شهد التصعيد الأخير بين حماس والجهاد الإسلامي من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، مجموعةً من التطورات المتلاحقة التي تسببت في انفجار المشهد الأمني في قطاع غزة في الآونة الأخيرة، ظهرت بالتحديد يوم الأحد، 5 مايو 2019، وشملت إطلاق ضربات صاروخية من غزة أدت إلى سقوط ضحايا في إسرائيل، ثم نشر أفراد عسكريين إسرائيليين بالقرب من حدود غزة، والغارات الجوية الإسرائيلية أو الاغتيالات في غزة التي تستهدف قادة النشطاء الفلسطينيين، واستدعاء كامل الاحتياطيين الإسرائيليين، وزيادة قوات المدرعات على طول الحدود مع القطاع كـ”قوة قتالية جاهزة”.
وأخيرًا، جاء التحرك الدبلوماسي من الوسطاء (مصر، ومبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف، وقطر) لفرض التهدئة في غزة عبر وقف إطلاق النار المشروط، الذي بدأ سريانه في الساعة 4:30 بتوقيت جرينتش، الاثنين 6 مايو.
وفي المقابل، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” تصريحه عقب قرار الموافقة على التهدئة: “عليكم بالصبر، المعركة ضد حماس لم تنتهِ بعد، ونستعد للاستمرار”، وهو ما يدفع إلى السؤال عن شكل “الاستمرار” الإسرائيلي الذي يقصده “نتنياهو”، وهل يعني ذلك استعداد الجيش الإسرائيلي لغزو قطاع غزة بريًّا؟ سيما وأن “نتنياهو” يواجه انتقادات حادة من الأحزاب اليمينية جراء تعاطيه مع التصعيد الأخير مع حماس، مطالبين بضرورة استعادة الردع الإسرائيلي.
ردود عسكرية متبادلة
استهدف الجيش الإسرائيلي مجموعة من المتظاهرين الفلسطينيين أثناء “مسيرات العودة” على الحدود بين غزة وإسرائيل، يوم الجمعة 1 مايو (جمعة “الجولان سورية”)، ما تسبب في سقوط فلسطينيين اثنين. تبع ذلك قيام مسلح فلسطيني بقَنْص ضابط إسرائيلي وإصابته بجراح متوسطة، واستهداف مجندة وإصابتها بجروح طفيفة على حدود غزة الشرقية. ومن المرجح أن يكون المسلح ضمن تنظيم “سرايا القدس” (الذراع العسكرية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي). هذه التطورات دفعت القاهرة، في اليوم التالي 2 مايو، إلى استدعاء وفد حركتي حماس والجهاد الإسلامي لتثبيت الوضع الأمني في غزة وعدم خرق الهدنة.
ردًّا على هذا الهجوم، أطلق سلاح الجو الإسرائيلي غارة جوية استهدفت موقعًا قريبًا لحماس، ما أسفر عن مقتل اثنين من النشطاء وجرح اثنين آخرين.
وفي السبت 4 مايو، قامت حماس بالرد عبر إطلاق أكثر من 400 صاروخ وقذيفة هاون، فأصيب 3 إسرائيليين، فيما نفذت إسرائيل 120 غارة جوية في أنحاء متفرقة من قطاع غزة.
في اليوم التالي 5 مايو، تم إطلاق 200 قذيفة أخرى من غزة تجاه إسرائيل، استهدفت مدنًا بعيدة نسبيًّا عن القطاع، ما مثّل تصعيدًا يُعد هو الأخطر منذ حرب “الجرف الصامد”، في عام 2014.
وبالتالي، انسحبت على المشهد في غزة مجموعة من التطورات الجديدة، أولها: تنفيذ إسرائيل أول عملية اغتيال مستهدفة، أسفرت عن مقتل المسئول عن تحويل الأموال الإيرانية لحركة حماس “حامد الخضري”. ثانيها: نشر لواء المدرعات “السابع”، ولواء جولاني على الحدود مع غزة. ثالثها: إعلان “الوضع الخاص”، وهو ما يعني استدعاء قوات الاحتياط، ومنع الدراسة، ووقف العمل.
“القبة الحديدية”.. فشل مستمر وتكلفة عالية
المواجهات الأخيرة تشير إلى استمرار فشل منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية “القبة الحديدية” في اعتراض الصواريخ والقذائف، حيث أطلقت حماس والجهاد الإسلامي 600 صاروخ، سقط منها 400 صاروخ في مناطق مفتوحة تسببت في إحداث ضرر طفيف، بينما مثّل 200 صاروخ تهديدًا حقيقيًّا. وبحسب ما ذكره الجيش الإسرائيلي، فإن منظومة “القبة الحديدية” نجحت في اعتراض 86% من إجمالي المائتي صاروخ، ما يعني أن هناك تقريبًا 43 صاروخًا لم يتم اعتراضها، ووصلت إلى مستويات أعمق داخل الأراضي الإسرائيلية، وتسببت في مقتل أربعة إسرائيليين، وتخريب بعض الوحدات الاستيطانية في جنوب إسرائيل.
ويُعزى فشل الجيش الإسرائيلي في اعتراض عشرات الصواريخ إلى عدة عوامل، أبرزها وجود عيوب فنية أساسية، إذ لا تنجح المنظومة في اعتراض رشقات الصواريخ التي يتم إطلاقها دفعة واحدة، والتكلفة العالية التي تحتاجها المنظومة لاعتراض صاروخ واحد، والتي تقدر بنحو 80 ألف دولار أمريكي، فيما يتكلف نشر البطارية الواحدة قيمة 50 مليون دولار أمريكي، الأمر الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى نشر عدد محدود من البطاريات.
وتعزز هذه الظروف موقف الفريق الذي يتبنى وجهة النظر التي تُقر بفشل منظومة “القبة الحديدية” الإسرائيلية، والاعتماد في المقابل على المنظومة الأمريكية “سكاي جاردز”، وهي منظومة دفاعية تعتمد على الليزر الكيميائي فائق القوة والسرعة، والمخصص لاعتراض الصواريخ والقذائف متوسطة المدى، وكذلك اعتراض الطائرات بدون طيّار، سيما أن الجيش الإسرائيلي لم يذكر أي تفاصيل بشأن منظومته الليزرية الجديدة، منذ فبراير 2014، التي عمل على تطويرها منذ 2007، والمعروفة باسم “منظومة الليزر الحديدية” Iron Beam.
نشر قوات برية على الحدود
يأتي قرار الحكومة الإسرائيلية باستدعاء جزء من “لواء جولاني” وتدعيمه بلواء المدرعات السابع، ونشرهما على الحدود مع غزة، مؤشرًا على تزايد احتمالات التصعيد واحتدام الصراع بين الطرفين. ويطلق على “لواء جولاني” “لواء النخبة”، وهو قوة مشاة يعد أحد أكبر وأهم الألوية العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
وحسب إعلان الجيش الإسرائيلي، فإن مهمة “لواء جولاني” تتمثل في التأهب لاستخدامه كقوة هجومية “مؤقتة”. كما صدرت أوامر لتنبيه لواء المظليين والوحدات القتالية الأخرى المتموضعة على الحدود مع غزة لتكون في حالة استعداد.
كما استدعى الجيش الإسرائيلي قوات احتياط “محدودة” ضمن القوات البرية، والاستخبارات، والجبهة الداخلية، والدفاع الجوي. وتتمركز أغلب هذه القوات في منطقة الجنوب، حيث مستوطنات غلاف غزة، فيما تقع أنظمة الدفاع الجوي في منطقة “جوش دان” على بعد 134 كلم من قطاع غزة.
هل يُقرر الجيش الإسرائيلي غزو “القطاع” بريًّا؟
هناك عوامل سياسية قد تدفع رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي “نتنياهو” إلى اتخاذ قرار التدخل البري في غزة. وأبرز هذه العوامل أزمة تشكيل الحكومة الائتلافية في إسرائيل، إذ يواجه “نتنياهو” استياءً كبيرًا من حلفائه المحسوبين على التيار اليميني المتطرف حيال سياسة التعامل مع تهديدات حماس التي قادت إلى تآكل مفهوم الردع الإسرائيلي، حيث تطالب الأحزاب اليمينية بالقضاء على حركة حماس.
لكن يبدو أن “نتنياهو” غير معنيٍّ بالتصعيد مع حماس، على الأقل في الوقت الحالي. ويتضح ذلك في قبوله التحرك الدبلوماسي المصري والأممي حول فرض تهدئة مشروطة بـ”وقف إطلاق النار المتبادل”، ورفع الحصار عن غزة. يتقاطع ذلك مع استراتيجية “نتنياهو” التي تتفق مع سياسة “ترامب” في غزة، وهي فرض الهدوء الأمني في القطاع من خلال المشروعات الاقتصادية والتنموية.
كما يتسق ذلك مع استعداد تل أبيب لاستضافة عرض “يوروفيجن” المتزامن مع احتفال ذكرى إقامة الدولة في 14 مايو الجاري. ومن خلال رصد الإعلام الإسرائيلي، يتضح تنامي خطاب إعلامي يؤكد أن المشاركين في العرض لا يحفلون بما يجري في الجنوب، معتمدين على إعلان الجيش الإسرائيلي نشر مزيد من بطاريات “القبة الحديدية” في أنحاء متفرقة حول تل أبيب.
ويبقى نشر قوات برية “مؤقتة” على حدود غزة، واستدعاء مجموعة “محدودة” من الاحتياط، آلية خشنة ضمن سياسة الردع التي يعتمد عليها “نتنياهو” لفرض الهدوء الأمني، والتلويح باستئناف سلسلة الاغتيالات داخل القطاع.
إجمالًا، يمكن القول إن الاعتبارات السياسية التي تحيط بأزمة تشكيل الحكومة الإسرائيلية واعتبارها دافعًا للغزو، تظل هامشية أمام دوافع الإبقاء على الوضع الأمني الهادئ في غزة. ورغم الخطاب السياسي اللاحق لنتنياهو الذي هدد فيه بأن الحرب ضد غزة لم تنتهِ، لكن من الناحية الأخرى يوصف التصعيد الأخير بالأشرس منذ 2014، ويتراكم على احتقان الساحة الفلسطينية في غزة التي توشك على انفجار حقيقي يُنذر بحرب شاملة.