بعد احتكاره للمشهد السياسى فى جنوب إفريقيا لمدة 30 عاما، تراجعت شعبية حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى بشكل صادم فى الانتخابات التى تم الإعلان عن نتائجها يوم الاحد الماضي. تراجعت نسبة التأييد من 58% من الأصوات التى فاز بها فى انتخابات عام 2019، الى 40% فى الانتخابات الحالية، لتشكل بذلك أسوأ نتيجة له على الإطلاق.
حصل حزب المؤتمر الوطنى على 159 مقعدا من أصل 400 فى الجمعية الوطنية. وجاء فى المركز الثانى حزب التحالف الديمقراطى بنسبة 22%، وهو حزب وسطى ذو توجه ليبرالي. ثم حزب أومكونتو وى سيزوى، الذى أسسه الرئيس السابق جاكوب زوما، محققا 15% من الأصوات. بينما احتل حزب المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية، ذو التوجه الاشتراكى، المركز الرابع بنسبة 9%. فيما بلغت نسبة المشاركة 58.6%.
التراجع الكبير لأقدم حركة تحررية فى إفريقيا يعود لمجموعة من الاسباب، أبرزها ما تواجهه البلاد من معدلات بطالة تعتبر هى الأعلى فى العالم، ونقص الكهرباء والمياه، وتفشى الجريمة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتفاقم قضايا الفساد، مما أثر على الثقة بالحزب الذى فشل فى الوفاء بشكل كامل بوعوده بتحسين التعليم وتوفير المياه والسكن للجميع. فى المقابل، تزايدت شعبية باقى الأحزاب، التى من المتوقع ان يكون لها دور بارز فى المشهد السياسى الجنوب إفريقى مستقبلا.
ستجتمع الجمعية الوطنية، أعلى هيئة تشريعية فى البلاد، فى غضون أسبوعين من الإعلان الرسمى لنتائج الانتخابات لاختيار رئيس جديد. من ناحية، يفضل مسئولو حزب المؤتمر الوطنى استمرار الرئيس سيريل رامافوزا لولاية ثانية. ومن ناحية أخرى، يلقى التيار المعارض داخل الحزب اللوم فى هذا التعثر الانتخابى على الرئيس المنتهية ولايته، وقد يحاولون استبداله، ربما، بنائبه بول ماشاتيل. فى جميع الحالات دون الأغلبية المطلقة، لم يعد بإمكان حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى أن يختار رئيسا للبلاد، ما يعنى الحاجة للبحث عن حلفاء.
من المفترض أن يقدم حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى على محادثات، مع واحد او أكثر من الأحزاب السياسية لتشكيل حكومة ائتلافية، ستكون هى الأولى من نوعها فى تاريخ ما بعد حقبة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا. سيكون من الصعب ان تساعد الأحزاب الصغيرة حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى فى الحفاظ على هيمنته، وسيتعين عليه التعاون مع بعض الأحزاب الكبرى التى طالما تبادل معها الانتقادات والاتهامات خلال الحملة الانتخابية.
من السيناريوهات المطروحة أن يتحالف حزب الأغلبية مع التحالف الديمقراطي. هذا قد يعزل بعض مؤيدى الحزب الأساسيين فى بلدات السود والمجتمعات الريفية. كما ان التوصل الى اتفاق مع التحالف الديمقراطى يعنى المرور بمعركة بشأن بعض القضايا الحكومية المتنازع عليها. السيناريو الثانى هو التحالف مع حزب أومكونتو وى سيزوي. العلاقات المتضاربة مع الرئيس السابق جاكوب زوما قد تجعل التوصل إلى اتفاق مع حزب المؤتمر أمرا غير مرجح ولكن غير مستبعد ايضا. اذا تم ذلك فسيقوض موقف حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى فى مكافحة الفساد. السيناريو الثالث هو التحالف مع حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية. هذا التحالف قد يدفع حزب المؤتمر نحو اتجاه اشتراكى لا يرغب فيه. فى هذه الحالة قد تبتعد سياسة الحكومة المقبلة عن اتجاهات رامافوزا المؤيدة للأعمال التجارية وتشجيع القطاع الخاص، وتتجه نحو تعزيز سياسات التمكين الاقتصادى للسود من خلال مصادرة الأراضى دون تعويض وتأميم موارد الدولة.
يبدو أن جنوب إفريقيا تتجه نحو اللايقين السياسى بعدما غيرت نتائج انتخابات 2024 المشهد السياسى بشكل كامل. البلاد تتحول من نظام الحزب المهيمن إلى نمط التعددية الحزبية. مع هذه التحولات السياسية تقف جنوب إفريقيا على أعتاب مرحلة جديدة تحمل تحديات كبيرة أمام الحكومة المقبلة.
سياسيا، يجب التسليم بنهاية حقبة الحزب الواحد. لضمان تعددية حزبية ومن أجل تفادى الانقسامات السياسية والاجتماعية هناك حاجة لتعزيز ثقافة الحوار والتفاهم بين مختلف الاطياف، بالإضافة الى مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والحوكمة الجيدة. اقتصاديا، الى جانب البطالة والفقر، تعانى جنوب إفريقيا تفاوت الفرص بين الطبقات الاجتماعية. هذا الوضع يستدعى خلق فرص عمل جديدة وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وتحقيق توازن أكبر فى التوزيع العادل للثروة وتقليص الفجوات بين الفئات الاجتماعية. اجتماعيا، جنوب إفريقيا فى حاجة إلى تطوير نظام تعليمى قوى يمكن الشباب من اكتساب المهارات اللازمة للعمل والمساهمة فى التنمية الاقتصادية.
كيفية تعامل الحكومة المقبلة مع هذه التحديات سيحدد مسار البلاد فى السنوات المقبلة.