تصدر هاشتاج «تركيا تقتل سجين»، الإثنين الماضى قائمة الأكثر تداولًا عبر موقع تويتر، على خلفية ادعاء أنقرة انتحار السجين الفلسطينى «زكى يوسف مبارك»، الذى اتهمته بالتجسس لصالح دولة الإمارات.
وزعمت جهات التحقيق التركية أن المواطن الفلسطينى وجد مشنوقًا بـ«باب الحمام» فى زنزانته الانفرادية، فى الساعة ١٠:٢٢ بالتوقيت المحلى التركى من مساء يوم الأحد، صدور هذا الإعلان الرسمى فى شقيه «التجسس، والانتحار» لم يقنع أحدًا، والرواية شديدة الالتباس ومساحات الغموض فيها أكبر من إمكانية تمريرها على هذا الوضع الذى أرادته أنقرة وأجهزتها الأمنية.
أول ما يلفت الانتباه، أننا فى حالة «زكى يوسف مبارك» أمام شخص كبير وناضج، وحاصل على درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية، وما أفصحت عنه عائلته عن سبب وجوده بتركيا أنه ومرافقه «سامر شعبان» كانا بصدد الانخراط فى مشروع تجارى مثل الآلاف من الفلسطينيين الموجودين منذ سنوات على الأراضى التركية، على اعتبار أن أزمة تركيا الاقتصادية فتحت الأبواب أمام الحصول على تسهيلات كبيرة، لمن يرغب فى الاستثمار فى السوق التركية بشكل عام، والأهم منها للشخص الفلسطينى على وجه الخصوص هو تأمين إقامة مستقرة للقائم بالاستثمار.
الرواية الأمنية التركية تتحدث عن أن جهاز الاستخبارات وشعبة مكافحة الإرهاب فيه هى من كانت تتعقب مبارك وسامر شعبان منذ ستة أشهر، وتأكد لديها قيامهما بأعمال تجسس على الجاليات العربية بتركيا لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة، وكيفما بدا الأمر مرتبكًا لحظة القبض عليهما من داخل أحد المطاعم بمدينة اسطنبول.
وذكرت ذات الرواية التركية أن التحقيقات ستشمل أيضًا احتمالية وجود علاقة للموقوفين بقضية مقتل الصحفى السعودى «جمال خاشقجى»، وذلك قبل نقلهما إلى سجن «سيلفيرى»، وبداية توكيل محامٍ تركى لهما من قِبل أسرة مبارك، والذى أكد للأسرة ولموكليه أن زكى وسامر فى سبيل الإفراج عنهما يوم الثلاثاء على أقصى تقدير، حيث لم تقدم الأجهزة الأمنية التركية دليلًا واحدًا أو قرينة ولو مصطنعة عن انخراطهما فى مثل هذا الاتهام المشار إليه.
جهاز الاستخبارات التركى استند فقط فى حالتهما إلى أن «زكى يوسف مبارك» كان يعمل ضابطًا بمخابرات السلطة الفلسطينية، دون النظر إلى أنه أُحيل للتقاعد برتبة عميد بعد انقلاب «حماس» على السلطة فى قطاع غزة، ومن ثم غيّر من كرير عمله لينخرط فى دراسة الماجستير والدكتوراه فى العلوم السياسية، انتظارًا لفرصة عمل قد تتاح له فى هيئات أو مؤسسات السلطة فى رام الله أو غيرها، وهو ما لم يتحقق أو يتوفق فيه.
وفيما يخص «سامر شعبان»، فله خلفية ورواية قريبة الشبه بقرينه، حيث ظل يعمل بجهاز الشرطة التابع للسلطة فى قطاع غزة، قبل أن يغادرها فى عام ٢٠٠٧ بعد الانقلاب واستهداف «حماس» العناصر التى تعمل بالشرطة من قِبل السلطة الفلسطينية. ومن ثم يحال للتقاعد هو الآخر بسبب سوء الأوضاع المالية التى تعانى منها السلطة مؤخرًا، فى مجموعة كبيرة ضمت نحو «٨٠٠٠ موظف»، حيث بدأ كل من له سبيل للانتقال إلى دولة أخرى بحثًا عن الرزق، فى الخروج إلى ما يمكن أن يوفر له قدرًا من إعالة أسرهم الذين يعانون أوضاعًا معيشية معلومة للجميع، وليس هنا مجال للتفصيل فيها.
كلا الشخصين الفلسطينيين مثلهما مثل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، ولا تمثل خلفياتهما الأمنية سوى قرينة متهافتة للغاية، تمامًا مثلما حاولت السلطات التركية الزج بدولة الإمارات فى القضية، على اعتبار أن هناك ما يهمها فى تتبع جاليات عربية تقيم فى تركيا، وهى افتراضية غير متماسكة ولم تقنع أحدًا على الإطلاق، مما دفع الأمن التركى إلى استحضار قضية «خاشقجى» كعامل مساعد، رغم تباين الأمرين بالصورة التى تكشف بشكل كبير أن القضية مصطنعة، وأنها قد تورطت فى عملية القبض تلك، مما يفسر مقتل «زكى يوسف مبارك» تحت التعذيب من أجل انتزاع اعتراف ما، يبدو خياليًا بدرجة كبيرة.
فقد نقل الإعلان التركى الأول خبر إلقاء القبض على ضابطين إماراتيين، يتجسسان على تركيا، ثم أعقب ذلك القول بأنهما يعملان لصالح الإمارات، لمجرد وجود اتصالات على هواتفهما مع أشخاص مقيمين بدولة الإمارات، قبل نقلهما إلى سجن «سيليفرى»، الذى شهد عملية الاغتيال على الأرجح، خاصة أن هناك ما أُثير عقب الإعلان عن اكتشاف الحراس لـ«زكى يوسف مبارك»، وهو منتحر شنقًا بواسطة «حزامه» فى دورة مياه خاصة بزنزانته.
فغموض وتهافت الرواية لا ينافسها سوى الاتهام المذكور، خاصة أنه من المعروف أن السجون لا تترك بالتأكيد أى أحزمة أو حبال أو آلات حادة، أو غيرها من المواد والوسائل التى تسمح بالقتل أو تساعد على الانتحار، كما يتوقع أن يكون الاحتجاز، على درجة من التشدد التى تناسب حجم الاتهام، بجريمة مثل «التجسس» لحساب دولة أخرى.
هذا دفع العديد من المنظمات المعنية إلى تقديم طلبات عاجلة لتشريح الجثمان بمعرفة جهات دولية محايدة، وعدم السماح للسلطات التركية بإخفاء جريمتها، ودفن الجثة دون إجراء تشريح أممى محايد. فهناك العديد من الإشارات التى تلفت الانتباه إلى أن حالات التعذيب حتى الموت تكررت بسجون تركيا، وقام برصدها وتسجيلها عدد من المنظمات الحقوقية التركية والدولية، جاء آخرها فى تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» التى نشرت مؤخرًا تقريرًا حول التعذيب فى تركيا، كشفت فيه عن رصد «٤٢٧ حالة تعذيب» فى مراكز الاعتقال لعام ٢٠١٧ وحده، وتقديم «٤٨٩ بلاغًا» للسلطات القضائية التركية عن قيام الشرطة بتعذيب أشخاص ليسوا رهن الاحتجاز، فى حين تم الإبلاغ عن «١٩٨٨ حالة تعذيب» فى داخل السجون، وتضمنت «٢٢ طفلًا»، فى نفس الفترة الزمنية.
ولم يخل تقرير تركى أو دولى يتناول هذا الأمر إلا وجرى تسجيل سجن «سيليفرى»، باعتباره أشهر أماكن الاعتقال التى تم استخدامها فيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التى جرت فى العام ٢٠١٦. كما نقل «مركز ستوكهولم للحريات» ومقره دولة السويد، إحصاءات صادرة عن وزارة العدل التركية، ذكرت فيها أن هناك «٢٦٠-١٤٤ شخصًا معتقلًا» فى مختلف أنحاء البلاد، مشيرًا إلى أن السجون التركية البالغ عددها «٣٨٥ سجنًا ومركز توقيف» تشهد اكتظاظًا كبيرًا. وأعلنت وزارة العدل التركية فى مارس الماضى أنه أدين خلال الفترة الماضية «٤٤٩٣٠ شخصًا» بعقوبات متنوعة بالسجن، بموجب قوانين مكافحة الإرهاب. من بينهم «٣١٤٤٢ سجينًا سياسيًا» متهمون بالانتماء إلى حركة كولن وحدها، لذلك يظل هاجس التورط التركى حاضرًا بقوة فى عملية الاغتيال الأخيرة، التى إن لم تتدخل جهات التحقيق الدولية فيها لكشف غموضها وبيان حقيقة الواقعة، سيظل الأمر قابلًا للتعتيم ودفن ملابساته مثل المئات من الحالات التى جرت فى هذه المنظومة الوحشية، داخل السجون التركية البعيدة دومًا عن الضوء الإعلامى الكاشف لما يجرى خلف أسوارها.
*نقلا عن صحيفة “الدستور”، نشر بتاريخ ٢ مايو ٢٠١٩.