحكومة، وهم: “إيرين مونتيرو” و”ألبرتو جارزون”.
كما دعت السيدة “بيلارا” القوى الأوروبية لقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، في السادس والعشرين من أكتوبر. وقبيل التصويت على حكومته المقترحة طالب السيد “سانشيز” أمام البرلمان الإسباني، بالإفراج الفوري عن المحتجزين لدى حركة “حماس”، ووقف إطلاق النار، ورفض القتل العشوائي للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
كما رهن مجلس مدينة برشلونة عودة العلاقات مع تل أبيب بعد قطعها بشكل كامل في الخامس والعشرين من نوفمبر بوقف إطلاق النار. في المقابل، رفض اتحاد الجاليات اليهودية في إسبانيا والجالية اليهودية في برشلونة القرار، وأعلنوا في بيان: “يدين اتحاد الجاليات اليهودية في إسبانيا والجالية اليهودية في برشلونة، معاداة السامية، وانعدام التعاطف الذي يعاني منه الجميع”. فيما يتعلق بدعم الولايات المتحدة لإسرائيل، فقد اتهمت السيدة “إيرين مونتيرو” وزيرة المساواة، واشنطن بـ”التواطؤ” مع “جرائم الحرب” التي ترتكبها تل أبيب في القطاع.
كما منحت الحكومة الإسبانية الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” في السابع من نوفمبر الماضي، وسام “كارلوس الثالث”، تقديرًا لدوره في “الدفاع عن حقوق المدنيين الفلسطينيين”، والذي عرّضه لمزيد من الانتقادات من قبل إسرائيل. وصرح السيد “سانشيز” خلال مقابلته مع قناة TVE الإسبانية، في الثلاثين من نوفمبر 2023، بأن: “اللقطات التي نشاهدها والأعداد المتزايدة من الأطفال الذين يموتون، تجعل لديّ شكًا جديًا في أن (إسرائيل) تلتزم بالقانون الإنساني الدولي”. وعليه، فقد استدعت إسرائيل السفير الإسباني للمرة الثانية في الشهر نفسه بشأن تصريحات رئيس الوزراء.
كما حذر وزير الخارجية الإسباني “خوسيه مانويل ألباريس” على منصة “إكس” من امتداد العمليات العسكرية لتشمل رفح، الأمر الذي يُهدد حياة أكثر من مليون لاجئ في المنطقة، ويزيد من الكارثة الإنسانية، مُطالبًا بـ”وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الرهائن، واحترام القانون الإنساني الدولي، ودخول المساعدات”.
هذا بجانب خروج المظاهرات المطالبة بوقف الحرب، والتي شارك فيها -على سبيل المثال- ستة وزراء من الحكومة، خمسة منهم ينتمون إلى حزب “سومر” اليساري، وآخر من الحزب الاشتراكي، في السابع عشر من فبراير 2024.
- استمرار دعم وكالة الأونروا: عارضت مدريد قرار الاتحاد الأوروبي بشأن تعليق المساعدات للفلسطينيين، فضلًا عن استمرار تمويلها للأونروا في الوقت الذي أوقفت فيه العديد من الدول الغربية تمويلها على خلفية الاتهامات الإسرائيلية بشأن ضلوع بعض موظّفي الوكالة في هجوم السابع من أكتوبر، إذ أعلنت الحكومة في الخامس من فبراير عن تمويل إضافي طارئ بقيمة 3.8 ملايين دولار للوكالة، لتعزيز قدراتها على العمل، بالتوازي مع خفض التمويل الموجه لها من قبل المانحين.
وأوضح وزير الخارجية الإسباني أن المزاعم الإسرائيلية بأن موظفي الأونروا شاركوا في هجمات 7 أكتوبر تتعلق فقط بما يقرب من “عشرة من بين ما يقرب من 30 ألف عامل”. فيما وصف السيد “بابلو بوستندوي” وزير الشؤون الاجتماعية، والمنتمي إلى حزب “سومر” تعليق المساعدات بأنه “عملية عقاب جماعي غير مبررة تجاه الشعب الفلسطيني”. وفي سياق الدعم الإسباني للوكالة، فقد تم منح السيد “فيليب لازاريني” المفوض العام لـ”الأونروا” وسام “إيزابيلا الكاثوليكية الملكي” من قبل السيد “ألباريس”، في التاسع عشر من أبريل، تقديرًا للدور الحاسم الذي تلعبه الوكالة في غزة والمنطقة.
- دعم قرارات محكمة العدل الدولية: كانت مدريد من الدول التي رحبت بالقرار الصادر في السادس والعشرين من يناير 2024، من محكة العدل الدولية، القاضي بـ”ضرورة أن تتخذ إسرائيل كل ما بوسعها لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة”، بموجب الدعوة المُقدمة من جنوب أفريقيا التي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في القطاع. إذ كتب رئيس الوزراء على منصة “إكس”: “نرحب بقرار محكمة العدل الدولية ونطلب من الأطراف تطبيق الإجراءات المؤقتة التي أصدرتها”، مُضيفًا: “سنواصل الدعوة إلى السلام وإنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن والحصول على المساعدات الإنسانية وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل حتى يتعايش البلدان في سلام وأمن”.
- حظر بيع السلاح لإسرائيل: منذ بداية الحرب قامت إسبانيا بوقف بيع الأسلحة إلى إسرائيل، وهو ما أكده وزير الخارجية في الخامس من ديسمبر الماضي أمام البرلمان، وفي الثالث والعشرين من يناير 2024، مُفسرًا عدم ترويج إسبانيا لـ”الحظر الشامل للأسلحة لإسرائيل”، قائلًا: “بالطبع، هذا شيء فعلته إسبانيا”. وبرغم ذلك فقد صدّرت مدريد ذخيرة بحوالي 987 ألف يورو إلى تل أبيب، وذلك على خلفية التراخيص المصرح بها قبل السابع من أكتوبر، وفقًا لما نشرته “إل ديارو” الإسبانية. وهذا ليست المرة الأولى التي تقوم فيها إسبانيا بهذه الخطوة، فقد قررت في أغسطس 2014، وقف بيع المعدات العسكرية لإسرائيل مُؤقتًا، نظرًا للحرب في غزة. ومن الجدير بالذكر، أن إسبانيا لديها بروتوكول قانوني مُوحد بموجبه يتم تجميد مبيعات السلاح مُوقتًا إلى المناطق التي تندلع فيها النزاعات.
محددات حاكمة
يرجع الموقف الإسباني الراهن من الحرب في غزة إلى مجموعة من المحددات المؤثرة على مسار التوجه، بعضها مرتبط بالعلاقات التاريخية للبلاد مع إسرائيل، والأخرى ذات صلة بالرغبة في تسوية الصراع المستمر منذ عقود في المنطقة، فضلًا عن المحددات المتصلة بمقتضيات الوقت الراهن وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
- إرث تاريخي: ساهم التقارب الجغرافي والعزلة الدولية التي فرضت على مدريد خلال فترة حكم الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” التي امتدت من عام 1939 وحتى عام 1975 في توجه إسبانيا نحو المنطقة العربية، ومحاولة لعب دور محوري في قضاياها، مثل: القضية الفلسطينية، وذلك في ضوء توتر العلاقات مع إسرائيل نتيجة اعتراضها على انضمام مدريد للأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية على خلفية علاقاتها بألمانيا النازية في عهد “فرانكو”، الأمر الذي انعكس على تأخر اعتراف مدريد بوجود تل أبيب حتى عام 1986، والذي تزامن مع انضمام مدريد إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبعد نحو ست سنوات من انضمامها لحلف شمال الأطلسي.
في المقابل، عززت مدريد علاقاتها بفلسطين في سياق سياساتها نحو المنطقة، حيث قام الرئيس “أدولفو سواريز” باستقبال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1979، وفقًا لـ Elpais. بجانب استضافة مدريد مؤتمر السلام عام 1991، في عهد الرئيس الاشتراكي “فيليبي جونزاليس” والذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، بحضور كافة أطراف الصراع مع إسرائيل.
وفيما يتعلق برفض إسبانيا استخدام إسرائيل للقوة، فقد سبق وأن انتقدت مدريد الاستخدام المُفرط للقوة ضد اللبنانيين خلال حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل. أما موقفها من المستوطنات الإسرائيلية، فقد كانت مدريد رافضةً لهذا النهج لأنها تعتبر المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتُشكل عقبة أمام إمكانية تحقيق حل الدولتين، لذلك فقد أدانت الحكومة الإسبانية -على سبيل المثال- في نوفمبر 2016، قرار الحكومة الإسرائيلية بالموافقة على تراخيص بناء 181 منزلًا في إحدى المستوطنات في القدس الشرقية، كما حثت الحكومة على التراجع عن القرار. وخلال الحرب الراهنة أدانت وزارة الخارجية الإسبانية في التاسع عشر من مارس 2024، اعتزام الحكومة الإسرائيلية توسيع مستوطناتها في الضفة الغربية، وقالت الوزارة إن إسبانيا: “تدين بشدة الموافقة على خطط توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ندعو إسرائيل إلى التراجع عن هذا الإجراء”.
كما سبق ووافق البرلمان الإسباني على مشروع قانون غير مُلزم حصل على تأييد 319 صوتًا مقابل امتناع صوت واحد، ورفض صوتين، يدعو حكومة رئيس الوزراء “ماريانو راخوي” السابقة بالاعتراف بفلسطين -دون تحديد وقت معين- في نوفمبر 2014. وعليه فقد كانت مدريد الدولة الثالثة –في حينها- بعد لندن ووارسو تقوم بهذه الخطوة التي تحمل في طياتها دلالات سياسية تستهدف تسوية الصراع والدفع نحو إرساء السلام في المنطقة.
- مناورة سياسية: قد يرجع أحد المحددات المُحتملة التي دفعت رئيس الوزراء “بيدرو سانشيز” إلى الاستمرار في دعم القضية الفلسطينية، واتخاذ موقف حاسم تجاه إسرائيل خلال الحرب الأخيرة، إلى تزامن الحرب مع رئاسة إسبانيا لمجلس الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن محاولة توظيف الوضع الراهن لكسر حالة الجمود السياسي التي شهدتها البلاد منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في الثالث والعشرين من يوليو 2023، على خلفية فشل الحزب الشعبي المنتمي إلى يمين الوسط في تشكيل الحكومة بعد فوزه في الانتخابات التي جاء فيها الحزب العمال الاشتراكي في المركز الثاني. إذ تم منح السيد “سانشيز” مهلة حتى السابع والعشرين من نوفمبر لتشكيل الحكومة، على أن يتم إعادة إجراء الانتخابات البرلمانية من جديد في الرابع عشر من يناير 2024 في حالة فشله في تكوين ائتلاف حكومي يضمن له الأغلبية البرلمانية.
وهو ما دفعه لتعزيز علاقاته مع قوى أقصى اليسار من حزب “سومر” الداعم للقضية الفلسطينية، وأيضًا التوافق مع الحزب الانفصالي “معًا من أجل كاتالونيا” برئاسة “كارلس بيجديمونت”، بموجب العفو عن الانفصاليين. وعليه فقد تمكن في السادس عشر من نوفمبر من الحصول على ثقة البرلمان بعد تصويت 179 نائبًا لصالحه، بعد ضمان أصوات الحزب الكاتالوني السبعة في البرلمان.
وبرغم أن الحرب قد أحيت الموقف الإسباني الداعم لتسوية الصراع، حيث شارك السيد “سانشيز” في قمة القاهرة للسلام باعتبارها أول خطوة نحو تحقيق السلام في المنطقة، إلا أن تزامنها مع تعقيدات المشهد السياسي الإسباني -في حينها- من المُرجح أنه لعب دورًا في تقارب الاشتراكيين مع حزب “سومر”، على خلفية توافقهم بشأن الحرب والاعتراف بفلسطين، فضلًا عن احتمالية أن يكون موقف مدريد من طرفي الحرب قد ساهم في صرف انتباه الرأي العام الإسباني عن اتفاق العفو الذي منحه السيد “سانشيز” للانفصاليين الذي يواجهون موقفًا قضائيًا على خلفية محاولتهم الانفصال في 2017، وفي مقدمتهم “كارلس بيجديمونت”، الذي سيُسمح له بالعودة إلى البلاد بعد فراره إلى بلجيكا لنحو ست سنوات.
ويُذكر أن اليسار الإسباني تاريخيًا كان مدافعًا عن فلسطين، أما اليمين فلم يكن تقليديًا صهيونيًا بشكل كبير، رغم محاولات حزب “فوكس” اليميني المتطرف التحرك في هذا المسار، إذ يعارض علانية الاعتراف بفلسطين.
- ضغوط داخلية: عملت قوى اليسار في البلاد على دفع الحكومة الائتلافية الجديدة إلى استمرار الوفاء بتعهداتها والتزامها تجاه دعم فلسطين، بجانب الضغط على إسرائيل من خلال تعليق أو قطع العلاقات معها تجلى ذلك خلال مناقشة برلمانية في العاشر من أبريل 2024، حيث طالب حزب “بوديموس” المنتمي لأقصى اليسار، وحزب “سومر” خلال مناقشة برلمانية الاعتراف العاجل بفلسطين، كما دعت “أيوني بيلارا” الأمين العام لحزب “بوديموس” إلى “تعليق شراء وبيع الأسلحة لإسرائيل” و”تعليق العلاقات الدبلوماسية” مع تل أبيب.
فيما حث “إينيجو إيريخون” المتحدث البرلماني باسم “سومر” رئيس الوزراء على دعوة إسبانيا إلى قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، وفرض حظر كامل على الأسلحة، و”تقديم المسئولين (عن مقتل المدنيين في غزة) إلى المحكمة الجنائية الدولية” والاعتراف العاجل بالدولة الفلسطينية كما وعد في اتفاق حكومته مع “سومر”، وفقًا لـ Euractiv.
لم تكن هذه المطالب الأولى، فقد سبق وأن أصدرت المجموعات اليسارية الثلاث في الاتحاد الإسباني للبلديات والمقاطعات FEMP)) والتي تشمل أكثر من 7000 كيان محلي، إعلانًا في العاشر من أكتوبر 2023، أوضحت فيه أنها “تدين بشدة قتل المدنيين على يد أي من أطراف النزاع”، ومُطالبين بـ”عدم شل أي برنامج مساعدات إنسانية للسكان الفلسطينيين في أي منطقة، وخاصة في غزة، داعيًا الحكومة الإسبانية إلى “الاعتراف بدولة فلسطين مع كل العواقب” والتوسط “على المستوى الدولي لإنهاء الصراع”. بحسب Euractiv.
- تنامي أعداد الضحايا: كان أيضًا أحد المحددات الدافعة لتحرك مدريد نحو الاعتراف بفلسطين، واتخاذها موقفًا من إسرائيل برغم تضامنها بشأن أعداد القتلى الذي بلغ 1200 إسرائيلي، هو استمرار الحرب التي أودت بحياة أكثر من 30 ألف فلسطيني، الأمر الذي صرح به وزير الخارجية الإسباني في الثالث من أبريل -خلال لقاء مع الصحفيين في بروكسل- قائلًا: “نحن بحاجة إلى دولة فلسطينية حقيقية”. مُبررًا أن أحد أسباب تغيير الموقف الإسباني مرتبط بالعدد الكبير في الضحايا المدنيين منذ السابع من أكتوبر. مُضيفًا: “إننا نشعر بنفس التضامن تجاه 32 ألف فلسطيني الذين قتلوا كما نشعر بالتضامن مع 1200 إسرائيلي”. وفيما يتعلق بالاعتراف فقد اعتبره “أفضل ضمان لأمن إسرائيل”. وفي سياق الحرب انتقد أيضًا رئيس الوزراء الإسباني التفسيرات الإسرائيلية بشأن استهداف World Central Kitchen والذي تأسس على يد الشيف الأمريكي الإسباني “خوسيه أندريس” في غارة جوية بالقطاع، أودت بحياة سبعة عاملين في المنظمة، مُطالبًا بالمزيد من التفاصيل من الجانب الإسرائيلي.
ختامًا، يعكس التحرك الإسباني نحو الاعتراف بدولة فلسطين الرغبة في كسر حالة الجمود التي شهدها الصراع خلال العقد الماضي، فضلًا عن الرغبة في تنامي الضغط السياسي على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء الحرب، تمهيدًا لإعادة إحياء عملية السلام في المنطقة، وللحد من تنامي الاضطرابات الناجمة عن استمرار الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بدون تسوية سلمية قائمة على حل الدولتين، خوفًا من اتساع نطاق الحرب وتحولها إلى حرب إقليمية شاملة. هذا بجانب تعزيز شرعية الحكومة الائتلافية على المستوى الداخلي.
وبرغم أن هذه الخطوة ستعزز الموقف الفلسطيني وقدرته على التفاوض في مرحلة ما بعد الحرب، كما أن الاعتراف الأوروبي الجماعي سيساهم في ممارسة المزيد من الضغط على تل أبيب، ويلزمها باحترام حقوق الإنسان بموجب اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل؛ إلا أن مسألة الاعتراف بفلسطين من المُحتمل أن تواجه بعض التحديات في الداخل الإسباني أو على المستوى الأوروبي التي قد تؤخرها أو تعرقل مسارها خاصة مع استعداد الأحزاب الأوروبية المختلفة للمشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي المُقرر عقدها في يونيو المُقبل، والتي من المُحتمل أن تشهد نتائجها تحولًا نحو اليمين.