عكست أجواء الاحتفال بالذكرى السبعين على تأسيس حلف شمال الأطلسي NATO التي أُقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية، إمكانية تجاوز بعض التحديات التي يمر بها الحلف حاليًّا، ولا سيما التحديات ذات الطابع الاقتصادي، مثل قضية تقاسم الأعباء المالية، في ظل رفض الولايات المتحدة تحملها النسبة الأكبر من هذه الأعباء، وفي ظل تقاعس العديد من دول الحلف عن الوفاء بالتزاماتهم المالية المقررة وفقًا لاتفاق ويلز 2014. لكن ثمة تحديات أخرى يواجه الحلف صعوبات في تجاوزها، وتحوي قدرًا من الخلافات داخل مجلس الحلف في ظل عدم قدرة أعضائه على الموازنة بين اعتبارات الأمن القومي والمصالح الخاصة مقابل متطلبات الأمن الجماعي، ومنها تباين وجهات النظر حول طبيعة التهديدات التي تواجه الأمن الأوروبي وآليات التعامل معها، إضافة إلى قضايا هيكلية أخرى منها: تبني تركيا سياسات أمنية وعسكرية تمثل تحديًا لمنظومة عمله، وأيضًا تبني ألمانيا وفرنسا مشروع إنشاء جيش أوروبي موحد، وهو ما تعارضه الولايات المتحدة وتعتبره ازدواجية غير ضرورية.
في هذا الإطار، نظّم قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مقر الحلف في بروكسل خلال يومي (3-4) أبريل عدة جلسات لخبراء وإعلاميين للتعريف برؤية الحلف تجاه القضايا المطروحة حاليًّا على جدول أعماله، وموقفه إزاء قائمة التهديدات والمخاطر التي تتعرض لها دوله وآليات التعامل معها.
وتطرقت تلك النقاشات إلى ملفات عديدة، استحوذ التصعيد الروسي مع الناتو على النصيب الأكبر منها، حيث استعرض المتحدثون العديد من القضايا في هذا الملف، ومنها: الصعود العسكري الروسي والتمدد الواسع خارج الحدود، والتحركات الروسية في شبه جزيرة القرم وشرق المتوسط، إضافة إلى مخاوف الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة INF. كما تناولت المناقشات رؤية الحلف لأنماط التهديدات غير التقليدية، ومنها التحولات التي يشهدها ملف الإرهاب بعد هزيمة “داعش”، وبوادر الموجة الثانية مع انتقاله لمناطق جديدة، وما يشكله خطر العائدين المنتمين للتنظيم من سوريا والعراق إلى دولهم في ظل غياب خطة متكاملة وواضحة للتعامل معهم. أضف إلى ذلك التهديد السيبراني الذي تعرضت له بعض دول الحلف ولا تزال عرضة للمزيد منه. كما تناول النقاش مستقبل المهام الخارجية للحلف، خاصة في أفغانستان في ظل المفاوضات الجارية حاليًّا مع حركة طالبان.
روسيا: تهديد محوري
وفقًا لمعظم خبراء ومسئولي الحلف المشاركين في جلسات النقاش، تشكل روسيا محور التهديدات الرئيسية التي تواجه الحلف. ويرى مسئولو الحلف أن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، وما تبعه من نشر مجموعات قتالية على الحدود الشرقية للحلف، يمثل متغيرًا مهمًّا في العلاقة بين الجانبين، باعتباره حدثًا فارقًا بين ما سبقه وما تلاه، وهو ما دفع الحلف إلى تبني سياسات ردع ودفاع تجاه روسيا، حيث قام الحلف -في المقابل- بنشر ألوية عسكرية على حدوده الشرقية في رومانيا وبولندا، ورفع درجة الاستعداد لمواجهة التصعيد المحتمل من خلال تعزيز وتيرة الانتشار في أوروبا، وزيادة المناورات والفعاليات العسكرية، بجانب نشر دوريات لمراقبة الأنشطة العسكرية الروسية.
وحول احتمالات تحول التصعيد المتبادل بين روسيا والحلف إلى صدام، يقول أحد مسئولي الملف: “إن سياسة التعامل مع روسيا تبدو كعملة ذات وجهين، فمنذ عام 2014 فرضت روسيا على الناتو نمطًا عدائيًّا تمثّل في العديد من السلوكيات، منها الهجوم على الجيران، ورفع وتكثيف مستوى التمارين العسكرية ذات الطابع الهجومي دون شفافية أو إجراءات رقابية أو توضيح الدوافع. كما صعّدت روسيا في الجانب الخاص بالتسلح، خاصة ما يتعلق بانتهاك معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة INF Treaty، ما دفع الحلف إلى تبني سياسات الردع والدفاع الواجب اتخاذها لحماية أعضائه. وعلى الوجه الآخر من العملة هناك مسار الحوار، حيث لا نريد أن تكون هناك مواجهة مع روسيا، كما لا نريد أن يتم عزلها، إلا أن مسار الحوار متعثر وتقلص”.
لم تعد أزمة القرم مصدر الخلاف الوحيد بين الناتو وموسكو، وفقًا لمسئول آخر في الحلف، فالبحر الأسود أيضًا هو منطقة أخرى للتصعيد بينهما، ففي أبريل الجاري قاما بمناورات متزامنة هناك. ويقول المسئول في الحلف: “البحر الأسود منطقة أمن أوروبي وخط أحمر، والمناورات التي أجراها الحلف مؤخرًا تأتي في هذا السياق، نحن نعمل أمام العداء الروسي. تريد روسيا بعد السيطرة على القرم أن تتواجد في البلطيق، كما تحاول استخدام التكنولوجيا مزدوجة الاستخدام في تلك المواقع لإحداث عدم استقرار. كذلك هناك تنامٍ للدور الروسي في أفغانستان بما يشكل تحديًا للناتو، وهو ما لم يكن موجودًا قبل أزمة 2014، حيث تقوم ببناء تحالفات جديدة مع طالبان. كذلك هناك قضية الهجمات السيبرانية التي يعتقد خبراء الحلف المعنيون بهذا الملف أن موسكو ضالعة فيها بهدف التأثير على الانتخابات في العديد من الدول والمنظمات، فضلًا عن تنامي الأنشطة الاستخبارية التي تقوم بها في نطاق دول الحلف، مثل قضية العميل الروسي السابق في بريطانيا سيرجي سكريبال”.
وفيما يتعلق بإمكانية احتواء الأزمة مع روسيا، يرى مسئول عن هذا الملف في الحلف أن “ظاهرة بوتين” هي مصدر للقلق لدى الكثيرين. ويضيف: “في الوقت الحالي لا أعتقد أن هيكل القيادة في روسيا على مستوى الكرملين سيتغير طالما بوتين موجود ولن يتخلى عن السلطة، فلأكثر من 20 عامًا وهو في الحكم، وهي فترة زمنية أكثر من تلك التي قضاها ستالين في السلطة (1941-1953). كما أن غالبية القادة الروس يشبهون بوتين، ويبدو من الصعب التعامل معهم”.
ملف الإرهاب: تهديد متصاعد
استعرض مسئولو هذا الملف في الحلف التحديات التي تشكلها ظاهرة الإرهاب الدولي، وانعكاساتها على الحلف في ظل التحولات الراهنة للظاهرة. ويختلف أحد مسئولي الاستخبارات في الناتو مع فكرة إعلان هزيمة التنظيم، معتبرًا أنه لا يعكس الواقع؛ فالظاهرة تعيد إنتاج نفسها وبصورة أكثر شراسة في الدورات التالية، وهو التصور الذي تشكل في ضوء الخبرات الطويلة في التعامل مع ملف الإرهاب. ويقول المتحدث إنه “لم تكن هناك استراتيجية لمواجهة الإرهاب حينما أخذت هذه الظاهرة في التصاعد على الصعيد الدولي منذ عقود، لكن عقب هجمات 11/9 اتجه الحلف إلى وضع استراتيجية وآليات لمكافحة الإرهاب، وأخذ يشارك في عمليات خارجية كما جرى ولا يزال في أفغانستان، وشارك في عملية المسعى النشط في البحر المتوسط لمنع حصول الجماعات الإرهابية على أسلحة الدمار الشامل.
وفي السياق ذاته، يضيف المسئول أنه على صعيد الناتو تم استحداث إدارة في عام 2012 لمكافحة الإرهاب في إطار مجلس الناتو. وفي العام المقبل سوف يتم افتتاح مركز قيادة العمليات ضد الهجمات السيبرانية في مونز (بلجيكا) للتعامل مع تطورات هذه الظاهرة، والاستخدام المتنامي من جانب الإرهابيين لاستخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، إضافة إلى تصميم برامح وعمل فعاليات لمكافحة المتفجرات بدائية الصنع، والتصدي لدعم وتمويل الإرهاب وعمليات تدفق ونقل الأسلحة.
لكن يظل هناك عدد من التحديات في هذا المجال، أشار إليها النقاش، منها -على سبيل المثال- أنه لا توجد خطة أوروبية للتعامل مع العائدين؛ فقد طرحت فكرة إنشاء محكمة خاصة للموقوفين في سوريا وهو ما رفضه الرئيس “ترامب”، ما يعني أنه يتعين على كل دولة أن تتحمل مسئولية مواطنيها ومحاكمتهم وفقًا للجرائم التي ارتكبوها، حيث لا ضمانات لعدم عودتهم إلى النشاط الإرهابي. بل قد يكون السجن فرصة لتجنيد عناصر جديدة، فالإشكالية هنا هي: كيف يتم محاربة الأيديولوجيا؟ وكيف يمكن تغيير تلك “الأدمغة” المشبعة بأفكار الإرهاب؟ فلديهم خطاب جاذب، ولا بد من قطع الطريق على استقطاب موالين جدد من المنبع.
التحدي التركي: جنوح خارج السرب
يرى الناتو أن تنامي العلاقات التركية-الروسية من القضايا المثيرة للجدل، خاصة عندما يتعلق الأمر بطبيعة عمل الحلف وسياساته ومنظومة عمله. في هذا السياق، يقول أحد مسئولي الحلف: هناك نقطتان يجب مراعاتهما عند التطرق إلى هذه المسألة. الأولى، هي أن العلاقات الثنائية شأن خاص، لكن فيما يتعلق بالناتو والأنظمة الدفاعية فالأمر مختلف، وهو ما يتم التعاطي معه حاليًّا في ظل تصميم تركيا على اقتناء منظومة S-400 الروسية. صحيح أن اقتناء السلاح مسألة سيادية أيضًا، لكن من جهة أخرى هناك التزامات تجاه الحلف، ومن حقه البحث في مسائل تشغيل المنظومة ومدى تأثيرها على منظومات الحلف. وكشف المسئول عن أن هناك بدائل عُرضت على تركيا كي تتراجع عن تلك الخطوة، لكنها لم تُظهر قبولًا بذلك.
أفغانستان: صعوبة التنبؤ بمستقبل دور الحلف
يرى مسئولو العمليات في الحلف أن هناك صعوبة في التنبؤ بشأن مستقبل دور الحلف أو طبيعة مهمته في أفغانستان، وأنه لا يعرف على وجهة اليقين ما الذي سيحدث في ظل المفاوضات الجارية مع طالبان أفغانستان، وما إذا كان من الممكن إبرام اتفاق للسلام من عدمه، ولا يمكن توقع مخرجاته، وبالتبعية التداعيات والترتيبات وآليات التنفيذ. وهل سيكون هناك دور للناتو أم لا؟ وما إذا كانت هناك قوات أمريكية ستضطلع بدور ما؟ وكيف ستتكيف مع تلك التطورات؟
الدفاع السيبراني: بناء قدرات إضافية
في لقاء مع أحد خبراء الحلف في هذا الملف، ركز على أن مركز قيادة العمليات لمواجهة التهديدات السيبرانية في الناتو قيد الإنشاء في مونز. وهو الجهة التي ستتولى ردع الهجمات السيبرانية، لكنه -في المقابل- لن يشن هجمات مضاده، خاصة وأنه لا تزال هناك صعوبات في كشف هوية المعتدي على الجانب الآخر بشكل قطعي. ويضيف الخبير: “هناك قطاعات مدنية تتعاون مع الأجهزة الأمنية في هذه العملية كما هو الحال بالنسبة للعلاقة بين وادي السليكون في الولايات المتحدة والبنتاجون”. كما سيتولى مركز القيادة الجديد مهمة تأمين 60 شبكة للأعضاء. وهناك تعهدات من الدول بتمويل عمليات بناء وتطوير القدرات في هذا المجال. ويشكل المركز قيمة مضافة لقدرات الجيوش على اختلاف تشكيلاتها البرية والبحرية والجوية. ويشير الخبير إلى أن تلك الخدمات التأمنية التي سيقدمها المركز ستكون حكرًا على مجلس الحلف، ولن تُتاح لدول من خارجه، لكن يمكن أن يكون هناك تعاون مع بعض البلدان لرفع قدراتها بهدف “إطفاء الحرائق السيبرانية” -وفقًا للمصدر- حتى يكون بإماكنهم ردع الهجمات المحتملة.
الجيل الخامس من الاتصالات (5G): معركة بدون بارود
طرأت على جدول أعمال الحلف قضية الجيل الخامس في عالم الاتصالات 5G، وما يثيره من تحديات مقابل ما سيحدثه من نقلة نوعية في عالم الاتصالات والتكنولوجيا، لا سيما وأن بوادر الاشتباك على الصعيد الدولى ظهرت مبكرًا وفقًا لأحد خبراء الحلف، ويقول: لقد جسدت أزمة “هاواوي” هذا القلق، لكن هذا الأمر يخضع للمناقشة حاليًّا من جانب الناتو بشكل مكثف، وهناك من يعتبرون أن هذا الجيل الجديد سيخلق منافع كثيرة لأن المعدات الصينية أقل سعرًا وأكثر انتشارًا، ولكن هناك فريق آخر لديه الحجة الأمنية، فهل تستخدم الصين هاواوي للتهديد؟ ليس هناك بارود حقيقي في هذه المعركة حتى ندعم تلك الحجة أو ندحضها، لذلك لن يكون استخدام التكنولوجيا هو المشكلة في حد ذاته بل طبيعة الاستخدام، وبالتالي هناك حاجة لضوابط وليس اللجوء للحظر.