منذ بدأ الحراك السياسى فى السودان، والأنظار المصرية تتطلع إلى ما يجرى هناك، أحيانا بأمل أن تخرج الدولة الشقيقة فى الجنوب من حالة التغيير السائلة إلى حالة الاستقرار على نظام بأقل قدر ممكن من الخسائر؛ وأحيانا أخرى بقلق من انفجار الأوضاع إلى ما لا يحمد عقباه. وسواء كان الأمر أملا أو قلقا فإنه يستند إلى تاريخ طويل مشترك بين مصر والسودان من الجوار والتفاعل والوحدة والانفصال، منذ العصور ما قبل الفترة الفرعونية المصرية، وحتى العصر الحديث. وكما يقال فإن الأفراد لا يختارون آباءهم وأمهاتهم، أما الدول فإنها لا تختار جيرانها، فالجغرافيا لها قواعدها الحاكمة والإجبارية، أما التاريخ فهو يرصد المكان وهو يتحرك خلال الزمن بما فيه من اختيارات البشر.
والمسألة السودانية الآن بلا شك لا تنفصل عن اللحظة الراهنة من تاريخ السودان، ومن تاريخ المنطقة، ومن ثم فإنها فى نظر بعضنا تمثل موجة ثانية من الربيع العربى المأسوف عليه أو الذى يستحق اللعنة، ومن ثم فإن العين السياسية ترى ما تحب، وعما إذا كانت الثورة السودانية الجارية قد تعلمت من دروس ما مضي، أم أنها لم تتعلم على الإطلاق، وكما يقال عن العرب من ضعف فى تعلم دروس الماضى يأتى على سبيل التذكرة. هذا ربما كان جزءا من المسألة، ولكن الجزء الذى لا يقل أهمية هو أن أيا كان المرء فى السودان واقعا بين الحكام أو المحكمون، أو ما بين العسكر أو المدنيين؛ فالحقيقة التى لا يمكن تجاهلها هى أن السودان مر بهذا المنعطف من قبل مرتين: الأولى فى أكتوبر عام 1964 عندما جرت الإطاحة بحكومة الفريق إبراهيم عبود؛ والثانية فى عام 1985 عندما جرت الثورة للإطاحة بحكم الرئيس جعفر نميري. العودة إلى ثورة العامين وبينهما عشرون عاما، والثورة الثالثة الآن والزمن ربع قرن، يطرح التساؤل ليس عما إذا كان حكم عبود والنميرى والبشير فاشلا أم لا، وإنما لماذا لم ينجح الحكم المدنى السودانى عندما أمسك بزمام السلطة ويأخذ البلاد إلى الأمام ويمنع تقسيم السودان ويجعله بلدا آمنا ومطمئنا ومزدهرا بما يليق ببلد واسع المساحة ومحدود السكان نسبيا (الآن 40 مليون نسمة تقريبا على مساحة 1.8 مليون كيلومتر مربع) وفيه الكثير من الموارد والخيرات والمواهب؟…
المسألة السودانية فى جوهرها تدور حول هوية السودان، حيث تختفى الدولة الوطنية وراء أردية متعددة من الصوفية الدينية إلى الإخوانية الدينية أيضا، إلى أشكال متعددة من النزعات العربية، وفى أوقات خاطفة نجحت الماركسية فى الوصول إلى السلطة عندما جرى انقلاب سريع بقيادة هاشم العطا والحزب الشيوعى السودانى عام 1971. وعندما تظهر الدولة الوطنية معترفة بالتعددية الجهوية والمناطقية والدينية والمذهبية وتضع كل ذلك فى حزم ليبرالية فإن هذه تنتهى فى قيمها إلى ديمقراطية إجرائية لا تلبث فيها الأغلبية أن تتشرذم؛ ومع تشرذمها تصاب بالشلل والاستدراج نحو الفوضى التى لا تجد هناك بدا من فضها بحكم عسكرى من نوع أو آخر. الجولة الراهنة من الثورة تنحو إلى الاتجاه الليبرالى والعودة إلى الحكم المدنى والديمقراطي، وكل ذلك لا يختلف كثيرا عما سار إليه الاتجاه فى ثورات سابقة عندما كان الحكم المدنى فيه بركات خاصة تُخرج السودان من جميع مآزقها وإشكالياتها. وقت كتابة هذا المقال كانت مطالب قوى المعارضة المختلفة وتجمع المهنيين السودانيين تقوم على توفير عملية انتقالية مدنية من خلال مجلس أغلبيته وقيادته ووزارؤه من المدنيين، بحيث يقتصر دور المجلس العسكرى على أقلية تشارك فى الأمور الأمنية وحماية الثورة.
أداة الضغط الأساسية هنا هى الجماهير التى يمكن تحريكها بالملايين أو مئات الألوف وكلها لديها من السخط والغضب ما يجعلها مستعدة للتضحية فى سبيل التغيير والانتخابات التى سوف تأتى بممثلى الشعب الحقيقيين. ما هو غائب عن الصورة هو ماذا سوف يفعل كل هؤلاء مع مشكلات السودان المزمنة، ويأخذ بيدها حتى تتقدم ليس بين دول العالم بالضرورة، وإنما بين الدول والشعوب الإفريقية التى دخل الكثير منها مرحلة إصلاح واسعة لم تكن أبدا سهلة أو سعيدة، بل إن ثمنها مر وعلقم. المعضلة المدنية فى السودان، كما كان فى غيرها من دول الربيع العربى هو العجز المدنى عن المواجهة المباشرة والشجاعة للمشكلات الهيكلية التى تعانيها المجتمعات العربية والإفريقية.
فالحقيقة أولا أن السودان عقب الانقسام إلى دولتين فى الشمال والجنوب جرت فيها عملية جراحية لاتزال آثارها مستمرة، وتحتاج الكثير من الجهد والتفكير لكى يلتئم الجرح، ويشفى الجسد. وهى ثانيا أن الانشطار ترك آثارا سلبية على الوحدة الوطنية وخلق سابقة للخروج من الدولة ظهرت بوضوح فى دارفور، وأقل وضوحا فى كوردفان ومناطق أخرى فى الدولة. وبينما كان كل ذلك يعزى إلى الإدارة السيئة لحكومات البشير، ومن قبله النميرى، وإلى غياب الحكم المدنى عامة، ومع ذلك فإنه لا يوجد فى إعلانات وتصريحات الثائرين سياسات التعامل مع المناطق التى تدهورت علاقاتها بالسلطة المركزية فى الخرطوم.
وهى ثالثا أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة يمكن بسهولة إلقاء اللوم فيها على الحكم البائد والفاسد، وفى ذلك قدر غير قليل من الصحة، ولكن ومرة أخرى هل يوجد لدى النخب الجديدة، وجماعة المهنيين ما سوف يواجه هذه الأزمات. سجل حكومات الربيع العربى الأولى كانت سخاء وترضية كبيرة للجماهير التى قامت بالثورة، سواء بتعيينات لا متناهية فى الجهاز الحكومى والقطاع العام، وزيادة حجم الدعم الحكومى للسلع المختلفة، ثم بعد ذلك طبع النقود بشراهة وترك الأمر للتضخم يأخذ مجراه.
نتصور أن جماعة المهنيين السودانيين ربما يكونون أكثر حكمة، ولكنهم لم يعبروا عنها حتى الآن، وسلوكياتهم فى إغلاق الطرق، وتحقيق الشلل فى شوارع العاصمة، ومحاصرة وزارة الدفاع، لا يفصح عن مراعاة للأحوال، وعقلانية فى إدارة السياسات العامة. إذا كان هناك من درس لثورات الربيع العربى فهو أنها لم تكن تعرف ما تريد، ولا ماذا تفعل، بعد الإطاحة برئيس الدولة؟!
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٨ مايو ٢٠١٩.