ترتبط التحديات الأمنية لإعادة إعمار قطاع غزة بكيفية انتهاء القتال بين إسرائيل وحركة حماس، خاصة وأن لكلا الطرفين أهدافًا مناقضة تمامًا للطرف الآخر. فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ثلاثة أهداف من حملته العسكرية على قطاع غزة، وهي القضاء على حركة حماس تمامًا، بصورة تقتلع جذورها من القطاع، وعودة كافة المحتجزين من الإسرائيليين لدى حماس، وأخيرًا ألا يشكل القطاع تهديدًا مستقبليًا لإسرائيل، في حين أن الهدف غير المعلن لعملياتها العسكرية هو محاولة الطرد القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، وهي إحدى الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي.
نتائج غير حاسمة للحرب
كانت إسرائيل ترغب بدايةً في أن تقوم مصر باستقبال أغلب الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة، وذلك عبر الضغط على الدول الغربية لممارسة ضغوط على مصر لاستقبالهم، وحينما أخفقت محاولتها تلك فإنها وضعت هدفًا آخر وهو الطرد الطوعي للفلسطينيين، كما وضح في المقترح الذي تقدم به داني دانون، عضو الكنيست الإسرائيلي، والسفير الإسرائيلي الأسبق في الأمم المتحدة، والذي رأى أن حل مشكلة قطاع غزة يتمثل في فتح الباب لما أسماه “الرحيل الطوعي للفلسطينيين”.
بطبيعة الحال، فإن هذه الصيغ تخفي وراءها أن تل أبيب لا تزال تسعى لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، خاصة وأن تسعين بالمائة من الفلسطينيين باتوا نازحين داخليًا، بعدما دمرت إسرائيل مساحات واسعة من قطاع غزة. لذلك، فإن نتيجة نهاية العمليات العسكرية هي التي ستحدد طبيعة التحديات الأمنية التي ستواجهها إسرائيل وحركة حماس في مرحلة ما بعد الحرب.
وعلى الرغم من إعلان إسرائيل أنها قضت على 9 آلاف عنصر من حركة حماس، وأن ذلك يماثل حوالي ثلثي إجمالي المنتسبين للجناح العسكري لحركة حماس، غير أن هذا الأمر قد يكون مبالغًا فيه، وذلك بالنظر إلى أن التقديرات قبل الحرب كانت تضع عدد منتسبي كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحماس) عند ثلاثين ألف عنصر، كما أن الهيكل القيادي للكتائب لم يتضرر جراء المعارك الجارية، فلم يتم القضاء على قيادات الحركة، بل إن الحركة لا تزال قادرة على مواصلة هجماتها، سواء ضد القوات الإسرائيلية المنتشرة في قطاع غزة، أو عبر استهداف المقاومة الفلسطينية للمدن الإسرائيلية بصواريخ تنطلق من شمال قطاع غزة، وهي المنطقة التي يُفترض أن الجيش الإسرائيلي أحكم سيطرته عليها تمامًا. كما أكد المسئولون الإسرائيليون، في منتصف يناير 2024، أن متاهة الأنفاق الواسعة التابعة لحماس تحت غزة قد تكون أكبر مما توقعوه في البداية، وأن الكثير من هذه الأنفاق لم يتضرر جراء المعارك الجارية.
تحديات أمنية
إذا أخذنا هذه العوامل في الاعتبار، فإننا سوف نصل إلى استنتاج مفاده أنه من المتعذر أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها في غزة. وإذا ما استمر الأمر على هذا النحو، فإنه يمكن توقع أن تكون التحديات الأمنية لإعمار غزة بالنسبة لإسرائيل مرتفعة للغاية، وذلك بالنظر إلى العوامل التالية:
– استمرار التهديد الوجودي لإسرائيل: كان السبب الرئيسي وراء اندلاع الجولة الأخيرة من المواجهات العسكرية بين إسرائيل وحركة حماس يتمثل في وصول التهديد الديموغرافي لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة. إذ تعتبر الديموغرافيا مسألة تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، وعاملًا مؤثرًا بشكل مباشر على احتمالات العنف والصراع، إذ إنه اعتبارًا من أواخر عام 2022، يعيش أكثر من سبعة ملايين إسرائيلي في إسرائيل والضفة الغربية، ويعيش سبعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل والقدس الشرقية، وهو ما يعني أن حجم اليهود والفلسطينيين تساوى في إجمالي أراضي فلسطين التاريخية، وهو أمر يعد مرفوضًا بالنسبة لإسرائيل، التي تنظر إلى نفسها باعتبارها دولة لليهود فقط.
وبمراجعة تاريخ إسرائيل الحديث، نجد أنها كانت تقوم بشكل دوري بمجازر ضد الفلسطينيين لتهجيرهم قسريًا من أراضيهم، فضلًا عن استقدام موجات جديدة من المهاجرين اليهود من مختلف أنحاء العالم، وذلك في محاولة للحفاظ على أغلبية يهودية في مواجهة الفلسطينيين. وبرغم هذه الجهود فإن عدد الفلسطينيين والإسرائيليين قد تساوى لأول مرة في عام 2022. لذلك سعت إسرائيل لاستغلال عملياتها العسكرية ضد قطاع غزة في محاولة للتسبب في موجة جديدة من الطرد القسري للفلسطينيين، وهو ما أخفقت فيه حتى الآن، بسبب زيف ادعاءاتها فيما يتعلق بذبح حماس لأطفال رضع إسرائيليين لتبرير هجومها على القطاع، فضلًا عن ارتكاب إسرائيل مجازر واسعة ضد سكان غزة من المدنيين، وهو ما أدى لتراجع التعاطف الشعبي العالمي معها، وأجبر الحكومات الغربية على التراجع، ولو بشكل محدود، في دعمها لإسرائيل.
وإذا ما انتهت العمليات العسكرية دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق هدفها الرئيسي، وهو القضاء على حركة حماس، فإنه سوف يكون لزامًا على إسرائيل السماح بإعادة إعمار غزة، وهو ما يعني التسليم ببقاء الفلسطينيين داخل قطاع غزة، ومن ثم استمرار التهديد الوجودي الفلسطيني، كما تتخيله إسرائيل. ومن جهة أخرى، فإن فشل إسرائيل في القضاء على حماس سوف يعني أن الأخيرة سوف تكون المسيطرة على الأوضاع الأمنية في قطاع غزة، وكذلك على جهود إعادة الإعمار، بما يعنيه ذلك من استغلال جزء من الأموال ومواد البناء المخصصة لإعادة الإعمار من أجل بناء أنفاق جديدة، واستعادة جاهزيتها القتالية. وحتى لو وافقت حركة حماس على أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة القطاع، فإن حماس سوف تكون الطرف الفعلي المسيطر على الأرض.
ويعني ما سبق أن إسرائيل قد تلجأ إلى محاولة إعاقة عملية إعادة إعمار القطاع، أو توجيه ضربات من فترة لأخرى ضد حركة حماس، حتى تضعف قدراتها العسكرية، حتى وإن عجزت عن القضاء عليها تمامًا، وهو ما يعني أن المواجهات بين الجانبين سوف تكون مفتوحة.
- مواصلة الاحتلال الإسرائيلي: لا ينبغي تجاهل أن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو تتحمل المسئولية الرئيسية وراء تفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وذلك بسبب إصرارها على التهرب من استحقاقات السلام، ورفضها إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، بالإضافة إلى سعيها الدائم لبناء مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولم تتغير السياسة الإسرائيلية هذه حتى بعد اندلاع الحرب الأخيرة في غزة؛ إذ أكد نتنياهو أنه أبلغ الولايات المتحدة معارضته إقامة دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب في غزة، وذلك في 19 يناير 2024، وهو ما يعني أن الوضع الأمني في الضفة الغربية وغزة سوف يكون قلقًا، حتى بعد انتهاء المعارك الجارية حاليًا، وهو ما يجعل الوضع مرشحًا للانفجار في أي لحظة.
- غموض مستقبل السيطرة الأمنية على غزة: تتمثل أكبر مشكلة يواجهها الجيش الإسرائيلي في مرحلة ما بعد الحرب، وبدء جهود إعادة الإعمار، في كيفية استعادة الردع مجددًا في مواجهة حركة حماس؛ إذ كانت العقيدة الإسرائيلية تقوم على ضرورة حصول تل أبيب على الإنذار المبكر في مواجهة أي تهديد محتمل، بالإضافة إلى الارتكان إلى الجدار الذكي ونظم الدفاع الجوي المتطورة على غرار القبة الحديدية، غير أن هجمات حماس، في 7 أكتوبر 2023، على مدن غلاف غزة، وقواعد الجيش الإسرائيلي، والسيطرة عليها بسهولة نسبية، فضلًا عن نجاح حركات المقاومة الفلسطينية في إطلاق كمية كبيرة من الصواريخ، تسببت في انهيار منظومة الدفاع الجوي وتعرية إسرائيل أمام التهديدات المختلفة.
من جهةٍ أخرى، فإن إسرائيل وقفت بمظهر الدولة الضعيفة العاجزة عن توفير الأمن لنفسها، وهو ما ترتبت عليه نتيجة أخرى وهي أن إسرائيل لا يمكنها الدخول في مفاوضات مستقبلية لإحلال السلام مع الفلسطينيين من موقع ضعف، وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل حكم القطاع، وكذلك من سيتولى إدارة الملف الأمني في القطاع بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية.
وقدم وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، في مطلع يناير 2024، خطة إسرائيل لـ”اليوم التالي” لحرب غزة إلى مجلس الحرب الإسرائيلي، والتي شملت تشكيل قوة عمل متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، وتضم “دولًا أوروبية وعربية”، بهدف تولي إعادة إعمار القطاع وتأهيله اقتصاديًا. ووفق مقترح جالانت، فإن حركة “حماس” لن تسيطر على قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وستحتفظ إسرائيل بالحرية في العمليات العسكرية داخل القطاع، إلا أنه لن يكون هناك أي تواجد مدني إسرائيلي في قطاع غزة وستكون الهيئات الفلسطينية هي المسئولة “طالما لم تكن هناك أي أعمال عدائية ضد إسرائيل”.
يعني ذلك أن إسرائيل تسعى لإعادة احتلال قطاع غزة، وهو سيناريو غير واقعي، وذلك لعدة اعتبارات، أولها أن الدول العربية أعلنت رفضها المشاركة في إعادة إعمار غزة، ناهيك عن المشاركة بقوات في السيطرة على القطاع تأمينًا لإسرائيل. فقد ربطت عدة دول عربية مشاركتها في إعادة إعمار قطاع غزة باعتراف إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل حتى الآن. والاعتبار الثاني، أن خطة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على قطاع غزة تبدو احتمالًا مستبعدًا في ضوء عجز إسرائيل في السابق عن السيطرة على القطاع، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، إلى الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، في عام 2005، فيما عرف حينها بخطة فك الارتباط. ومن جهة أخرى، فإن أداء إسرائيل العسكري الحالي في قطاع غزة، واستمرار تكبدها خسائر هناك يجعلها تتراجع عن خطط احتلال القطاع عسكريًا.
أخيرًا، فإن الخطة الإسرائيلية لكي تتسم بالفاعلية سوف يعني أن تقوم تل أبيب باحتلال محور صلاح الدين، وهو محور يفصل بين مصر وقطاع غزة ويصل طوله إلى نحو 14 كيلومترًا. وتزعم إسرائيل أن استعادة المنطقة الحدودية من شأنها أن توجه ضربة استراتيجية لحماس، من خلال السيطرة على أنفاقها في المنطقة والحد من تدفق الأسلحة ومنع مقاتليها من الهروب من قطاع غزة، وأعلنت مصر رفضها صراحة للخطة الإسرائيلية، مؤكدة أنها لا تسمح بأي أنشطة غير قانونية، كما أكدت أن اتفاقية السلام تمنع قيام إسرائيل بأي تحركات عسكرية في هذا المحور.
ختامًا، يمكن القول إن الخطط الإسرائيلية لإعادة احتلال قطاع غزة لا تعد منطقية، أو قابلة للتحقيق، ما لم تتمكن تل أبيب من القضاء على حركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة تمامًا، وهو سيناريو يبدو مستبعدًا من مراجعة سير العمليات العسكرية في قطاع غزة. لذلك، فإن مستقبل حكم القطاع، سياسيًا وأمنيًا، سوف يكون غامضًا، غير أن المؤكد أن نتائج العملية العسكرية الحالية سوف تكون عاملًا مؤثرًا ومحددًا لمستقبل حكم القطاع، أمنيًا وسياسيًا