مع افتتاح أنفاق الإسماعيلية التى تربط سيناء بالوادى، يبدأ فصل جديد من التاريخ، لا يقل أهمية عن حفر قناة السويس الأم والجديدة معاً، ويماثل فى أهميته الكبرى عبور الجنود المصريين للقناة فى السادس من أكتوبر 1973. ففى كل هذه الأحداث الكبرى تشكل جزء مهم من تاريخ مصر والعالم.
الحديث عن عزلة سيناء أصبح من الماضى، استراتيجية الدفاع عن الدولة المصرية تأخذ مساراً جديداً، جذب المزيد من السكان إلى المراكز العمرانية الجديدة فى قلب وشمال وجنوب سيناء يفتح آفاقاً كبرى لخريطة سكانية لم تعهدها مصر طوال تاريخها، مستثمرو المعادن والزراعة والصناعة فى قلب سيناء لن تكون لديهم أى شكاوى فى نقل منتجاتهم إلى الوادى، شبكة الطرق الحديثة فى سيناء وفى الوادى تسهّل الأمر وتُغرى كثيرين بالانتقال، حيث موارد الرزق الجديدة. النجاحات الأمنية عبر السنوات الثلاث الماضية فى مواجهة جماعات الإرهاب الأسود تؤكد العلاقة العضوية بين الأمن والتنمية، فدون أمن لن تحدث تنمية، ودون تنمية لن يتحقق الأمن. ما يجرى فى سيناء يثبت تلك المقولة ويدحض أى اعتراض عليها.
أنفاق سيناء فى محاورها الثلاثة شمال السويس والإسماعيلية وجنوب بورسعيد تعيد النظر فى كثير من المسلمات التى استقرت عبر مئات السنين عن سيناء وأهلها وعن مواردها وكنوزها، كما تؤكد مسلمات معروفة، لكنها غابت عن عقول وإدراك كثيرين. المسلمة الأبرز هنا تتعلق بالإرادة، إرادة الفعل وتحدى الصعاب، وحين التطبيق ترتبط الإرادة بالرؤية البعيدة والأهداف المحدّدة والتخطيط المحكم وتوظيف الكفاءات والموارد المتاحة بأعلى المستويات، والاستفادة من الخبرات العالمية، والتعاون مع كل من يمكنه تقديم ولو دفعة واحدة إلى الأمام. إنها منظومة متكاملة نتيجتها العملية تعنى الإنجاز والتقدّم إلى الأمام.
أهمية الإرادة السياسية تبدو جلية فى ضوء حقيقة أنه منذ تحرير سيناء فى أبريل 1982 وضعت الكثير من الدراسات حول تعمير سيناء، والمشكلات، التى تواجه عمليات الإعمار، لكنها ظلت حبيسة الأدراج الحكومية. ومن أبرز تلك الدراسات ما صدر عن «مركز الدراسات المستقبلية» التابع لمجلس الوزراء، حيث رصدت عدة مشكلات رئيسية، كالقيود على القطاع الخاص، وتعذّر إثبات الجنسية المصرية لعدد من أهل سيناء لا يحملون بطاقات الرقم القومى، وظهور اقتصاد بدوى موازٍ قائم على التهريب وممارسة تجارة غير قانونية، نتيجة ضعف التنمية، وبيئة لا مبالية بظهور جماعات عنف وإرهاب. ونادت الدراسة بتحقيق نمو متوازن فى مناطق سيناء المختلفة، وتشجيع الهجرة السكانية من محافظات الوادى ووضع سياسات محفّزة للاستثمارات الخاصة وتبنّى مشروعات قومية كبرى. ورغم أهمية كل هذه التوصيات، فلم تتحرّك الأجهزة المعنية، بل ظلت صامتة إلى ما بعد عام 2014، واهتمام الدولة المصرية بالمشروعات القومية الكبرى، والتركيز على إعادة هيكلة سيناء بصورة شاملة.
وتاريخياً، ارتبطت سيناء بأنها ممر للغزوات الحربية، سواء من الشمال إلى قلب مصر أو من مصر نفسها إلى محيطها الاستراتيجى فى اتجاه الشمال الشرقى، مروراً بفلسطين وسوريا ولبنان. ومع حفر قناة السويس وافتتاحها فى عام 1869 تغيّرت الخريطة الاستراتيجية بالنسبة لمصر وجوارها. القناة صارت عائقاً أمام الاندفاعات البرية المنطلقة من الوادى أو الساعية إليه، وهكذا شكّلت حاجزاً بين وادى مصر وسيناء التى بدأت تسود فيها مقولات العزلة والتهميش والابتعاد عن فكر المركز فى القاهرة وأولوياته، وصارت مصادر الرزق مقيّدة بأنشطة محدودة وبعضها غير قانونى تورّط فيه عدد محدود، وحتى ما قبل احتلال سيناء ما بين 1976 إلى 1974، تبلورت استراتيجية دفاعية من ثلاث مراحل، تبدأ أولاها فى شمال سيناء، وتبدأ ثانيتها فى الوسط، أما الثالثة فتقف عن شط القناة جهة الشرق.
أنفاق سيناء والمشروعات التنموية الأخرى كمدينة الإسماعيلية الجديدة ومصانع الأسمنت والرخام والتجمعات السكانية المُحاطة بأراضٍ قابلة للزراعة، مما يعنى توطين السكان والجامعات والمدارس ومطارى المليز ورأس سدر وشبكة الطرق والكبارى، جميعها تعيد النظر فى كل المفردات السالبة التى سادت من قبل. وجود ما يقرب من 3 ملايين مصرى يقيمون بسيناء فى مرحلة أولى قد تستغرق من ثلاث إلى خمس سنوات، بعدها يرتفع العدد إلى سبعة أو عشرة ملايين ساكن فى مدى زمنى عقدين مقبلين، يعنى تحويلاً كاملاً لنمط الحياة فى مصر. التردّد فى الانتقال من الوادى الضيق إلى سيناء الرحبة لم يعد له مبرر. انتقاد الدولة بتعمّد تهميش سيناء انتهى إلى الأبد. المسئولية الآن على المواطنين أنفسهم. مبادرات رجال الأعمال والشركات فى اقتحام مجالات الاستثمار الزراعى والصناعى والتعدين مطلوبة الآن أكثر من أى وقت مضى. أرض سيناء بكر منفتحة على الكثير من تلك المبادرات الجاذبة لفرص العمل وفرص الكسب معاً.
المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، تتكامل مع الأنفاق والطرق والمدن الجديدة. الفارق أن المنطقة الاقتصادية تعتمد على الاستثمارات الأجنبية، لكن عمالتها ستكون مصرية بالأساس، وهؤلاء بحاجة إلى مدن وتجمعات سكانية متكاملة الخدمات، وبحاجة إلى شبكة طرق تسهّل تحركاتهم. هكذا يحدث التكامل على الأرض، وتحدث النتائج التراكمية الإيجابية بين حركة الاستثمار الخارجى ومبادرات الاستثمار المحلى، فالهدف واحد والنتيجة واحدة، فلا عزلة ولا تهميش بعد اليوم.
إجمالى ما سبق يصب فى حقيقة أخرى، فاستراتيجية الدفاع السابقة لم تعد متوافقة مع الحقائق الجديدة. خبرة اندفاع قوات معادية فى أيام معدودة من أقصى الشمال إلى شط القناة، كما حدث 1967، لن تحدث أبداً. قناة السويس الجديدة بطول 83كم موازية للقناة الأم، وتعدّد التجمعات السكانية والأنشطة الصناعية والطرق التى تخترق سيناء من جميع المحاور، كلها تضع أسس أسلوب مختلف فى الدفاع عن مصر من جهة الشمال الشرقى. أصحاب الشأن يدركون ذلك جيداً، والخطط وُضعت لتناسب الحقائق الجديدة وتتطور معها.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٨ مايو ٢٠١٩.