ظهر مصطلح اليوم التالى بعد أسابيع قليلة من بدء العدوان الإٍسرائيلى على قطاع غزة.انتهت حروب إسرائيل السابقة فى غزة باتفاقات تهدئة بقيت فعالة لفترات متفاوتة، مارست حركة حماس خلالها السلطة فى القطاع، وواصلت تعزيز قوتها العسكرية وحفر الأنفاق. اليوم التالى فى المواجهات السابقة كان امتدادا بسيطا لليوم السابق، لكن الحرب الراهنة مختلفة.
لسنوات طويلة تبنت إسرائيل، خاصة حزب الليكود ورئيس الوزراء نيتانياهو، نظرية تقول بإمكان التعايش مع حركة حماس، وأن حكم الحركة فى غزة أفضل من حكم السلطة الوطنية لأنه يقسم الفلسطينيين، ويؤجل إلى أجل غير مسمى فتح ملف الحل الدائم. سقطت هذه النظرية ضمن الأشياء الكثيرة التى أسقطها هجوم السابع من أكتوبر 2023. فإسرائيل هذه المرة عازمة على القضاء على حماس وإنهاء حكمها ونزع سلاحها. هذه أهداف غير واقعية، لكن المهم هو أن تقويض هياكل السلطة والحكم التى كانت قائمة فى اليوم السابق يطرح السؤال عن طبيعة اليوم التالى.
الأمن والسلطة وإعادة الإعمار والأفق السياسى، أربعة أسئلة تطرحها قضية اليوم التالى. من سيكون لديه الحق الشرعى لحمل السلاح؟ من ستكون فى يده سلطة اتخاذ القرار فى الشئون الأمنية والمدنية؟ من سيمول ويدير عملية إعادة الإعمار الضخمة لتعويض الدمار الكبير الذى لحق بالقطاع؟ وما هى علاقة كل ذلك بالحل السياسى النهائى للقضية الفلسطينية؟
لدى إسرائيل تصور واضح للأشياء التى لا تريد أن تراها فى قطاع غزة بعد الحرب، لكن ليس لديها تصور مماثل للأشياء التى تريد أن تراها فى القطاع فى نهاية هذه الجولة من الصراع. كشفت إسرائيل عن بعض عناصر رؤيتها لليوم التالى، ومنها احتفاظ الجيش الإسرائيلى بوجود دائم وحرية حركة كاملة فى جميع أنحاء القطاع، وسيطرته بشكل كامل على حدود قطاع غزة مع العالم الخارجى، لكن دون تولى مسئولية إدارة الشرطة، أو الإدارة اليومية للشئون المدنية لسكان القطاع، والتى تسعى إسرائيل لوضعها فى يد سلطة تتشكل من أهل القطاع، لا تكون مرتبطة لا بحماس ولا بالسلطة الفلسطينية فى رام الله، فلا حماس ولا السلطة ستكونان جزءا من المشهد فى اليوم التالى فى التصور الإسرائيلى.
رؤية إسرائيل لليوم التالى غير واقعية، وسيغرق الجيش الإسرائيلى مرة أخرى فى نفس المستنقع الذى سبق له أن فر منه عام 2005، عندما كان أرييل شارون رئيسا للوزراء، وسيواجه الإسرائيليون حرب استنزاف ومقاومة متصلة بصورة دائمة، وستزيد فرص اشتعال الإقليم التى رأينا بعضا منها خلال الفترة الماضية.
ينتقد الأمريكيون غياب التصور الإسرائيلى لليوم التالى، ويرون أن غيابه يجعل إسرائيل كما لو كانت تحارب بلا هدف سياسى محدد، الأمر الذى ينذر بفوضى وفشل يدفع ثمنه الإقليم كله.الأمريكيون ينتقدون غياب تصور إسرائيلى، لكن تصورات الأمريكيين ليست فى الحقيقة أفضل كثيرا منهم. يفصل الأمريكيون بين سؤالى الأمن والسلطة، فيقترحون تولى قوة مكونة من دول عربية شئون الأمن فى قطاع غزة، فيما تتولى حكومة رام الله بعد تجديدها السلطة فى القطاع، بالتعاون مع ممثلين لأمريكا والاتحاد الأوروبى. يقترح الأمريكيون عملية إعادة إعمار تتحمل الدول العربية القسم الأكبر من تكلفتها، فيما يجرى الشروع فى التباحث حول بدء عملية سياسية يتم فى نهايتها إنتاج اتفاق لإقامة دولة فلسطينية.
قوة الأمن العربية وسلطة حكومة رام الله هى أكثر مكونات المشروع الأمريكى وضوحا، أما باقى المكونات فهى تصورات ووعود لا تختلف كثيرا عن وعود تم إطلاقها مرات كثيرة فيما مضى.
المشروع العربى لليوم التالى هو الأكثر تكاملا ووضوحا، وهو فى جوهره مشروع لإنشاء دولة فلسطين فى الضفة وغزة، تمارس السلطة الكاملة فيها السلطة الوطنية الفلسطينية، التى توفر الأمن وتدير المعابر، ضمن ترتيبات أمن إقليمى تضمن أمن فلسطين وإسرائيل بدعم من الولايات المتحدة والمجتمع الدولى، وخطة سخية لإعادة الإعمار بمشاركة دولية.
التصورات الإسرائيلية والأمريكية تركز كثيرا على المرحلة التالية مباشرة لانتهاء الحرب، فيما التصور العربى لا يتوقف طويلا عند ما أنتجته الحرب الراهنة، ليصل سريعا للحل النهائى المتمثل فى الدولة الفلسطينية.
التصور الإسرائيلى لليوم التالى هو تطبيق لمشروع الفصل العنصرى فى قطاع غزة بعد أن تم تطبيقه فى الضفة الغربية. التخلص من الفلسطينيين هو الخيار المفضل لدى إسرائيل، أما وقد استعصى عليها ذلك فسوف تخضعهم لنظام فصل عنصرى.
التصور الأمريكى لليوم التالى لا يقدم حلا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى انطلاقا من معالجة آثار الحرب الراهنة، ولكنه يسعى لمواصلة إدارة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وهى السياسة التى انتهت بنا فى الموقف العصيب الراهن. أخطر ما فى التصور الأمريكى هو توريط الدول العربية فى تولى مسئولية الأمن فى قطاع غزة، ليتولى العرب توفير الأمن، بما فى ذلك التصدى لأعمال المقاومة، بحيث يتم تعريب الصراع فى قطاع غزة، فيما يتم تجنيب إسرائيل التورط فى هذه المطحنة التى قد تأخذ أشكالا شديدة الخطورة.
التصور العربى لليوم التالى شديد الروعة إلى درجة تجعله صعب المنال وعصيا على التحقيق. تصورات العرب للدولة الفلسطينية عادلة ومتكاملة، لكن طريق الوصول من الواقع القبيح الراهن فى غزة والضفة وإسرائيل إلى هذا التصور الرائع يكتنفه غموض كثيف.
الحديث عن اليوم التالى سيتواصل، وستستمر المنافسة والتفاعل بين التصورات المختلفة، لكن ما سينتجه الواقع سيكون شيئا مختلفا تماما، وعندها سنعرف الشكل الذى سيكون عليه اليوم التالى.