شهد المشهد السياسي في السودان، في الثاني من مايو، متغيرًا جديدًا، تمثل في تسلم المجلس العسكري الانتقالي وثيقة دستورية تتضمن رؤية قوى الحرية والتغيير للترتيبات الأساسية لإدارة المرحلة الانتقالية. ولمدة خمسة أيام تالية، دخل المتابعون والمهتمون بالشأن السوداني في حالة من الترقب انتظارًا لرد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلمته قوى الحرية والتغيير في السادس من مايو قبل أن يعلن المجلس عن تحفظاته وتعديلاته المقترحة في مؤتمر صحفي مساء اليوم التالي، داعيًا مختلف الأحزاب والحركات السياسية والمدنية في السودان، وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير، لاجتماع لمناقشة المواد الخلافية في الثامن من مايو.
ويأتي هذا المتغير الجديد الذي يواكب مرور شهر منذ سقوط الرئيس “عمر البشير” ليمثل نقطة تحول في مسار الأحداث في السودان. فقد كشف نص الوثيقة، ورد المجلس العسكري عليها، عن تباين كبير في الرؤى حال دون بداية الإجراءات الانتقالية حتى الآن، زاد من سيولة الأوضاع بظهور مقترحات جديدة على يد ما عرف بلجنة الوساطة. كما كشفت التفاعلات السياسية المحيطة بصدور هذه الوثيقة عن تحولات سريعة شهدتها الساحة السياسية في السودان فرضت واقعًا جديدًا يختلف عما كان سائدًا فور سقوط “البشير”.
أولًا: قراءة في نص إشكالي
اتسم نص الوثيقة الدستورية المقترحة من جانب قوى الحرية والتغيير بالطابع الإشكالي من سطوره الأولى وحتى نهايته. الوثيقة التي كان من المتوقع أن تقدم حلولًا جذرية لمشكلات الحكم في المرحلة النتقالية خلقت مشكلات جديدة مع المجلس العسكري ومع القوى السياسية، وحتى داخل قوى الحرية والتغيير ذاتها. فقد اقتصر نص الوثيقة على بعض جوانب إدارة المرحلة الانتقالية دون الأخرى ليعكس انتقائية شديدة في اختيار القضايا الأولى بالمعالجة. وجاء النص على قدر كبير من التحيز السياسي على نحو ما يظهر في المدة بالغة الطول للمرحلة الانتقالية، وفي منحه قوى الحرية والتغيير دون غيرها المساحة الأكبر من الصلاحيات، مستبعدًا مختلف القوى السياسية والمدنية الأخرى. كل هذا بجانب الصياغات القانونية غير المحكمة التي نالت نصيبًا كبيرًا من الانتقاد. وفيما يلي عرض لأهم ما جاءت به الوثيقة الدستورية التي قُدمت باسم قوى الحرية والتغيير مع توضيح لموقف المجلس العسكري منها.
1- المبادئ التأسيسية
تصدّر الوثيقة ثلاثة مبادئ تأسيسية سبقت الخوض في الموضوعات الإجرائية المختلفة. تمثل أول هذه المبادئ في وقف العمل بدستور 2005، وهو نص لا يحمل الكثير من القيمة على أرض الواقع في ظل وقف العمل بهذا الدستور منذ أن نص على ذلك البيان الأول للفريق “عوض بن عوف”، وإنما وُضع ليكرس النزاع بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي بشأن الجهة صاحبة الاختصاص الدستوري في المرحلة الانتقالية والتي لها أن تعطل وثيقة دستورية وتقترح تفعيل أخرى. المبدأ الثاني، تمثل في اعتبار وثيقة الحقوق الأساسية المتضمنة في دستور 2005 جزءًا من دستور السودان في المرحلة الانتقالية، وهو المبدأ الذي يعكس انتقائية شديدة في التعامل مع نصوص الدستور. أما المبدأ الثالث، فقد كان الطبيعي أن يأتي ترتيبه في المقدمة والذي ينص على كون السودان جمهورية مستقلة ذات سيادة، مدنية، ديمقراطية، تعددية، لا مركزية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة.
وقد مثلت المبادئ العامة واحدة من النقاط الخلافية مع المجلس العسكري الذي انتقد غياب الإشارة إلى مصادر التشريع، مقترحًا اعتبار الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد السائدة في السودان مصادر التشريع، وكذلك غياب الإشارة للغة العربية كلغة رسمية للدولة. كما رفض المجلس العسكري اعتبار وثيقة الحقوق المتضمنة بدستور 2005 جزءًا من الدستور الانتقالي، بحسبان أن دستور 2005 بكامل بنوده قد تم إيقاف العمل به. كما انتقد المجلس العسكري إغفال الوثيقة الدستورية الإشارة لوضع دساتير الولايات والقوانين التي صدرت بموجبها.
2- مستويات الحكم
كانت القضية الإجرائية الأولى التي عالجتها وثيقة قوى الحرية والتغيير هي قضية مستويات الحكم، والتي عالجتها الوثيقة بقدر من الارتباك، إذ لم تحدد الوثيقة علاقة مستويات الحكم الثلاثة (الاتحادي، الإقليمي، المحلي) ببعضها بعضًا، وما هي الاختصاصات الأصيلة لكل مستوى، وما هي الجهة صاحبة الاختصاص في الفصل في حالة تنازع الاختصاص بين المستويات الثلاثة. وتأتي هذه المعالجة المضطربة نتيجة تخوف بعض الحركات المنضوية تحت قوى “الحرية التغيير” من منح صلاحيات موسعة لمستويات الحكم الإقليمي خشية انفصال بعض الأقاليم “فعليًّا” بما يمهد انفصالها قانونيًّا أسوة بجنوب السودان، مقابل خشية أطراف أخرى من داخل قوى “الحرية والتغيير” من استمرار هيمنة المركز في الخرطوم على الأطراف في الشرق والغرب والجنوب. وقد كان لقضية مستويات الحكم نصيب من ملاحظات المجلس العسكري، حيث انتقد تسمية المستوى الثاني للحكم بالأقاليم بدلًا من الولايات، وهو ما رأى فيه المجلس نية للتراجع عن النظام الاتحادي المعمول به في السودان.
3- مدة المرحلة الانتقالية
تنص الوثيقة على امتداد الفترة الانتقالية في السودان لأربع سنوات تبدأ من تاريخ دخول الدستور الانتقالي حيز التنفيذ. وتطرح هذه المادة إشكاليتين؛ أولاهما تتعلق بالطول غير المعتاد للفترة الانتقالية التي تبلغ ضعف المدة التي طرحها المجلس العسكري والمقدرة بعامين على الأكثر. أما الإشكالية الثانية فتتعلق بمصدر شرعية هذه الوثيقة الدستورية، فحتى الآن لم يظهر على الساحة أي نية لاستفتاء الهيئة الناخبة في السودان على الوثيقة الدستورية، ومن ثم فهي تكتسب شرعيتها من توافق قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي على موادها المختلفة. وفي ظل غياب التوافق بين الجانبين، وفي ظل غياب التوافق داخل قوى الحرية والتغيير ذاتها، فإن “الشرعية الذاتية” للوثيقة الدستورية تظل محل شك، بل ويمكن الطعن فيها مستقبلًا بوثائق بديلة على النحو الذي ظهر في وثيقة لجنة الوساطة والتي سرعان ما أعلنت عدة أطراف سياسية مؤيدة لها أنها تجب الوثيقة المقترحة الأولى.
4- المجلس السيادي
يقوم التصور الأصلي (قبل تعديله بمقترحات من لجنة الوساطة) على انقسام السلطة المركزية في السودان بين ثلاث جهات، أولها مجلس السيادة الذي يعد رأسًا للدولة ورمزًا للسيادة الوطنية، ومجلس للوزراء يتمتع بالسلطة التنفيذية العليا، وهيئة تشريعية تختص بالتشريع والرقابة على أداء الحكومة. وبالرغم من حرص الوثيقة على الخوض في الكثير من التفاصيل بشأن تحديد اختصاصات السلطات الثلاث، جاءت معالجتها لتكوين المجلس السيادي عمومية وغير محددة، إذ اكتفت الوثيقة بالنص على تكوينه بالتوافق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، من دون إشارة لعدد أعضائه ولا لنسبة الأعضاء العسكريين إلى للمدنيين. وقد أقرت الوثيقة صدور قرارات المجلس السيادي بأغلبية ثلثي أعضائه. كما أقرت إمكانية محاكمة أعضاء مجلس السيادة أمام المحكمة الدستورية. وقد أثارت المواد المتعلقة بالمجلس السيادي الكثير من تحفظات المجلس العسكري، والذي ارتأى ضرورة توسيع صلاحياته، على أن يباشرها بصورة حصرية ومن دون مشاركة مع أي مؤسسة أخرى فيما يتعلق بكافة القضايا ذات الطبيعة السيادية.
5- مجلس الوزراء
يعد مجلس الوزراء الانتقالي مركز الثقل المؤسسي في المرحلة الانتقالية وفق ما اقترحته الوثيقة، والذي يتكون من رئيس ونائب وعدد من الوزراء لا يتجاوز العشرين وزيرًا. كما نصت الوثيقة على أن يتم اختيار كل أعضاء مجلس الوزراء من جانب قوى “الحرية والتغيير” كحق أصيل تمارسه هذه القوى بصورة حصرية من دون مشاركة من المجلس العسكري الانتقالي، ومن دون مشاركة من أي فصيل سياسي آخر من خارج القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير بغض النظر عن موقفها من نظام “البشير” ومن الاحتجاجات التي أدت لسقوطه. وقد منحت الوثيقة مجلس الوزراء النسبة الأكبر من الصلاحيات التنفيذية التي لا تُمنح عادةً لمجلس الوزراء في الظروف العادية، إذ يحق له -لا للمجلس السيادي- إعلان حالة الطوارئ، والتقدم بمشروعات قوانين، كما عهد إليه بالمحافظة على أمن الدولة ومصالحها، وهو ما يفسر إخضاع القوات النظامية من قوات مسلحة وشرطة وأجهزة أمنية لسلطة مشتركة يباشرها المجلس السيادي ومجلس الوزراء معًا. وقد قوبلت هذه الصلاحيات الموسّعة خاصة في الجانب الأمني والعسكري بالرفض القاطع من جانب المجلس العسكري، والذي أصر كذلك على أن تشارك كل القوى السياسية في السودان في اختيار أعضاء مجلس الوزراء باستثناء المؤتمر الوطني وحده.
6- المجلس التشريعي
احتكرت قوى “الحرية والتغيير” لنفسها الحق في تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي المكون من عدد من الأعضاء يتراوح بين 12 إلى 150 عضوًا، يشترط تمثيلهم لمختلف القوى الموقّعة على “إعلان الحرية والتغيير” من دون تحديد للآلية التي سيتم بموجبها توزيع الحصص من المقاعد على القوى والأحزاب المختلفة. وقد تمتع المجلس التشريعي الانتقالي بقدر كبير من الاستقلالية، إذ حظرت الوثيقة المقترحة حله أو إقالة أحد أعضائه. ويمارس المجلس التشريعي صلاحيات سن التشريعات والقوانين وإجازة اللوائح، فضلًا عن مراقبة أداء السلطة التنفيذية، ومناقشتها، وسحب الثقة منها من دون توضيح المقصود بالسلطة التنفيذية، وهل تقتصر على مجلس الوزراء أم تشمل كذلك المجلس السيادي. وقد تحفظ المجلس العسكري على عدم تحديد موعد لانتهاء ولاية المجلس التشريعي الانتقالي، مؤكدًا ضرورة النص على انتهاء ولايته بنهاية المرحلة الانتقالية.
7- حالة الطوارئ
على غير المعتاد، أفردت الوثيقة الدستورية المقترحة من قوى الحرية والتغيير بندًا مستقلًّا لإعلان حالة الطوارئ، في إشارة لتوقع -أو نية- للجوء لهذا الخيار في مواجهة تحديات مستقبلية. فقد اجتمعت ثلاثة عوامل لتجعل من قضية إعلان حالة الطارئ قضية محورية في الوثيقة الدستورية المقترحة. أولها، السياق السياسي المعقد الذي أحاط عملية صياغة الوثيقة. ثانيها، الطول النسبي للمرحلة الانتقالية المقترحة. ثالثها، المناخ السائد من الشك المتبادل بين بعض قوى الحرية والتغيير والمؤسسة العسكرية السودانية.
وقد رأت الوثيقة الدستورية أن إعلان حالة الطوارئ هو من اختصاصات مجلس الوزراء -المشكل بالكامل من قوى الحرية والتغيير- وذلك في مواجهة عدد كبير من الأوضاع الاستثنائية التي عبرت عنها الوثيقة في صياغات غلب عليها المرونة، تضمنت وقوع أي خطر طارئ يهدد البلاد أو أي جزء منها، حربًا كان أو غزوًا أو حصارًا أو كارثة طبيعية أو بيئية تهدد سلامتها أو اقتصادها. وبموجب إعلان حالة الطوارئ يتمتع مجلس الوزراء –وليس المجلس السيادي- بالمزيد من الصلاحيات التي تتضمن اتخاذ أي تدابير قد تصل “عند الحاجة” إلى تعليق جزء من وثيقة الحقوق التي هي جزء أصيل من الوثيقة الدستورية. وقد رفض المجلس العسكري منح مجلس الوزراء أي اختصاص فيما يتعلق بإعلان حالة الطوارئ أو اتخاذ أي تدابير بموجبها.
ثانيًا: تحولات السياق المتسارعة
كشف صدور الوثيقة الدستورية عن قوى الحرية والتغيير وما تبعها من استجابة مختلف الأطراف ذات التأثير، وفي مقدمتها المجلس العسكري؛ عن الكثير من التحولات التي طرأت على المشهد السياسي السوداني منذ سقوط البشير، والتي تمثلت في:
1- ظهور انشقاقات داخل قوى الحرية والتغيير
كشفت الوثيقة عن وجود خلافات حادة في المواقف والتوجهات الأصلية داخل قوى الحرية والتغيير. فقد بادرت بعض الأطراف بإعداد الوثيقة التي تعكس رؤية قوى الحرية والتغيير للحكم في المرحلة الانتقالية، من دون نقاش كافٍ ومن دون التوصل لإجماع حقيقي بين ممثلي مختلف القوى المشاركة. ولعل السبب وراء ذلك هو حرص بعض الأطراف داخل قوى الحرية والتغيير على الإمساك بزمام المبادرة واستباق خطوات المجلس العسكري نتيجة لما أثبتته هذه الاستراتيجية من نجاح في فرض الرؤى خلال الشهر الماضي.
لكن الإصدار المتعجل للوثيقة، وقبل الوصول لإجماع كامل بشأنها، كان له أثر سلبي متعدد الجوانب، إذ أكد الطبيعة الهشة لتحالف قوى الحرية والتغيير والذي اعتبره الكثيرون “تحالف الحد الأدنى” الذي لم يجتمع أعضاؤه إلا على هدف مرحلي هو إسقاط الرئيس “البشير”، ومن ثم فتح سقوطه الباب لظهور الخلافات بين هؤلاء الأعضاء مرة أخرى. وقد تعددت مظاهر هذه الاختلافات منذ الإعلان عن الوثيقة. فمن ناحية، تنصلت العديد من القوى الرئيسية من الوثيقة، معتبرة إياها غير ممثلة لإجماع قوى الحرية والتغيير، وعلى رأسها حزب الأمة وحزب المؤتمر. ومن ناحية ثانية، كرس صدور الوثيقة الفجوة داخل قوى الحرية والتغيير بين القوى الحزبية وتلك المحسوبة على المجتمع المدني وفي مقدمتها تجمع المهنيين السودانيين، الذي اعتبره الكثيرون الطرف الأصلي المسئول عن صياغة الوثيقة وتقديمها للمجلس العسكري باعتباره المستفيد الأول من الترتيبات الانتقالية التي تضمنتها الوثيقة، خاصة ما يتعلق بالمدة الانتقالية الطويلة التي تسمح له بالتحول لكيان حزبي يمكن أن يشارك بنجاح في الانتخابات القادمة. ومن ناحية ثالثة، أخرج صدور الوثيقة الخلافات بين الأحزاب السياسية داخل قوى الحرية والتغيير للعلن بعد التصريحات المتعارضة التي صدرت من حزب الأمة والحزب الشيوعي بشأن الموقف من الوثيقة وما تقترحه من حدود لمشاركة المؤسسة العسكرية في العملية السياسية خلال المرحلة الانتقالية.
2- صعود لجان الوساطة ثم تراجعها
شهدت الأيام الخمسة الفاصلة بين صدور الوثيقة من قوى الحرية والتغيير ورد المجلس العسكري عليها ظهور لاعب جديد تمثل في لجان الوساطة، والذي احتل صدارة المشهد باعتباره قادرًا على إزالة الخلافات بين اللاعبين الرئيسيين على الساحة السودانية. وعلى الرغم من هذا الدور البارز لم يعلن بشكل رسمي عن هوية هؤلاء الوسطاء، أو أعدادهم، وهل يشكلون مبادرة واحدة أم عددًا من المبادرات؟. إذ لم يتردد بوضوح سوى ثلاثة أسماء للوسطاء في مقدمتها الصحفي الكبير “محجوب محمد صالح”، ورجل الأعمال “أسامة داود”، والناشط في منظمات المجتمع المدني “نصر الدين شلقامي”، بجانب أسماء أخرى لم يُفصح عنها.
لكن مسار الأحداث قلل من إمكانية لعب لجنة -أو لجان- الوساطة دورًا فاعلًا في المستقبل. فبعد تسرب الأنباء مبكرًا عن تحفظات للمجلس العسكري على بعض بنود وثيقة قوى الحرية والتغيير، أعد الوسطاء مقترحًا بديلًا جاء على قدر من التفصيل ليعالج ما تجنبته الوثيقة من تحديد حصص للمدنيين والعسكريين في مؤسسات الحكم الانتقالي. لكن المجلس العسكري الانتقالي أعلن خلال المؤتمر الصحفي رفضه مقترحات الوسطاء، وتبنيه موقفًا يُعتبر أقرب لوثيقة قوى الحرية والتغيير منه إلى وثيقة الوسطاء، خاصة فيما يتعلق بعدد مؤسسات الحكم واختصاصاتها.
3- تأكيد مشاركة أحزاب من خارج قوى الحرية والتغيير
منذ الساعات الأولى التالية على الإطاحة بالرئيس “عمر البشير”، ظهر اتجاه عام في السودان يرفض أي ممارسات إقصائية بحق أي حزب أو تيار سياسي سوداني، وهو ما كان له أثر مباشر في عدم حل المؤتمر الوطني، والاكتفاء بحرمانه من المشاركة في الترتيبات الانتقالية، على أن يسمح له بمباشرة نشاطه السياسي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. وفي ظل هذا التوافق، جاءت ممارسات المجلس العسكري الانتقالي لتعكس حرصًا على التواصل مع مختلف القوى السياسية السودانية، سواء من تلك الموقعة على بيان الحرية والتغيير، أو من خارجها، كالجبهة الوطنية للتغيير. هذا الانفتاح من جانب المجلس العسكري دفع بعض الأحزاب من خارج قوى الحرية والتغيير -وفي مقدمتها الحزب الاتحادي (الأصل)- للتمسك بحقها في المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية، والاعتراض العلني على مساعي قوى الحرية والتغيير احتكار كافة الصلاحيات خلال هذه المرحلة. ولعل المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه المجلس العسكري عن موقفه من الوثيقة الدستورية تضمن إشارة واضحة إلى اعتزام المجلس العسكري تأمين مشاركة الأحزاب من خارج قوى الحرية والتغيير في المفاوضات المتعلقة بصياغة وثيقة دستورية تحظى بالإجماع.
4- تراجع الأهمية النسبية للقضايا السياسية
منذ نجاح الحركة الاحتجاجية في إسقاط الرئيس “البشير”، لم يعد عنصر الوقت يلعب لصالح قوى الحرية والتغيير. فبمرور الوقت وبفعل التحديات الجسيمة التي تفرضها المشكلات المتراكمة والمستجدة، انتقل مركز اهتمام المواطن السوداني تدريجيًّا من القضايا السياسية إلى القضايا الأمنية والاقتصادية. وفي ظل غياب القيادة الموحدة للحركة الاحتجاجية بدأت بعض القرارات الخاطئة من جانب المحتجين في تصوير الاحتجاجات كمصدر أساسي للتهديدات الأمنية والاقتصادية. فقد ظهرت في الأسابيع الأخيرة متغيرات أمنية شكلت تهديدات خطيرة ونذر تصاعد المسار العنيف على نحو ما تجلى في المظاهرات في دارفور التي سرعان ما اتخذت طابع المواجهة العنيفة مع القوات النظامية. كما اتخذت قضية إعاقة الاعتصامات لحركة القطارات بُعدًا جديدًا بعدما أصبحت من أسباب تفاقم أزمة شح الوقود والسلع الغذائية في العديد من المدن السودانية. هذا الوضع من شأنه أن يخلق موقفًا ملتبسًا من الحركة الاحتجاجية قد يُفقدها قدرًا من التأييد الشعبي الذي طالما مثل مصدر قوتها الأساسي.
على هذه الخلفية، اجتمعت الإشكاليات التي تضمنتها الوثيقة الدستورية مع التحولات التي شهدها السياق لتزيد الوضع السوداني تعقيدًا في الوقت الذي جاءت الدعوة لإصدارها في الأصل كمحاولة لتحريك المرحلة الانتقالية المتعثرة. فمع تمسك المجلس العسكري بدور فاعل في إدارة المرحلة الانتقالية، وفي ظل الخلافات المتزايدة داخل قوى الحرية والتغيير؛ تكتسب بعض الحلول الاستثنائية المزيد من الأهمية. ويأتي في مقدمة هذه الحلول دعوة الهيئة الناخبة لانتخابات مبكرة خلال الأشهر القادمة على النحو الذي عرضه المتحدث باسم المجلس العسكري في المؤتمر الصحفي الأخير كمخرج محتمل من الأزمة الحالية.