في ظل انتشار الموجات المناهضة للوجود الأمريكي والأوروبي في القارة الأفريقية وبالأخص في منطقة الساحل الأفريقي، اعتزمت السلطات الروسية تشكيل قوات عسكرية خاصة تعرف باسم “الفيلق الأفريقي” في ديسمبر 2023، والذي تم الكشف عنه مطلع العام الجاري، كتشكيل عسكري روسي ويد روسية من رحم فاجنر في أفريقيا، ولكن بشكل ومهام مختلفة وبتأثير أكثر نسبيًا في الدول الأفريقية وعلى وجه الخصوص ليبيا، والذي يعكس سعي موسكو لتوسيع نفوذها العسكري في القارة الأفريقية، مع منحه شرعية الوجود الرسمي والعلني في مواجهة الحضور الأوروبي والأمريكي والذي يشهد تراجعًا ملحوظًا، وذلك عن طريق تقديم موسكو نفسها كمناصرة للاستقلال الأفريقي من الاستعمار الأوروبي، عن طريق دعم الأنظمة السياسية الصاعدة المناهضة للوجود الفرنسي مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطى.
هيكلة الفيلق الأفريقي الروسي
تتبع إدارة الفيلق الأفريقي سلطة الإدارة المباشرة وتحت رقابة المخابرات الروسية وبتمويل رسمي من الحكومة الروسية أيضًا، تحت إشراف الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي. ويتكون الفيلق الأفريقي بالأساس من مقاتلي مجموعة فاجنر الذين يشكلون تقريبًا نصف العدد الإجمالي لأفراد الفيلق، ثم إلى المقاتلين الروس الذين شاركوا في الحرب الروسية الأوكرانية، يليهم المقاتلون حاملون الجنسية الأفريقية الراغبون في الانضمام ومن ثَمّ المقاتلون السوريون، إضافة إلى مزيد من العناصر في نطاق قوة عسكرية لا تقل عن 40 إلى 45 ألف مقاتل، كما يتكون الفيلق من فرقتين إلى 5 فرق حسب القدرات القتالية وحجم العناصر. ويحصل كل مقاتل على 3200 دولار كراتب رسمي بخلاف حصولهم على رعاية صحية وتأمينات اجتماعية.
أهداف الفيلق الأفريقي
ينتشر الفيلق الأفريقي في 5 دول أفريقية وهي ليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر مع اتجاه أنظاره راهنًا إلى تشاد والسنغال. فالمتأمل للمشهد السياسي يرى أن وراء ذلك التمدد الروسي العسكري هدف رئيسي هو المساعدة في مواجهة النفوذ الاستعماري الجديد للغرب على الدول الأفريقية ذات السيادة وحماية مواقع البترول والذهب التي استطاعت فاجنر الوصول إليها سابقًا، إضافة إلى دعم المجموعات المناهضة للوجود وللسياسات الغربية داخل الدول الأفريقية.
وقد قامت روسيا بالفعل بنقل مقاتلين وعسكريين روس إلى ليبيا في الفترة من فبراير إلى أبريل من العام الجاري. حيث تشهد الأراضي الليبية وجود 1800 جندي روسي في البلاد خلال الأسبوعين الماضيين. ويتم تجميعهم بشكل رئيسي في شرق ليبيا تم نقل بعضهم إلى النيجر بينما بقي البعض الآخر في ليبيا. وبحسب المصدر الأمني الروسي، فإن الجنود موجودون في ليبيا بشكل غير رسمي ويتم تقديمهم على أنهم ممثلون لشركة عسكرية خاصة. وأضف إلى ذلك، تم اكتشاف العديد من الأفراد من الجنسية السورية بين الأفراد الروس في القواعد العسكرية. حيث تشير مصادر All Eyes on Wagner إلى وجود هذه الكتيبة الجديدة في عدة قواعد تابعة للجيش الوطني الليبي في: الخروبة/ الخادم، الجفرة، طبرق، بالإضافة إلى قاعدتين أخريين في الجنوب.
أسباب التركيز الروسي على ليبيا كمنطلق للفيلق الأفريقي
منذ سقوط معمر القذافي، كانت ليبيا ساحة معركة للنفوذ بين مختلف الجهات الخارجية، بما في ذلك روسيا، التي ترى في ليبيا نقطة حاسمة لبسط نفوذها عبر البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. فموقع ليبيا على المتوسط وطول ساحلها، وكونها بوابة أفريقيا الشمالية يعني أنها ستظل هدفًا لجميع القوى الدولية. حيث يمثل الموقع الاستراتيجي الليبي موطئ قدم للفيلق الجديد لتعزيز انطلاقته نحو أفريقيا، فروسيا تحضر بالفعل في مواقع استراتيجية فيها، أبرزها قاعدة القرضابية وسط البلاد وميناء طبرق شرقي البلاد، كما تتمركز في قاعدة الجفرة الجوية إلى جانب قاعدة براك الشاطئ، وذلك لضمان خطوط الإمدادات العسكرية وتحركات العناصر التابعة للفيلق إلى الدول الأفريقية الأخرى، الأمر الذي يهدد أي مصالح أو وجود لقوات غربية سواء أمريكية أو أوروبية في المنطقة. كما سبق أن وجدت عناصر فاجنر سابقًا في مدينة سرت التي تبعد 450 كيلومترًا شرق العاصمة الليبية طرابلس، إذ كانوا يتمركزون في قاعدة “القرضابية” الجوية وميناء سرت البحري، وهو ما مكن قوات فاجنر في أبريل 2019، من دعم قوات الجيش الوطني الليبي التابعة للخليفة حفتر، وشمل هذا الدعم الأدوار القتالية المباشرة، والمساعدة اللوجستية، ونشر المعدات العسكرية المتقدمة مثل الطائرات المقاتلة والأنظمة المضادة للطائرات حيال شن هجوم ضد حكومة الوفاق الوطني والتي تتخذ من طرابلس مقرًا لها.
وقد ظهر اتجاه موسكو لتعزيز الوجود العسكري منذ أشهر قليلة بعد تأسيس الفيلق الأفريقي بعد نقل قوات عسكرية إلى ميناء الحريقة بمدينة طبرق أقصى شرق ليبيا، بوصول دفعة من التجهيزات العسكرية التي تضم أسلحة وذخائر ومعدات وشاحنات عسكرية لتجهيز الفيلق الروسي الأفريقي، والذي نشرته وسائل إعلام محلية وهو ما يثير المخاوف والتحذيرات لدى القوى محلية منذ نهاية إبريل الماضي، بل الدولية أيضًا والتي من بينها الولايات المتحدة وأوروبا.
خلاصة القول، تجد وزارة الدفاع الروسية بتشكيلها للفيلق الأفريقي فرصة لمواجهة النفوذ الغربي وتدارك مكانة موسكو في أفريقيا بعد 3 عقود من فكها الارتباط بالقارة السمراء بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. حيث تتمثل الاستراتيجية التي تتبعها روسيا مؤخرًا للانتشار العسكري في أفريقيا في توظيف الفيلق الأفريقي للتغلغل في أفريقيا بداية من ليبيا ومرورًا بدول الساحل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وصولًا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى في قلب القارة الأفريقية. بهذا تسعى روسيا إلى اجتذاب دعم دول أفريقية أخرى عبر دعم عمليات تغيير السلطة وإنهاء الارتباط بين فرنسا ومستعمراتها الأفريقية السابقة. ويثير هذا التمدد العسكري الروسي في أفريقيا انطلاقًا من ليبيا مخاوف عديدة لدى قطاعات واسعة من الليبيين بما يثيره ذلك من احتمالات لتحّول بلدهم قاعدة للتمدد الروسي إلى أفريقيا (جنوب الصحراء)، وأيضًا استمرار هذا الوجود ضمن الصراع بين الروس والغرب على مناطق النفوذ، وهذا قد يجعل الوجود الروسي طويل الأمد، بل وتتحول ليبيا لمنطقة استقطاب متنازع عليها القوى الدولية.