يُمثّل الأطفال إحدى الفئات الاجتماعية الأكثر تضررًا في مناطق النزاعات والصراعات المسلحة. ونتناول هنا حالة اليمن كمثال مهم من بين هذه الحالات. فمنذ بدء الحرب الدائرة في اليمن في عام 2015، يعيش الأطفال هناك سيناريوهات موت محققة؛ فلم تعد أسباب الموت مقصورة على العمليات العسكرية، بل تجاوزت ذلك لتشمل المجاعات وتفشي الكوليرا. أطفال اليمن يمرون اليوم بأسوأ كارثة إنسانية في العالم.
الكوليرا والمجاعة تفتك بالأطفال
أدت التأثيرات المجتمعة والمتراكمة للصراع إلى تدمير شبكة مياه الشرب، ما أدى إلى ندرتها، وحدوث تداعيات شديدة الخطورة على صحة المدنيين. فقد ذكرت “منظمة الصحة العالمية” أن هناك أكثر من نصف مليون شخص يُشتبه في إصابتهم بالكوليرا بسبب نقص المياه النظيفة والمرافق الصحية. كما رصدت وزارة الصحة اليمنية خلال عام 2019 حوالي 391 حالة وفاة من أصل 1190 حالة إصابة، في حين بلغت الوفيات منذ أول موجة للكوليرا في عام 2017 وحتى شهر أبريل 2019 حوالي 3200 حالة وفاة وأكثر من مليون ونصف حالة اشتباه في المرض.
أيضًا، يُعد استمرار الصراع عاملًا رئيسيًّا في رفع خطر المجاعة، حيث يعاني ما يقرب من 2.2 مليون طفل يمني من سوء التغذية الحاد، فضلًا عن معاناة قرابة مليون من النساء الحوامل والمرضعات من أمراض سوء التغذية والهزال المتوسط والحاد. ويحتفظ اليمن بواحد من أعلى معدلات سوء التغذية في العالم. وطبقًا لمؤشرات “منظمة الأمم المتحدة للطفولة” (اليونيسيف)، فان طفلًا أقل من خمسة أعوام يموت كل عشر دقائق نتيجة أمراض سوء التغذية، وهناك حوالي 7 ملايين طفل يمني قد يواجهون خطر المجاعة المحقق إذ استمرت الأوضاع الأمنية في التدهور بشكل يعيق إيصال المساعدات الإنسانية.
مستقبل غامض بلا تعليم
“الذهاب إلى المدرسة بات يمثل خطرًا على الأطفال، إذ يمكن أن يتعرض الطفل لاحتمال الموت على الطريق. وخوفًا على سلامة أطفالهم، يختار الكثير من الآباء إبقاء الأطفال في المنازل”، بهذه العبارة وصفت منظمة اليونيسف حجم المأساة في اليمن.
فقد خلّف الانقلاب الحوثي خمسة ملايين نازح خلال ثلاث سنوات، من بينهم 2.8 مليون طفل، بنسبة 55% من إجمالي أعداد النازحين. وتمارس ميليشيات الحوثي ضدهم أعنف الممارسات، حيث تسببت في حرمان أكثر من مليون طفل من الالتحاق بالمدارس بسبب منع الطلاب من الوصول إلى المؤسسات التعليمية، وفرض الإتاوات الجبرية عليهم كل شهر كشرط للسماح لهم باستكمال دراستهم. كما تسببت الميليشيات في تدمير حوالي 3600 مدرسة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتحويلها إلى سجون للتعذيب وثكنات عسكرية، فضلًا عن استخدام 2000 مدرسة كأوكار استقطاب ومعامل إنتاج لطلاب ملقنين بمناهج تحمل ثقافة الموت والكراهية.
ومما لا شك فيه، أن حرمان ملايين الأطفال من التعليم وتسريحهم إلى سوق الأعمال الشاقة يؤدي إلى تفاقم الأوضاع، وينذر بتراجع فرص التنمية المستقبلية لليمن، وإنشاء جيل كامل يواجه مستقبلًا غامضًا.
تفاقم عمالة الأطفال
أدى الصراع في اليمن إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر التي تزامنت مع غلاء مطرد في أسعار المواد الغذائية في ظل انهيار العملة، وتراجع مستوى الدخل، وانقطاع مرتبات الموظفين الحكوميين بمن فيهم المتقاعدون، وعدم انتظام المعاشات التي تعتمد عليها العديد من الأسر بعد فقد عائلها.
كل هذه العوامل أجبرت آلاف الأسر اليمنية على قبول تسريح أطفالها من مراحل التعليم المختلفة وإلحاقهم بسوق العمل، ما أدى بدوره إلى تفاقم ظاهرة عمالة الأطفال. فقد لوحظ ازدياد كبير في معدلات انخراط الأطفال في ظل ظروف عمل غاية في السوء، حيث تشير التقارير الحكومية إلى وجود مليوني طفل يمني عامل دون سن الخامسة عشرة، بزيادة تجاوزت 300% عما كان الحال عليه عام 2015. ويتعرض هؤلاء الأطفال للممارسات العنيفة كالاعتداءات الجنسية والخطف والتجنيد القسري في ظل غياب الدور الحكومي والمنظمات الإنسانية، فضلًا عن ضعف الجانب التشريعي والقانوني وهشاشة المسئولية الجنائية على أصحاب العمل.
تجنيد قسري وزواج قُصّر.. انتهاكات متعمدة للطفولة
يعاني الآلاف من أطفال اليمن في مناطق النزاع والحرب من الاستغلال الجنسي مقابل توفير احتياجاتهم الضرورية اللازمة للحياة. ووسط الصراع وأعمال العنف التي طال أمدها، وزيادة معدلات الفقر التي وصلت إلى 80%، ناهيك عن عدم وجود حد أدنى لسن الزواج، تضاعفت الممارسات السلبية تجاه الأطفال الفتيات، مثل زواج القاصرات، فبحسب تقرير اليونيسيف لعام 2017 فإن ثلاثة أرباع النساء في اليمن تزوجن قبل بلوغهن سن الثامنة عشرة، وأن 44% منهن تزوجن قبل سن الخامسة عشرة، فضلًا عن العنف الجنسي والأسري، وزيادة أعداد عمليات ختان الإناث المجرمة دوليًّا.
لم تكن هذه مجمل الانتهاكات التي تتعارض مع الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الطفل، فقد أفادت التقارير الحكومية بأن 33% من مجندي ميليشيات الحوثي هم من الأطفال، وتعرض أكثر من 23 ألف طفل يمني -منهم 2500 خلال عام 2018- للتجنيد الإجباري. كما تشير الإحصائيات إلى خوض 67% من هؤلاء الأطفال وتورطهم في أعمال قتالية في صفوف الميليشيات، وتدريبهم على استخدام كافة الأنواع من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، إذ يستخدم الحوثيون الأطفال كونهم أكثر طواعية لتنفيذ الأوامر، فضلًا عن سهولة تعرضهم لعمليات غسل الأدمغة.
لم يعانِ الأطفال في اليمن من أهوال الحرب والصراع من أجل البقاء فحسب، لكنهم أُجبروا على المشاركة في أحداث خارج إرادتهم وخارج طاقاتهم، بل ويتحملون كافة عواقبها بشكل يمثل مخالفة جسيمة لكافة القوانين الدولية، خاصة اتفاقية “حقوق الطفل” التي اعتمدتها الأمم المتحدة، ووقع عليها اليمن في مايو 1991، والتي نصت المادة (38) منها “على حماية الأطفال خلال الحرب، وعدم تجنيد من هم دون الـ15 من العمر بأي شكل من الأشكال”.
***
لطالما كان استمرار خرق معاهدات حقوق الطفل في اليمن على قائمة مجلس الأمن للانتهاكات الجسيمة لحقوق الطفل، لا سيما فيما يتعلق باستخدام وتجنيد الأطفال، فهناك فجوات كبرى بين القوانين والسياسات والأنظمة الخاصة بحماية الطفل.
إن مواجهة حقيقية لهذه الكارثة تقتضي تنفيذ عدد من الإجراءات المهمة والسريعة، منها -على سبيل المثال- توفير لجان مجتمعية للدعم النفسي والاجتماعي لهؤلاء الأطفال، خاصة الذين تعرضوا لخبرات إنسانية قاسية خلال مرحلة الصراع، وفتح المجال لتقديم المساعدات الإنسانية إليهم. من ذلك أيضًا ضرورة إبعاد المؤسسات التعليمية عن دوائر وساحات النزاع، والحفاظ عليها كمساحات آمنة للتعلم، ووضع برامج تغذية مدرسية لإعادة تأهيلهم صحيًّا، وتحسين فرص التحاقهم بالمدارس واستدامة التحاقهم بالعملية التعليمية.