يشكل الصراع في إقليم أمهرا بين مليشيا فانو “الأمهرية” والحكومة المركزية، بُعدًا آخر للأزمة الداخلية في إثيوبيا، ذات التركيبة الاجتماعية غير المتجانسة، كما تمثل تحديًا كبيرًا للدول الحبيسة. لا سيما بعد أن انقلبت هذه المليشيا على الدولة، إذ حتى وقت قريب كانت مليشيا فانو تقاتل جنبًا إلى جنب مع الجيش الفيدرالى في إقليم تيجراي ضد جبهة تحرير تيجراي(TPLF). كما شاركت فانو في صراعات مسلحة مع جيش تحرير أورومو (OLA)، فضلًا عن دورها الكبير في الحرب مع السودان في مناطق “الفشقة السودانية”، لكن نظرًا لهويتها القومية ووضع إثيوبيا الداخلي الهش فإن هذه المليشيا التي تعد ممثلة لقومية ظلت مهيمنة على السلطة والثروة في إثيوبيا لفترات طويلة، إلا أنه الآن تمثل عائقًا حقيقيًا أمام الدولة وبنيتها الداخلية وسيادتها.
البعد التاريخي والهوياتي لمليشيا فانو
تاريخيًا يعود تكوين مليشيا فانو، خلال الحرب الإيطالية الإثيوبية الثانية في ثلاثينيات القرن الماضي، كمصطلح يعني المقاتلين الذين دافعوا بقوة للحفاظ على نظام الإمبراطورية الإثيوبية التي تنحدر إصولها إلى أمهرا “جوندر”، ثم تطورت الفكرة لاحقًا وأصبحت تنقسم إلى مكونين سياسي وعسكري، فالأول: عبارة عن حركة احتجاجية يقودها سياسيون ونشطاء، تتركز مطالبهم بضم العديد من المناطق إلى إقليم أمهرا، مثل “ولقايت -كفتا – الحمرا – تسيجيدي” تلك المناطق رسميًا تحت إدارة إقليم تيجراي. وعسكريًا: تعد فانو مجموعة شبه عسكرية تشكلت لمحاربة الحكومة الفيدرالية، التي تتهمها المليشيا بارتكاب جرائم ضد قومية الأمهرا، وتكمن قوتها في قدرة الكبيرة في استيعاب قوات أمهرا الإقليمية الخاصة التي رفضت فكرة الاندماج في قوات الدفاع الوطني الإثيوبية (ENDF).
أما ثقافيًا فيعني مصطلح فانو بالأمهرية المقاتل المتطوع لخدمة قوميته ضد أي تدخل خارجي أو أي قمع ضد الأمهرا بشكل عام، وبهذا المعيار تعد مليشيا فانو ذات هوية أمهرية وتمتلك عقيدة قتالية غايتها الدفاع عن قومية الأمهرا ومقاومة أي اعتداء عليها، ومن ثَمّ تعتمد التعبئة العسكرية على عرقلة أي مشروع لقومية الأورومو باعتبارها أكبر قومية في البلاد.
يضاف إلى ذلك مهمة أساسية وهي أن مليشيا فانو يقع على عاتقها مسئولية وقف هجرة الأورومو لإقليم أمهرا، ومنعهم من الاستيلاء على مزيد من الأراضي الغنية بالموارد والتمدد فيها. وعلى الرغم من أن النخبة السياسية في إقليم أمهرا بنوا استراتجيتهم على إشاعة هذا المصطلح “المليشيا” من خلال عقود حكومة جبهة تحرير تيجراي، إلا أنه بالنسبة للمزارعين الأمهريين، احتفظوا بمليشيا فانو كجزء من مبادئ حق الدفاع والقتال عن مشروع القوميين الأمهرا التي تتبناه منظمة أمهرا الوطنية.
تعزيز مكانة فانو وفشل سياسة الاحتواء الحكومي
لقد عادت مليشيا فانو بقوة إلى المشهد السياسي بعد حرب تيجراي، إذ استفادت مليشيا فانو من المشاركة في هذه الحرب إلى جانب الحكومة المركزية، وبالتالي أصبحت أكثر قوة من حيث العتاد العسكري والأفراد، لكنها انقلبت على الجيش الفيدرالي، وباتت تشكل تهديدًا كبيرًا في إثيوبيا بعدما انقلبت على الجيش الفيدرالي في بداية من أبريل 2023، تم إعادة تنظيم المليشيا وقامت بشن هجمات عسكرية ضد أهداف للجيش والشرطة الفيدرالية الإثيوبية في إقليم أمهرا، بسبب خطة طرحتها الحكومة الفيدرالية، لعمليات الدمج ونزع السلاح.
لقد ساعد الوضع الأمني المتوتر ليس فقط في إقليم أمهرا، بل في إقليم أروميا، وتيجراي، وشعوب وأمم جنوب إثيوبيا وإقليم بني شنغول والعفر في يناير 2024 في ظل عمليات عسكرية مستمرة من قبل الجيش الإثيوبي للحد من خطورة المليشيات الإثنية في داخل الأقاليم إلى تكثيف مليشيا فانو لجهودها وتمردها على الجيش، حيث قاومت سياسة الحكومة بما في ذلك حالة الطوارئ المفروضة منذ أغسطس 2023، وساعدت الاحتجاجات والاضطرابات داخل عدد من المدن المليشيا على تنفيذ العديد من العمليات العسكرية حيث استغلت حالة الفوضى وغياب الأمن.
وقد عمقت سياسة الحكومة الفدرالية من الأزمة، فقد تفاقمت الأوضاع على إثر فرض الحكومة إجراءات أخرى عقابية بما في ذلك القيود والرقابة الشديدة للوصول إلى شبكة الإنترنت سواء كان عبر الهاتف أو في المقاهي، في العديد من الأقاليم المختلفة، وانقطاع الإنترنت خوفًا من ارتفاع وتيرة التصعيد من قبل الجماعات الإثنية التي تمثل ضغطًا كبيرًا لحكومة رئيس الوزراء آبي أحمد.
كما عزز الجيش الإثيوبي وجوده الكثيف في العديد من المناطق، مع نشر المدرعات على مستوى إقليم أمهرا، في مدن مثل “جوندر- بحر دار- ديسي – موتا – مومبولشا”، تخوفًا من اندلاع قتال في أي وقت بين الجيش ومليشيا فانو خاصة بعد أن رفضت المليشيا تسليم أسلحتها للجنة المكونة للنزع السلاح من المليشيا بعد حرب تيجراي. كما فرضت السلطات الأمنية إلى فرض قيود السفر والتنقل البري داخل إقليم أمهرا. كما اعتقلت السلطات دون أوامر قضائية، وفرضت حظرًا على التجمعات العامة بالإضافة إلى فرض حظر التجول في بعض أحياء مدن أمهرا.
أخيرا، لا يقل التمرد في إقليم الأمهرا خطورة على أمن ووحدة التراب الإثيوبي عن تمرد التيجراي، باعتبار أن الأمهرا والتيجراي هما العرقيتان اللتان حكمتا إثيوبيا لسنين طويلة، مما يعني أن عدم نجاح الحكومة في وضع حل جذري لهذه الأزمة قد يشكل خطورة على وحدة البلاد وقد يعرضها للتفكك مستقبلًا. كما أن تمرد مليشيا فانو قد يدفع مليشيات في أقاليم أخرى إلى رفض تنفيذ قرار الاندماج في الجيش أو الشرطة أو الحياة المدنية، مثل جيش تحرير أورومو الذي يسيطر على مساحات شاسعة في إقليم أوروميا ويمتلك أسلحة وخبرات سياسية وعسكرية طويلة، خاصة وأن الأورومو الذين يشكلون أكبر عرقية في إثيوبيا، لا يزالون يشعرون بالتهميش، ورغم أن رئيس الوزراء آبي أحمد ينتمي سياسيًا إلى هذه العرقية، إلا أنهم يرون أن مناطقهم لا تزال تعاني من ضعف في التنمية.
ولتجنب انزلاق إثيوبيا في حرب جديدة، قد تلجأ حكومة آبي أحمد لعقد اتفاق مع مليشيا فانو، على غرار الاتفاق مع التيجراي، لكن أي اتفاق لن يسمح للمليشيا بالاستمرار والاحتفاظ بأسلحتها بإقليم أمهرا، لا يمكن أن تقبله قيادات المليشيا، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى اعتراض بقية الأقاليم، وبغض النظر عن التطورات التي قد يصل إليها هذا الملف فلا يسع القول إلا أن آبي أحمد فشل فشلًا ذريعًا في إدارة شئون البلاد وقد يجرفها نحو أزمة بنيوية غير مسبوقة.