شهد شهر مارس الماضي مرور خمسة وأربعين عامًا على توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وهي اتفاقية تاريخية أسهمت في وقف الحرب الرئيسية بين العرب وإسرائيل وأرست الأساس لمنظومة أمنية جديدة في الشرق الأوسط. جاءت معاهدة السلام تتويجًا لجولات مفاوضات بدأت في قمة كامب ديفيد عام 1978، بقيادة الرئيس المصري أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، والرئيس الأمريكي جيمي كارتر.
مع توقيع معاهدة السلام، دخلت مصر وإسرائيل في مرحلة بناء علاقات قائمة على الثقة والتعاون، وقد كانت هذه المسيرة محفوفة بالتحديات، نظرًا لماضي البلدين في الصراع وانعدام الثقة المتبادلة. فبدعم واضح من واشنطن، التي قامت بدور الضامن لامتثال الطرفين لنصوص المعاهدة، انتقلت العلاقات المصرية- الإسرائيلية التي اتسمت في العقود الأولى من توقيع الاتفاق بما يطلق عليه “السلام البارد” إلى مرحلة يتعاون فيها البلدان في المسائل الأمنية على أساس من الثقة المتبادلة. لعل أحد أبرز الأمثلة على هذا التعاون تجلى في التعاون الأمني طويل الأمد على الحدود بين مصر وإسرائيل وقطاع غزة الخاضع لسيطرة حماس. والحق أن هذا التعاون تجاوز الشروط التقييدية في اتفاق السلام التي نصت في البداية على منع انتشار قوات من الجيش أو حرس الحدود على حدود مصر الشرقية.
استمر هذا الوضع حتى عام 2005، عندما انسحبت إسرائيل من قطاع غزة دون تنسيق مُسبَق مع أي طرف، مما استلزم إعادة النظر في الترتيبات الأمنية التي أقرتها اتفاقات كامب ديفيد ومعاهدة السلام (1978-1979). وهنا جاء التوقيع على اتفاق فيلادلفي، المعروف رسميًا باسم “الترتيبات المتفق عليها فيما يتعلق بنشر قوة من حرس الحدود المصري في رفح الفلسطينية” بين مصر وإسرائيل في 1 سبتمبر 2005، وذلك بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، بهدف تنسيق الأدوار على طول حدود غزة، وخاصة عند معبر رفح. يهدف الاتفاق في جوهره إلى تسهيل إجلاء القوات الإسرائيلية من محور فيلادلفي، ومنع تهريب الأسلحة من مصر إلى غزة، والتصدي لعمليات التسلل والأنشطة الإجرامية الأخرى لشبكات التهريب والشبكات الإرهابية. ونتيجة لذلك، وافقت مصر على انخراط أمني أكبر في مراقبة الحدود.
وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لمعاهدة السلام، فقد مرت ذكراها الخامسة والأربعون دون احتفاء يذكر من الطرفين. فالصراع المستعر في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 والذي أودى بحياة أكثر من 36.000 شخص معظمهم من المدنيين ألقى بظلاله التي طغت على ذكرى الاتفاق. ففي أعقاب الهجوم الذي شنته حماس والذي أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص وأسر ما يقرب من 250 من الرهائن، قامت إسرائيل باجتياح جوي وبري لقطاع غزة بأكمله مما أسفر عن أزمة إنسانية ضخمة. إن تركيز القادة الإسرائيليين، بما في ذلك رئيس الوزراء نتنياهو، ووزير الدفاع جالانت، والمتطرفين الدينيين اليمينيين أمثال سموتريش وبن جفير، منصب على استعادة الرهائن وتدمير البنية التحتية العسكرية لحماس، مما يشير إلى صراع دموي طويل الأمد.
وخلال الفترة من أكتوبر 2023 إلى مايو 2024، كثفت مصر جهودها الدبلوماسية لوقف الحرب في غزة وتخفيف الأزمة الإنسانية. ورغم أن هذه الجهود لم تفضِ إلى حل مباشر إلا أنها أكدت الدور المحوري الذي تلعبه مصر كوسيط رئيسي في المنطقة والتزامها بالاستقرار والسلام في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، عارضت مصر بشدة أي محاولات لإعادة توطين الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء، خوفًا من استدامة هذه الخطوة وتقويض الأمن القومي المصري. من جانبه، أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مثل هذا التهجير من شأنه أن يقوض القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من معارضتها خطة التوطين، لم تتوان مصر عن تقديم المساعدات الإنسانية والطبية للجرحى في غزة. وفي الآونة الأخيرة، ومع تعرض البنية التحتية الصحية في رفح لضغوط شديدة، عمل الهلال الأحمر المصري مع المنظمات المحلية لإنشاء مرافق طبية إضافية ومراكز قيادة لتعزيز قدرة القطاع الصحي وتوفير الخدمات الأساسية للأعداد المتزايدة من النازحين في رفح.
فيما يخص المفاوضات، ركزت الوساطة المصرية على ضمان وقف دائم لإطلاق النار بين الحكومة الإسرائيلية وقيادة حماس. أحد العناصر المهمة في جهد الوساطة المصري تمثل في خطة تتضمن هدنة إنسانية وصفقة لتبادل الأسرى حيث تقوم حماس بإطلاق سراح الرهائن المدنيين مقابل إطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، فضلًا عن إدخال مساعدات إنسانية ضخمة إلى غزة لمواجهة النقص الحاد في الغذاء والمياه والإمدادات الطبية. وفي ذلك كله، عملت مصر بشكل وثيق مع دول أخرى، بما في ذلك قطر، التي لعبت أيضًا دورًا مهمًا في الوساطة بين الحكومة الإسرائيلية وحماس. كما كان لمصر دور فعال في جهود الوساطة التي جرت في أوائل مايو 2024 للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة. وقبلت حماس شروط المقترح، الذي تضمن خطة من ثلاث مراحل تشمل وقف الأعمال العدائية، وانسحاب القوات الإسرائيلية، ومبادرة لإدخال مساعدات إنسانية ضخمة. إلا أن نتنياهو رفض المقترح واتجه بدلًا من ذلك إلى السيطرة على محور فيلادلفي، وهو ما واجه معارضة شديدة من القاهرة.
وبمرور الوقت، بدأ صبر الدبلوماسية المصرية ينفد، خاصة مع الإخفاق المتكرر لجهود الوساطة وتفاقم الأزمة الإنسانية. فإسرائيل، التي لم ترسل ممثلين عنها في الجولة الأخيرة من الوساطة، فرضت قيودًا صارمة على إدخال المساعدات من قِبَل منظمات مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). بالإضافة إلى ذلك، استهدفت قوات الدفاع الإسرائيلية بشكل متكرر العاملين في مجال الإغاثة، للاشتباه في صلات تربطهم بحماس. وعلى الرغم من التنازلات التي قُدِمَت من حين لآخر بشأن إدخال المساعدات في ظل الضغوط الدولية، فإن حجم المساعدات ومعدل دخولها لم يكن كافيًا على الإطلاق.
ففي حين تم السماح بإدخال بعض شحنات الإمدادات الطبية والمواد الغذائية، إلا أنها كانت ضئيلة ولم تصل إلى جميع المحتاجين. وتعرضت الحكومة الأمريكية -الحليف الاستراتيجي لإسرائيل والتي تزودها بالأسلحة المتطورة- لضغوط لاتخاذ موقف حازم لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.وفي هذا الصدد، أدان مسؤولو الأمم المتحدة، بمن فيهم الأمين العام أنطونيو غوتيريس، الحصار على غزة. وخلال زيارة له إلى معبر رفح الحدودي في مارس 2024، وصف غوتيريس الحصار بأنه “فضيحة أخلاقية” ودعا إسرائيل على إزالة جميع العقبات التي تحول دون دخول المساعدات. كما سعت السلطات في مصر والأردن إلى تخفيف الحصار، حيث تعمل مصر على تسهيل إيصال المساعدات عبر معبر رفح رغم التحديات اللوجستية والأمنية.
وردًا على التهديد بغزو إسرائيلي واسع النطاق لرفح، اتخذت مصر خطوات أكثر حزمًا تتجاوز دورها التقليدي كوسيط. فبعدما ثَبُت للإدارة المصرية أن الجهود الدبلوماسية غير كافية، صعدت مصر إجراءاتها من خلال توجيه تحذيرات أشد لإسرائيل. انعكس ذلك في دعم الدبلوماسية المصرية للدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، مؤكدة مزاعم جرائم الحرب المُرتَكَبة في غزة. علاوة على ذلك، هددت مصر بخفض العلاقات الدبلوماسية وربما سحب سفيرها من إسرائيل، مما يشير إلى تصعيد ملحوظ في الجانب الدبلوماسي. لكن رغم ذلك، أكدت القاهرة في الوقت نفسه على أن معاهدة السلام ليست على المحك.
إن وقفة تقييمية للجهود التي تبذلها مصر لحل الصراع تكشف لنا أن الدبلوماسية المصرية تصاعدت تدريجيًا من الضغوط على إسرائيل بينما تجنبت في ذات الوقت تصعيد حدة التوترات في العلاقات المتأزمة بالفعل. هذه العقلانية في الموقف المصري تأتي في سياق هزت فيه حرب غزة مشاعر الشعوب في مختلف أنحاء العالم العربي، بما في ذلك المجتمع المصري، وهو ما يعكس النهج “الرزين” الذي تتبعه مصر في التعامل مع الأزمة، والذي يراعي الفرص الواقعية لممارسة الضغط على حكومة نتنياهو ويرصد عن كثب سلوك الجهات الفاعلة الدولية الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول الأوروبية والمملكة العربية السعودية وقطر والأردن ودول أخرى (مثل الصين أو جنوب أفريقيا)، وتُعَدِل تحركاتها وفقًا لذلك. في الوقت نفسه، تعمل القاهرة على ضمان عدم اضطراب المنظومة الأمنية الراهنة في الشرق الأوسط، وهي مهمة تتطلب رباطة جأش وحكمة وإرادة. في نطاق الدبلوماسية، فإن الهدف دائمًا هو زيادة فرص تحقيق النتيجة المرجوة، وليس الاندفاع وراء العواطف. لكن على أي حال، قد لا تكون حكومة نتنياهو مهتمة في إنهاء الحرب بسرعة، لأن الصراع المستمر في غزة يمكن أن يعزز بقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي في منصبه. إن نتنياهو بمناهضته الضغوط الدولية (حتى من واشنطن) المفروضة عليه يخاطر بكل شيء في سبيل هدف واحد: البقاء السياسي.
وفي هذا السياق، يتعين على الدول العربية، بما فيها مصر، أن تعمل معًا من أجل إحلال السلام في غزة (بشكل يمهد لحل الدولتين) وأن تمارس ضغوطًا على الولايات المتحدة، باعتبارها الدولة الوحيدة القادرة على التأثير على إسرائيل. وبالنظر إلى المصالح الأمريكية، يمكن للعالم العربي أن يوظف استراتيجيًا “ورقة الضغط الأوكرانية” التي تحظى بأهمية بالغة لدى إدارة بايدن. فالدول العربية تنتقد الولايات المتحدة لازدواجية معاييرها، حيث أن واشنطن تدين بشكل صريح الغزو الروسي لأوكرانيا لكنها لا ترغب في فرض عقوبات على إسرائيل، التي تسعى إلى تدمير حماس بأي ثمن، ناثرة الخراب والموت على عزة، أو ما بات يُسَمى أكبر سجن مفتوح في العالم. فالدول العربية تتوقع بذلك إدانة أمريكية واضحة للاجتياح الإسرائيلي إلا أنها تبقى “محايدة” فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية، مما دفع المراقبين الخارجيين إلى اتهامها بازدواجية المعايير هي الأخرى.
ففي نهاية المطاف، يلقى الأوكرانيين حتفهم أيضًا بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي دولة ذات سيادة. فلو اتخذت الدول العربية موقفًا أكثر حزمًا وأظهرت للولايات المتحدة تساميها فوق المصالح الضيقة في مواجهة أزمة إنسانية خطيرة، فسيكون من الصعب على إدارة بايدن رفض الحجج العربية – خاصة إذا كانت واشنطن مهتمة بالتطبيع الكامل بين العرب وإسرائيل، بما في ذلك إبرام اتفاقية تطبيع إسرائيلية-سعودية. مِثل هذا التطبيع غير ممكن طالما ظل نتنياهو في الحكم، لكن في ظل تراجع شعبيته، فقد يكون منطقيًا توقع اقتراب سقوطه السياسي. في حقبة جديدة محتملة كهذه، سيكون على الدول العربية، وخاصة مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، أن تؤدي أدوارًا محورية.