لا يزال القصف الإسرائيلي على قطاع غزة مستمرًا منذ أكتوبر 2023، مخلفًا وراءه حجمًا هائلًا من الخسائر الاقتصادية والإنسانية التي تتوزع بين خسائر مباشرة ممثلة في تدمير البنى التحتية والمنازل والمباني، وخسائر غير مباشرة تتعلق بتصاعد معدلات البطالة والفقر ونقص السلع في ظل الحصار المفروض على غزة. في هذا السياق، تستلزم عملية إعادة إعمار غزة التزام الدول المانحة بتخصيص مليارات الدولارات لتخفيف آثار الدمار الناتج عن القصف الإسرائيلي على القطاع، ومن هنا يظهر تساؤل عن حجم التمويلات المطلوبة لإعادة الإعمار، وآليات الاستجابة المحتملة.
تكلفة إعادة الإعمار
يصل حجم الخسائر الاقتصادية الأولية للإعمار في غزة بسبب الحرب إلى 11 مليار دولار، وفقًا لتقديرات مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة “إسماعيل ثوابتة” التي أعلن عنها في أواخر ديسمبر 2023، إلى جانب 12 مليار دولار خسائر غير مباشرة، نتيجة تدمير أكثر من 305 ألف وحدة سكنية منذ بداية الحرب تنقسم إلى 52 ألف وحدة مدمرة بالكامل، و253 ألف وحدة مدمرة تدميرًا جزئيًا. وتصل حجم الخسائر في المنازل إلى ما قيمته 7.4 مليارات دولار. وتشير تقديرات إلى خسائر قطاعية مختلفة، ما بين 650 مليون دولار خسائر بالقطاع التجاري، و450 مليون دولار خسائر في القطاع الصناعي، و420 مليون دولار القطاع الزراعي.
أما فيما يتعلق بالخدمات، فتصل خسائر القطاع الصحي إلى 230 مليون دولار، والتعليم لنحو 720 مليون دولار، والكهرباء لحوالي 120 مليون دولار، والترفيه نحو 400 مليون دولار. بينما خسر قطاع الاتصالات والإنترنت نحو 600 مليون دولار، والنقل والمواصلات حوالي 480 مليون دولار. فيما تُشير تقديرات المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إلى أنّ الخسائر من المرجح أن تصل إلى نحو 20 مليار دولار.
في المقابل، قدر مدير الإحصاءات في الجهاز المركزي للإحصاء في فلسطين “محمد قلالوة”، حجم خسائر القطاع الخاص وحده بحوالي 700 مليون دولار، حيث توقف 147 ألف عامل عن العمل، وتوقفت 56 ألف منشأة عن العمل، كما توقع ارتفاع نسبة الفقر في قطاع غزة إلى حوالي 90%، ونسبة البطالة لحوالي 65%. فيما أعلن مكتب تنسيق العمليات الإنسانية التابع للأمم المتحدة “أوتشا”، أن تكلفة تلبية الاحتياجات الإنسانية لـ2.7 مليون شخص في قطاع غزة و500 ألف آخرين في الضفة الغربية تقدر بنحو 1.2 مليار دولار.
في المقابل، قدر وزير الحكم المحلي الفلسطيني “مجدي الصالح” في نوفمبر 2023 أن قطاع غزة بحاجة لأكثر من 10 مليارات دولار لإعادة إعمار ما خلفته الحرب الإسرائيلية، حيث قدر تكلفة إعمار قطاع الإسكان وحده بنحو 8.4 مليارات دولار، مع تخصيص نسبة تتراوح بين 20% إلى 25% منها لعملية إزالة الركام، مؤكدًا أن عملية حصر الخسائر واحتياجات القطاع ستستغرق 6 أشهر بحد أدنى عقب انتهاء الحرب.
ويُعد هذا المبلغ قليلًا نسبيًا عند مقارنته بالتقديرات الأولية التي أشارت في يناير 2024 إلى أن تكلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى أكثر من 50 مليار دولار. ومع توسع نطاق العمليات الإسرائيلية واستمرارها، فإن هذا المبلغ سيرتفع بالتأكيد.
آليات الاستجابة
عادةً ما يتم النظر في قضية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن. لذا فمن أجل بدء عمليات الإعمار لا بد من الدخول في مفاوضات لتحديد الوضع النهائي للعلاقة بين السلطة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وقطاع غزة مع إسرائيل، بما سيرسل إشارة إيجابية للدول التي تعتزم تقديم المساعدة لإعمار غزة. وفيما يلي أبرز آليات الاستجابة المحتملة:
- تأسيس صندوق عربي لدعم غزة: تتطلب عملية تمويل إعادة إعمار غزة تخصيص دعم عربي من خلال تأسيس صندوق تساهم فيه جميع الدول العربية لتحمل هذه التكاليف، ولتأكيد مسئوليتها تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة في ظل تصاعد الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها قطاع غزة يومًا تلو الآخر.
- حشد التمويلات الدولية: تلتزم إعادة إعمار غزة بحشد تمويلات دولية خاصة من الدول الغربية وتوجيهها للقطاعات الحيوية كقطاع الصحة، باعتباره أكثر القطاعات التي تضررت من القصف الإسرائيلي، وذلك من خلال الدعوة إلى مؤتمر دولي يضم الدول المانحة المحتملة.
- ضمان عدم تكرار الأزمة: يبدو أن فاتورة إعادة إعمار غزة ستكون ضخمة نظرًا لعدم وجود أي إشارات لتوقف الحرب في الوقت الحالي، ولهذا فمن الصعب التطرق لملف الإعمار من دون إيقاف الحرب، مع ضمان عدم تكرار هذه الصدامات بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، حيث من المرجح أن تتمهل الدول قبل تقديم الدعم لإعمار غزة، بسبب مخاوف من تدمير المنشآت وعودة الاقتتال مثلما يحدث في كل مرة.
مع ذلك، هناك عدد من التحديات والمعوقات التي يُمكن أن تواجه عملية إعادة الإعمار في حال البدء في تنفيذها، والتي يُمكن استعراضها على النحو الآتي:
- عدم الالتزام بالتعهدات المالية: أظهرت التجارب السابقة أن الدول لا تلتزم بتعهداتها والإسهام في تمويل إعادة الإعمار، لذا يجب أن تقدم الدول تعهدات واقعية تستطيع الوفاء بها، مع التركيز على ضمان العودة إلى الأوضاع الطبيعية عن طريق تقديم الإغاثة الإنسانية على وجه السرعة، وإصلاح الأضرار ذات الأولوية التي لحقت بالبنى التحتية، واستئناف الخدمات الأساسية التي عطلتها الأعمال العدائية، على أن تعود على الأقل إلى مستويات ما قبل الأعمال العدائية.
- شروط تعجيزية: تضع إسرائيل شروطًا صعبة تعيق سير عملية إعادة الإعمار، من أبرزها: تشديد الحصار، وفرض القيود على المعابر، ورهن إعادة الإعمار بقضية الأسرى والمفقودين الإسرائيليين لدى حماس.
- صعوبة تحديد الجهة المشرفة على إعادة الإعمار: تستلزم عملية إعادة إعمار غزة تحديد الجهات التي سوف تشرف على التمويل وسير العملية بانتظام بما يحقق الهدف المرجو منها، كما ترتبط إعادة الإعمار بالشكل الذي ستنتهي عليه الحرب والجهة التي ستدير القطاع، ومن ثمّ فمن اللازم الوصول إلى آلية مناسبة حال توقفت الحرب، نظرًا لما يتطلبه الإعمار من دعم أطراف متعددة، في ظل حجم الدمار الواسع النطاق الذي يشهده القطاع.
ختامًا، لا تُعد عملية إعادة إعمار غزة أمرًا يسيرًا نظرًا للواقع السياسي المنقسم في فلسطين، إضافة إلى الشروط الإسرائيلية التي تعيق عملية الإعمار وتساهم في تباطؤ وتيرة إنجازها، ونقص التمويل الدولي المخصص لها وعدم الالتزام به في الكثير من الأحيان، إلى جانب تكرار الاعتداءات الإسرائيلية على غزة التي تمحو ثمار جهود عملية إعادة الإعمار. وعلى هذا الأساس، أصبحت عملية إعادة الإعمار مرهونة بوقف إطلاق النار وإيقاف الاعتداءات على غزة مع الوصول لحل للنزاع مع ضمان عدم تدمير القطاع مرة أخرى بعد إعادة إعماره مثلما يحدث في الوقت الحالي.