مؤكد أن الدكتور مصطفى مدبولى منهمك هذه الأيام فى اختيار أعضاء الحكومة التى كلفه الرئيس عبدالفتاح السيسى بتشكيلها. مناسبة كهذه تتيح الفرصة لتذكير أنفسنا بالمهمة الكبرى التى نحن بصددها، وإن كنا نميل لنسيانها تحت ضغط الأزمات اليومية الصغيرة. تقدم مصر ونهوضها للالتحاق بمصاف الدول التى تحررت من الفقر والتخلف. هذه هى المهمة التى تواجهنا، وهذا هو واجب الوقت الذى لا بديل له، وهذا هو المطلوب لجمهورية جديدة هى مشروع تنموى فى المقام الأول.
لقد عشت طويلا بما يكفى لرؤية عديد الحكومات تتشكل وتنفض لإدارة نفس مشكلات غلاء المعيشة وانخفاض الدخول وتراجع التعليم وعجز الموازنة وقلة الصادرات وشح العملات الأجنبية وفاتورة الدعم المرتفعة. هناك نجاحات وإنجازات تحدث فى هذا المجال أو ذاك، إلا أن التقدم الذى يمنحنا دفعة قوية تخرجنا من سجن الفقر والتخلف، وتحررنا من الانشغال الدائم بهذه الهموم؛ هذه الدفعة القوية لم تحدث أبدا، ولهذا نجد أنفسنا دائما عند نفس النقطة، نطرح نفس الأسئلة، ونكرر نفس التحليلات والأفكار، ونستخدم نفس الحجج، وكأن قطار الحياة والتاريخ يقف بنا فى المحطة نفسها لا يغادرها.
لتكن البداية من الحكومة الجديدة الجارى تشكيلها الآن. وأدعو الدكتور مدبولى إلى أن يسأل كل واحد من المرشحين الذين يلتقيهم عن تصوره للطريقة التى يمكن لمصر بها أن تصبح كوريا أو تايوان أو «صين» جديدة فى الشرق الأوسط، بحيث يفوز بالمنصب الوزارى الأقدر منهم على تقديم تصور مقنع قابل للتنفيذ فى المجال المرشح لتولى مسئوليته، والقادر على تحويل تصوره إلى خطة عمل، تتضمن مؤشرات يمكن قياسها للتأكد من أننا نسير فى الطريق السليم.
أغلبنا يتذكر الأيام التى كنا فيها نصف المنتجات المنخفضة الجودة الرديئة الصنع بأنها تايوانى. تحسنت جودة منتجات الصناعة التايوانية، وحلت الصين محلها كمصدر للمنتجات الصناعية الرخيصة المحدودة الجودة، ثم تجاوزت الصين هذه المرحلة، وأصبحت مصنع العالم، الذى يصدر لكل البلاد كل أنواع المنتجات عالية ومنخفضة الجودة. عبر هذه الرحلة انتقلت تايوان وبعدها الصين من الفقر وضيق ذات اليد إلى الستر والثروة، ومن التخلف إلى التقدم.
طوال رحلة صعود تايوان والصين، ومعهما كوريا وسنغافورة وماليزيا، بقينا نحن واقفين عند نفس النقطة، فمصانعنا لا تقدم لنا سوى القليل من المنتجات، وحتى لو كان بعض هذه المنتجات عالى الجودة، فإنها قليلة إلى درجة لا تكفى لإخراج مصر من الفقر والتخلف، والأهم من ذلك أنها منتجات منخفضة القيمة المضافة، ليس فيها سوى مكون تكنولوجيا وابتكار محدود، تعتمد بكثافة على تصنيع خامات محلية. لدينامثلا صناعة المنسوجات والملابس المصرية، التى وإن كانت ممتازة إلا أنها لا تنطوى إلا على قيمة مضافة قليلة. قارن مثلا القيمة المضافة فى مفروشاتنا القطنية الرائعة بالقيمة المضافة فى تليفون محمول تنتجه كوريا، أو حاسب تنتجه تايوان، أو سيارة تنتجها المملكة المغربية. النسيج والملابس والصناعات الغذائية والجلود ومواد البناء والأسمدة هى أهم منتجات صناعتنا، فيما أصبحت تايوان المنتج رقم واحد للرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات فى العالم، حيث تسهم بأكثر من خمسين بالمائة من الإنتاج العالمي. أما الصين فهى المنتج الأكبر لألواح الطاقة الشمسية وتوربينات طاقة الرياح والسيارات الكهربية العالية الجودة، حتى إن الملياردير المغرور إيلون ماسك، صاحب شركة تسلا الشهيرة، طلب حماية الحكومة الأمريكية للسيارات الكهربية التى ينتجها من المنافسة الصينية، وهو ما استجابت له الحكومة الأمريكية بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على السيارات الكهربية القادمة من الصين.
أعود إلى حكومة الدكتور مصطفى مدبولى الجديدة لأقول إن مصر ليست فى حاجة إلى وزراء لإدارة الأزمات، وإنما تحتاج إلى وزراء يخرجون بمصر من حلقة الأزمات المفرغة، إلى رحابة التقدم والوفرة. مصر تحتاج إلى وزراء تصيبهم غيرة حارقة عندما يشاهدون التقدم الذى يحققه آخرون فى بلادهم فيما نحن ندور فى فلك الأزمات نفسها.نحتاج وزراء مهووسين بالتقدم، لديهم معيار وحيد للحكم على أى مشروع أو قرار يعرض لهم، فلا يملون من السؤال عما إذا كان أى مشروع يتم عرضه عليهم يسهم فى نقل مصر من نطاق الأزمات إلى رحابة النهوض. نحتاج إلى وزراء لا يتباهون بأننا نتصدر قارة إفريقيا فى هذا أوذاك من الأمور، كما لو كان فى هذا التصدر سبب للفخر والرضا عن الذات، ولا يترددون، بالمقابل، فى مقارنة إنجازاتنا بأمم ناهضة حقيقية، من أجل التحفيز وإثارة الغيرة ورفع مستوى الطموحات وتأكيد جديتنا فى اللحاق بالمتقدمين.
الانشغال بالنهوض والتقدم لا يعنى تجاهل الأسئلة الملحة المتعلقة بالأجور والأسعار ودعم الخبز والوقود والتضخم وعجز الموازنة وسعر الصرف ونقص المدرسين وامتحانات الثانوية العامة، فهذه أسئلة لا يمكن تجاهلها. لكن فى ظل حكومة مشغولة بالتقدم يجرى حل هذه المشكلات، ليس من أجل إطفاء الحرائق أو إرضاء أصحاب الصوت العالى، وإنما من أجل تحقيق نهوض يخرجنا من حلقة العوز والتخلف الجهنمية. فالنظام الضريبى الذى يسد عجز الموازنة لكنه يدفع المستثمرين للهروب لا يحقق التقدم ولا يلزمنا. والحلول التى تسهل أنشطة الاستيراد والتجارة فيما تتجاهل حاجة الابتكار والصناعة للرعاية والحماية لا تلائمنا. ونظام التعليم الذى ينتج عقولا تفهم قليلا وتحفظ كثيرا لا يناسبنا حتى لو رضى عنه كل أولياء الأمور. هذه هى الروح الجديدة التى نحتاجها.