عانى الاقتصاد المصري لأكثر من عامين من نقص حاد في السيولة الدولارية، الأمر الذي انعكس سلبًا على كافة مؤشرات الاقتصاد الكلي، فضلًا عن معاناة السوق داخليًا نتيجة لارتفاع الأسعار ونقص السلع نتيجة شح العملة التي أثرت في حركة الاستيراد والإفراج عن السلع من الموانئ، مما يستوجب معه العمل على مسارات متنوعة لضمان تدفق السيولة الدولارية لثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا والمرشح ليحتل الصدارة كأكبر اقتصادات القارة في ٢٠٢٧ بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
رأس الحكمة: الاتفاق الذي غيّر مسار الاقتصاد المصري
شكل اتفاق مشروع تنمية منطقة رأس الحكمة بالساحل الشمالي المصري مع ADQ القابضة الإماراتية متنفسًا لمصر من الأزمة والتي ضمنت لمصر تدفقًا دولاريًا مباشرًا بقيمة ٢٤ مليار دولار خلال النصف الثاني من العام المالي الجاري ٢٠٢٣/٢٠٢٤ -الذي ينتهي بنهاية يونيو المقبل- فضلًا عن توجيه ١١ مليار دولار من ودائع الإمارات لدى البنك المركزي المصري للاستثمارات المتعلقة بالمشروع.
كما أعلن الجانب الإماراتي أن المشروع من المتوقع أن يجذب ١٥٠ مليار دولار كاستثمارات مباشرة لمصر، فيما تحتفظ مصر بنسبة ٣٥٪ من أرباح المشروع سنويًا.
الاتفاق هو الأضخم في تاريخ الاقتصاد المصري كأكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر نجحت الحكومة في إبرامها في ظل تحديات اقتصادية ضخمة لعبت فيها العوامل الخارجية والتوترات الجيوسياسية عالميًا وإقليميًا دورًا ملحوظًا، وهي الخطوة التي تبعها تطورات مهمة شكلت نقلة للاقتصاد المصري في الفترة الراهنة كالتالي:
** أعلن صندوق النقد الدولي زيادة قيمة القرض الممنوح لمصر بموجب اتفاق التسهيل الائتماني الممتد حتى ٢٠٢٦ بـ١٦٦٪ ليرتفع من ٣ مليارات جنيه إلى ٨ مليارات جنيه مع إكمال المراجعتين الأولى والثانية اللتين ظلتا مجمدتين لأكثر من عام بسبب تبعات التوترات الجيوسياسية عالميًا وإقليميًا.
** بدأ الصندوق مؤخرًا مشاورات حصول مصر على تسهيل بقيمة ١.٢ مليار جنيه من خلال صندوقه للاستدامة والذي سيتم توجيهه لصالح المشروعات التي تنفذها مصر للحد من آثار تغير المناخ.
** عدلت مؤسسات التصنيف الائتماني الكبرى -موديز وستاندرد اند بورز وفيتش ريتينجس- نظرتها المستقبلية للتصنيف الائتماني المصري من مستقرة إلى إيجابية على خلفية التدفقات الدولارية التي بدأت في الدخول للسوق.
** أعلن عدد من المؤسسات المالية الكبرى وشركاء مصر عن حزم مالية لدعم الاقتصاد المصري تضمنت ٦ مليارات جنيه خلال ٣ سنوات من البنك الدولي، و٨ مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي حتى ٢٠٢٧، و٤٠٠ مليون دولار من المملكة المتحدة.
** شكل مجلس الوزراء المصري لجنة برئاسة وزيري قطاع الأعمال العام والإسكان مهمتها اختيار استشاري عالمي لوضع التصور الاستثماري الأمثل لمنطقة رأس جميلة المطلة على البحر الأحمر بعد ورود طلبات لاستغلال المنطقة من مستثمري الخليج على خلفية اتفاق رأس الحكمة.
هذه التطورات تبرهن ليس فقط على نجاح التصور المبدئي لمشروع رأس الحكمة ولكن أيضًا على قدرة مصر على الوفاء بالتزاماتها الخارجية على خلفية الموارد الدولارية الموجهة للبلاد والتي بعثت برسالة طمأنة للمستثمرين بأن المسار الاقتصادي المصري على طريق التصحيح رغم التحديات الجسيمة التي تفرضها التوترات في المنطقة والتي أثرت بإيرادات قناة السويس -من أهم الموارد الدولارية لمصر- نظرًا لتوترات البحر الأحمر التي أثرت في نشاط الممر الملاحي للقناة والتي قدرتها وزارة المالية مؤخرًا بـ٦٠٪ خسائر في الإيرادات.
انخفاض الاحتياجات التمويلية لمصر بنهاية العام المالي الحالي
قدر جولدمان ساكس الاحتياجات التمويلية لمصر خلال الربع الثاني من ٢٠٢٤ بنحو٧٢٤ مليار جنيه من أصل ١.٦ تريليون جنيه كاستجابة للتمويلات المسبقة المعلنة لمصر والتدفقات الدولارية الموجهة لمصر من اتفاق رأس الحكمة حتى نهاية السنة المالية الحالية ٢٠٢٣/٢٠٢٤.
تحديات قائمة
قالت فيتش ريتينجس في تقريرها عن التصنيف الائتماني لمصر -والتي أبقت على تصنيف مصر عند بي السالبة-: إنه من المتوقع أن ينخفض إجمالي دين الحكومة إلى ٨٤.٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية السنة المالية المقبلة ٢٠٢٤/٢٠٢٥، من 95.9% بنهاية السنة المالية ٢٠٢٢/٢٠٢٣، وذلك بفضل الفوائض الأولية والنمو القوي جدًا في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، ولكن لا يزال أعلى بكثير من متوسط ‘ب’ الحالي البالغ 57.9%. تتضمن فيتش تعديلات تعزز الدين بمتوسط قريب من 3% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى هذه الفترة لتعكس سجل مصر في الإنفاق المالي خارج الميزانية. وفي ضوء ذلك قالت فيتش: إن هناك نقص في الرؤية حول القطاع العام الأوسع في مصر الكبير والمعقد، مما يخلق عدم اليقين بشأن حجم الالتزامات المحتملة ويضيف إلى المخاطر المالية.
كما تطرق التقرير إلى النزاع الإقليمي الذي يولد المزيد من المخاطر على قطاع السياحة وإيرادات قناة السويس، والتي توقعت انخفاضها بنسبة ٦٪-١٩٪ على التوالي في السنة المالية الحالية ٢٠٢٣/٢٠٢٤. على الرغم من أن الضربات المباشرة الأخيرة بين إيران وإسرائيل قد زادت من مخاطر التصعيد خارج غزة. وتظل حالة الأساس لدى فيتش أن الحكومة المصرية تمنع أي تدفق كبير للاجئين من غزة. بالإضافة إلى ذلك، تواجه مصر تحديات كبيرة نتيجة للتضخم المرتفع والتحديات الهيكلية التي تشمل ارتفاع معدل البطالة بين الشباب وضعف الحوكمة.
رغم تراجع معدلات التضخم في مصر لشهرين متتابعين (مارس-أبريل)، إلا أن المعدل لا يزال بعيدًا جدًا عن مستهدف البنك المركزي للتضخم المحدد بسقف ٧٪ (±٢٪) في الربع الرابع من العام الحالي وعند ٥٪ (±٢٪) في الربع الرابع من عام ٢٠٢٦.
اللحظة الراهنة هي لحظة فارقة لاقتصاد عانى كثيرًا منذ انتشار وباء كورونا في ٢٠٢٠ مرورًا بالحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في مارس ٢٠٢٢ ثم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في أكتوبر ٢٠٢٣. أربع سنوات من التحديات الضخمة التي ضغطت على الاقتصاد المصري ووضعته في مواجهة أزمات حادة أبرزها نقص السيولة الدولارية وانتعاش سوق العملة الموازية مع تراجع في تحويلات المصريين بالخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
في السطور التالية عدد من المقترحات التي من المتوقع أن تساهم في تعظيم العائد من التدفق الدولاري الحالي وكذلك استدامة السيولة الدولارية مستقبلًا:
** حصر المناطق الاستثمارية المميزة في مصر وخاصة الساحلية منها وأعداد تصور للترويج لها خاصة في منطقة الخليج نظرًا لشهية المستثمرين الخليجيين للاستثمار في المناطق السياحية وباعهم الطويل والناجح في هذا المجال.
** استثمار التعهدات المالية المعلنة لمصر من مؤسسات التمويل الدولية والشركاء الدوليين بما يعظم العائد من هذه التمويلات وتحويلها من عبء كونها قروضًا إلى فائض في السيولة يتم توجيهها إلى السوق بما يؤدي في الوقت ذاته إلى القضاء بشكل نهائي على السوق الموازي للعملة.
** تبني مشروع قومي بمشاركة القطاع الخاص للتوسع في توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية التي تتمتع بها مصر وتشجيع المواطنين على بناء الألواح الشمسية لتوليد الطاقة ومن ثَمّ بيعها للحكومة بأسعار مناسبة. ويمكن هنا الاستفادة من خبرة دول أوروبية عديدة أصبح المواطنون بها هم مصدر تزويد الحكومات بالطاقة النظيفة. هذا المشروع سيسهم بلا شك في الحد من فاتورة استيراد الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وما يستتبعه من توقف خطة تخفيف الأحمال التي التجأت إليها الحكومة نظرًا لعدم وصول السيولة الدولارية للمستوى الذي يغطي تكلفة استيراد الغاز.
** إعادة النظر في جدولة برنامج الحكومة للطروحات، خاصة وأن مصر تستهدف استخدام ٥٠٪ من حصيلة التخارجات وبيع الأصول المملوكة للدولة في النزول بسقف الدين من ٩٦٪ في العام المالي المنتهي ٢٠٢٢/٢٠٢٣ إلى ما دون ٨٠٪ بنهاية برنامج الموجة الثانية من الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية المدعوم تمويليًا من صندوق النقد الدولي. الإسراع في تنفيذ البرنامج مع وضع محفزات للقطاع الخاص تسهم في استدامة التدفق الدولاري خاصة وأنها قد تشجع المستثمرين على استغلال فرص أخرى خارج برنامج الطروحات والتي من بينها المنشآت الحكومية التي أصبحت غير مستخدمة نظرًا لانتقالها للعاصمة الإدارية الجديدة على سبيل المثال.
** فتح حوار عاجل مع المستثمرين المحليين والأجانب في مصر للوقوف بدقة على المشكلات التي تواجههم في الوقت الراهن واتخاذ إجراءات عاجلة لحل هذه المشكلات، مما يبعث برسالة قوية للمستثمرين بأن مناخ الاستثمار في مصر في تحسن، مما يستتبعه التوسع المحتمل في الاستثمارات القائمة ودخول استثمارات جديدة.
** ترك سعر الصرف ليكون خاضعًا بشكل كامل لقوى العرض والطلب في السوق المحلي، مما يستتبع تقدير سعر الجنيه بسعره العادل في مقابل العملات المختلفة وهو ما سيحفز المستثمرين الجدد على الدخول إلى السوق نظرًا لتنافسية الجنيه، ويشجع المستثمرين الحاليين على التوسع وتوفير فرص عمل بشكل أكبر وهو ما سينعكس إيجابًا على معدلات نمو الناتج الإجمالي الحقيقي للبلاد (النمو الاقتصادي) ويدعم توجه مصر لزيادة حصة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي التزامًا بتعهداتها لصندوق النقد الدولي.