في مطلع ٢٠١٨، وفي ظل تهديدات “ترامب” بالانسحاب من الاتفاق النووي، قررت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة تشكيل مجموعة تحاور إيران. وكان أحد الأهداف هو إقناع الأمريكيين بأن أوروبا تتفهم التوجس من النتائج السلبية للاتفاق النووي، وأنها قادرة على الضغط على إيران وعلى الحصول على مكاسب من خلال الحوار. ولم تعترض إيران على المبدأ؛ إلا أنها اشترطت مشاركة إيطاليا والممثلة الأعلى لسياسة الأمن والشئون الخارجية للاتحاد الأوروبي باعتبارهما أنصار مقاربة أكثر توازنًا، واشترطت أيضًا انحصار الحوار في مناقشة الملفات الإقليمية دون غيرها، إذ كانت طهران تخشى أن يُطلَب منها تنازلات أخرى لإنقاذ اتفاق قامت هي بتنفيذ بنوده وأوفت بالتزاماتها. ووافق الأوروبيون على الطلبات الإيرانية، حيث عُقدت أربعة لقاءات كان أولها في مؤتمر ميونخ في فبراير ٢٠١٨، وآخرها في ديسمبر 2018، وتناولت أساسًا اليمن، وبدرجة أقل سوريا مرة واحدة. ويبدو حصاد هذه اللقاءات ضئيلًا على عكس ما يدعيه المسئولون الأوروبيون. وقد تكون أهم الإيجابيات هو التمهيد لاتفاق استكهولم، وإجبار الفاعلين الأوروبيين الكبار على التنسيق بينهم فيما يتعلق بالملف الإيراني.
في بيان مشترك صدر في ٩ مايو 2019، عبر وزراء خارجية ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا والممثلة الأعلى لسياسة الأمن والشئون الخارجية، عن قلقهم العميق جراء التصريحات الإيرانية المتعلقة باحتمال التخلي عن التزامات الجمهورية الإسلامية الناتجة عن توقيعها اتفاق “خطة العمل الشاملة المشتركة” وعن معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. ودعا البيان إيران إلى تنفيذ كافة التزاماتها كما فعلت إلى الآن، وإلى الامتناع عن أي تصعيد. وشدد البيان على ضرورة امتثال إيران للأطر والآليات التي نصّت عليها الخطة. وكرر البيان التزام أوروبا بتعهداتها النابعة عن الخطة، وأسفها لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وعبر عن إصرار أوروبا على مواصلة الجهود للسماح بالتبادل التجاري المشروع بين إيران ودول المجموعة، وعلى تفعيل بنية وآلية INSTEX التي تسمح بتفادي العقوبات الأمريكية على من يتعامل تجاريًّا مع إيران.
وسبق هذا البيانَ الرباعي بأيام بيانٌ آخر صادر عن الأطراف نفسها في ٤ مايو شجب التصعيد الأمريكي الأخير، وتمسك بالتزامات الجميع المنبثقة من الوثائق الدولية نفسها. وكرر البيان العزم على تفعيل آلية INSTEX، وعلى ضمان القنوات المالية، واستمرارية الصادرات الإيرانية، وقال إن المساهمين في INSTEX قرروا زيادة مساهمتهم المالية في ميزانيتها العملياتية. ودعا البيان روسيا والصين إلى اتخاذ إجراءات للسماح بممارسة التبادل التجاري المشروع مع إيران. واعتبر البيان أن خطة العمل الشاملة المشتركة ما زالت ضرورية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط ولأمن أوروبا.
باختصار، يُجمع الموقّعون على رفض أي تصعيد، أمريكيًّا كان أم إيرانيًّا. ولكنهم يبدون على وشك تبني الرواية الأمريكية والسعودية التي ترى في إيران المصدر الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، ويهددون طهران بإجراءات إن نفذت تهديداتها، فمثلًا قال وزير الخارجية البريطاني إن انتهاك الاتفاق النووي “ستكون له تبعات”. وفي يناير 2019 قال وزير الخارجية الفرنسي إن بلاده ستوقع عقوبات على إيران إن استمرت في صناعة صواريخ باليستية وتزويد بعض المجموعات المسلحة في الشرق الأوسط بها”، وأضاف أن الإيرانيين يدركون هذا.
وفي الوقت ذاته يؤكد الأوروبيون عزمهم تفعيل INSTEX للسماح بتبادل تجاري، علمًا بأنه إلى الآن لم توقع ولم تُنفذ أي صفقة من أي نوع وفقًا لهذه الآلية، علمًا بأن الشركات الأوروبية لديها تخوف كبير من احتمال توقيع عقوبات أمريكية ضدها، وبأن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي تجعل من الصعب تصور مخاطرة أوروبية تتحدى الولايات المتحدة. ويلاحظ الأوروبيون أن الإيرانيين احترموا إلى الآن “خطوطهم الحمراء” لا سيما المتعلقة بالتفتيش على المنشآت وبعدم تطوير البحث والمفاعلات، ويقرون بأن الرد الإيراني محسوب بدقة، وموجه أساسًا لأوروبا، مطالبًا إياها (والصين) بفعل المزيد، ومهددًا بالتصعيد، ومحاولًا دق “إسفين” بين واشنطن والدول الأوروبية. وبالطبع هناك من يرى أن تلك المحاولة ستأتي بنتائج عكسية، وستجبر الأوروبيين على التقارب مع واشنطن. وفي المقابل، هناك من يقلل من أهمية احتمال التصعيد، ويقول إن الرئيس “روحاني” مجبر على اتخاذ خطوات للدفاع عن خيار الانفتاح الذي يهاجمه المتشددون، وإن بيانه يُفهم في هذا السياق، وأن الخطوة الإيرانية خالفت التوقعات باعتدالها.
وقال مساعدو وزير الخارجية البريطانية، إن البيان الإيراني الأخير لا يُعد في حد ذاته -ما لم تتبعه خطوات عملية أخرى- خرقًا لخطة العمل المشتركة الشاملة، وبالتالي لا يحتم في حد ذاته توقيع عقوبات.
وعلي أي حال، نوه محللون إلى أن أوروبا وإيران لا يتفاوضون بل يتحاورون، لأن مستوى التوتر بين إيران من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية ثانية، وأعداء إيران الإقليميين من ناحية ثالثة، لا يترك أوراقًا كثيرة في يد الأوروبيين، ولا يسمح بإجراء مفاوضات.
التشخيص الأوروبي للوضع الحالي أن إيران ضعيفة جدًّا، وأنها لا تملك إلا سلاحًا واحدًا، هو القدرة على شن حروب لا متكافئة، سواء مباشرة (في مضيق هرمز) أم غير مباشرة (ويندرج في هذا تزويد بعض الميليشيات بصواريخ باليستية) وعلى دعم الإرهاب. ومن الجدير بالذكر أن كشف محاولة إيرانية لقتل معارضين للجمهورية الإسلامية في الدنمارك في أكتوبر 2018 أثار غضبًا شديدًا في الأوساط السياسية الأوروبية، “منعت لفترة أي حديث عن خيار التقارب مع إيران”. وفي حوار مع كاتب الدراسة، تساءل أحد أنصار خيار التقارب عن صاحب قرار تحضير الاغتيالات، وهل هناك جهات إيرانية حاولت عمدًا غلق طريق الحوار المؤدي إلى تنازلات؟.
ويرى الأوروبيون أن الرئيس “ترامب” لا يريد حربًا، ولا إسقاط النظام الإيراني (لأن المنطقة لا تتحمل بؤرة فوضى جديدة)، ولكنه يسعى إلى تقوية موقفه التفاوضي لإجبار إيران على التراجع، ولذلك لا يعيرون تصريحات “جون بولتون” اهتمامًا كبيرًا على عكس رأي بعض المحللين الأمريكيين، لأنه -أي بولتون- من أنصار اللجوء شبه الدائم إلى القوة العسكرية، ولكنهم في الوقت نفسه يخشون من احتكاك عسكري مقصود أو غير مقصود يؤدي إلى تصعيد عسكري كارثي. ونشرت مجلة فرنسية مؤثرة في ٧ مايو مقالة عن سيناريوهات الحرب المحتملة.
ولا يتسع المجال لعرض مواقف الدول الأوروبية الثماني والعشرين، ونكتفي هنا بالقول إننا عرضنا لموقف الثلاثة الكبار الموحد مع قدر من التباين، وأن هناك غيرهم، منهم من يرى أن المهمة الأوروبية الأولى هي تحسين العلاقة مع طهران وعدم الانسياق الأعمى وراء واشنطن (وهؤلاء هم: الممثلة الأعلى (الكارهة لترامب)، وإيطاليا، وإسبانيا، والنمسا)، وقد لعبوا دورًا محوريًّا في تخفيف لهجة البيانات الأوروبية التي أدانت نشاط إيران في مجال الصواريخ وسعيها لاغتيال معارضين. ويُلاحظ أن بولندا -المنحازة عامة إلى واشنطن والتي استضافت مؤتمرًا معاديًا لإيران- ما زالت متمسكة بالاتفاق النووي وخطة العمل المشتركة الشاملة.
الخلاصة
وجّه باحثون وخبراء أوروبيون رسالة مفتوحة إلى الرئيس “ترامب” تدعوه إلى العودة إلى حظيرة الاتفاق النووي، وأبرزت ما زعمت أنها سلبيات سياساته الحالية، أهمها فيما يتعلق بموضوع الدراسة أن تلك السياسات تدفع إلى مزيدٍ من عدم الاستقرار في الإقليم -على عكس ما يدعيه- وأنها تقوي معسكر المتشددين في إيران، وأنها تعاقب شعبًا لا حكومته الظالمة. أي إن هؤلاء الخبراء يفترضون أن تصعيدًا إيرانيًّا حتميٌّ. وهذه المقولة ما زالت قيد الاختبار.
ما هو واضح أن إيران اتخذت خطوة التصعيد الأخيرة على مضض، وقامت بأقل القليل، ولكنها قد تضطر إلى تصعيد جديد إن لم يحدث تقدم، والسؤال هو: هل يتحمل اقتصادها مواجهة جديدة؟
لقد قال “ترامب” إنه يريد مفاوضات مع طهران، ولكن شروطه تبدو مجحفة، وستجبر إيران على مراجعة مهمة، وقد تكون كاملة لسياساتها الإقليمية. ولا يمكن تحديد رد فعل إيران: رضوخ أم تصعيد. ما هو واضح أن المتشددين سيلعبون دورًا مهمًّا في صياغة الرد.
أعطت إيرانُ أوروبا والصين مهلة شهرين، ولا نرى كيف يمكن للأوروبيين إجبار شركاتهم على تحدي الولايات المتحدة، وحتى لو افترضنا أن الحكومات الأوروبية ستضاعف مجهودها لمساعدة الاقتصاد الإيراني، فلن يكون هذا كافيًا لموازنة ولو جزئية لمفعول العقوبات الأمريكية. وبمعنى آخر: ستبذل أوروبا مجهودًا لحث إيران على التهدئة، ولكنه لن يكون كافيًا في حد ذاته لدفع طهران على تغيير سياساتها وإن كان من الممكن أن يقنعها بالتمهل.
ويبدو لي أن أحد المفاتيح المهمة في يد بكين، هل ستختار الصين دخول التحدي مع الولايات المتحدة، أم ستكتفي بتوظيف الملف الإيراني في مفاوضات تجارية مع واشنطن؟ وعلى فرض دخول الصين في اختبار للقوة مع الولايات المتحدة حول إيران، فهل سيدفع هذا إلى الاصطفاف وراء واشنطن أم ستتشجع وتقول لا للرئيس “ترامب”؟
وتملك طهران مفاتيح، قالت لي مصادر فرنسية في نوفمبر 2018 إن جماعة السياسة الخارجية الإيرانية منقسمة على نفسها حول الموقف الواجب تبنيه تجاه الصين، فطهران تحتاج إلى حلفاء ولكنها تخشى “حضن الدب الصيني”.
من ناحية أخرى، يتصور بعض الأوروبيين أن الموضوع سيطرح في المفاوضات التجارية القادمة بين أوروبا والولايات المتحدة، وتأمل أن تقدمًا ما سيُحرَز. ويبدو لي هذا غير واقعي لأن القرارات الأمريكية جزء من استراتيجية متماسكة ومدروسة بصرف النظر عن كونها صائبة أم لا.
ما هو واضح أن أي تصعيد إيراني سيجبر الأوروبيين على الاصطفاف وراء واشنطن، وأن الأوروبيين لا يستطيعون تهدئة الوضع في خلال الشهرين القادمين دون العمل مع الصين وروسيا، وهي سياسة سيعترض عليها الكثيرون منهم، ونذكر أن البيانات الأخيرة طالبت موسكو وبكين بممارسة دور.