شكّلت مفاوضات استكهولم بشأن الأزمة اليمنية والتي انعقدت في الفترة من 6 إلى 13 ديسمبر 2018 بين الحكومة اليمنية المُعترف بها دوليًّا والمتمردين الحوثيين، برعاية المبعوث الأممي في اليمن “مارتن غريفث”؛ مرحلة جديدة ضمن مسارات تسوية الأزمة اليمنية. وقد شملت مُخرجات استكهولم قضايا أساسية من أهمها: اتفاق حول مدينة الحديدة يتضمن وقف إطلاق النار بين الجانبين، بالإضافة إلى انسحاب القوات من موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، مع التأكيد على ضرورة إزالة جميع المظاهر العسكرية في المدينة، ناهيك عن اتفاق يرتبط بوضع آلية لتفعيل اتفاقية تبادل الأسرى بين الجانبين، فضلًا عن عدد من التفاهمات بشأن الوضع في تعز.
ورغم حالة الزخم الذي أضفتها مخرجات استكهولم آنذاك، إلا أن الاتفاق لم يترتب عليه أي تغييرات ملموسة، سواء فيما يرتبط بعملية بناء الثقة بين الطرفين، أو تقليل حجم المعاناة الإنسانية التي فرضها الصراع الدائر بين المتمردين الحوثيين والحكومة اليمنية والذي أفضى إلى نزوح ما يقرب من 3.3 ملايين شخص، بالإضافة إلى حاجة نحو 24 مليون يمني إلى مساعدات غذائية خلال عام 2019، وفقًا لتقديرات “مارك لوكوك” مسئول المساعدات الإنسانية في الأمم المتحدة. أضف إلى ذلك آلاف القتلى، الأمر الذي يؤكد تفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن جراء الصراع الممتد منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014.
انسحاب أحاديّ واتجاهات مُتباينة
وفي تطور نوعي، أعلن الحوثيون في 11 مايو 2019 بدء انسحابهم المفاجئ من الموانئ اليمنية الثلاثة (ميناء الحديدة، والصليف، ورأس عيسى) الواقعة في الساحل الغربي لليمن. وقد أثار هذا التطور حالة من الجدل بين الأطراف الفاعلة في الأزمة، خاصة أن هذا الانسحاب لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه إعلان مماثل من قبل الحوثيين في يناير 2019، حيث أعلنوا -آنذاك- انسحابهم وإعادة انتشار قواتهم في الحديدة، الأمر الذي لم يتحقق فعليًّا على الأرض، حيث قام الحوثيون وقتها بتسليم الحديدة لقوات خفر السواحل الموالية لهم، وهو ما رفضه الجنرال الهولندي “باتريك كاميرات” الرئيس السابق للجنة إعادة الانتشار، إذ اعتبر وقتها أن أي قرار بشأن الانسحاب يجب أن يتم بصورة رسمية وبقرار من ممثلي لجنة إعادة الانتشار.
وكانت خطة إعادة الانتشار التي توصل إليها “مايكل لوليسغارد” رئيس بعثة المراقبين الأمميين في اليمن (فبراير 2019)، تقضي في مرحلتها الأولى بانسحاب الحوثيين إلى نحو 5 كيلومترات عن الموانئ الثلاثة مقابل انسحاب القوات الحكومية اليمنية مسافة كيلو واحد عن مثلث “كيلو 8” بالمدينة، في حين تتضمن المرحلة الثانية قيام الجانبين بسحب قواتهم على بعد 18 كلم خارج المدينة، مع تسليم خرائط الألغام للأمم المتحدة بغرض نزع الألغام وإزالة المتفجرات حول المدينة.
وقد تطور إزاء عملية الانسحاب التي أعلن عنها الحوثيون اتجاهان متباينان:
الاتجاه الأول: تدعمه الحكومة اليمنية، ويغلب عليه الحذر والترقب، ومن ثم التشكيك في الإعلان الحوثي، حيث يرى أنصار هذا الاتجاه أن عملية الانسحاب أحادي الجانب وبدون رقابة تُعتبر تحايلًا و”مسرحية هزلية” من قبل الحوثيين، وهو ما عبر عنه رئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار بالحديدة اللواء “صغير بن عزيز”. وبالمثل أكد وزير الإعلام اليمني “معمر الأرياني” أن الإعلان الحوثي يهدف إلى تضليل المجتمع الدولي، موضحًا أن عملية إعادة الانتشار غير دقيقة ومضللة، وتُعتبر استنساخًا لعملية تسليم ميناء الحديدة التي أعلن عنها الحوثيون.
الاتجاه الثاني: يتبنى وجهة نظر متفائلة، ومن ثم فإنه يدعم عملية الانسحاب الحوثي على أساس أن هذه هي الخطوة العملية الأولى على أرض الواقع، وهو ما عبر عنه “مايكل لوليسغارد” رئيس لجنة التنسيق وإعادة الانتشار. ويُنظر إلى هذا الموقف باعتباره تحولًا نوعيًّا، إذ تعتبر المرة الأولى التي يعلن فيها الفريق الأممي باليمن ترحيبه بانسحاب أحادي الجانب منذ توقيع اتفاق استكهولم في ديسمبر 2018.
السياق العام المُصاحب لعملية الانسحاب
لا يمكن قراءة إعلان الحوثيين انسحابهم من موانئ الحديدة بمعزل عن السياق الداخلي والخارجي المصاحب لعملية الانسحاب، الأمر الذي يُمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- يأتي إعلان الحوثيين عن انسحابهم من موانئ الحديدة قبل أيام من انعقاد جلسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن اليمن والمقرر عقدها في 15 مايو 2019، وهو ما يعني أن جماعة الحوثي تسعى لتخفيف الضغوط المتوقعة عليها خلال هذه الجلسة، خاصة في ظل الرغبة الدولية لإنهاء المعاناة الإنسانية في اليمن، ومحاولة التوصل إلى تسوية سلمية. كما أن إعلان الحوثيين عن انسحابهم يهدف إلى إحراج الحكومة اليمنية دوليًّا حال إصرار الأخيرة على رفض الانسحاب أحادي الجانب، إذ يمكن للحوثيين وقتها أن يتهموا الحكومة اليمنية بعرقلة الاتفاق، وهو ما عبّر عنه “محمد علي الحوثي” رئيس اللجنة الثورية العليا، عندما أكد “أن مقاتليه أجبروا على التصرف من جانب واحد بعد رفض الحكومة تنفيذ الاتفاق”.
2- يرتبط إعلان الحوثيين انسحابهم من موانئ الحديدة بالتطورات المتلاحقة والتحولات التي طرأت على الساحة الدولية، خاصة فيما يرتبط بالتصعيد المُتبادل بين الولايات المتحدة وإيران. ومن ثم، يمكن أن تكون عملية الانسحاب بمثابة محاولة من الحوثيين لتقليل حجم الخسائر التي يمكن أن تنالهم باعتبارهم أحد وكلاء وأذرع إيران في المنطقة. كما قد يكون هذا التحرك بفعل توصيات من طهران للحوثيين بغرض قطع الطريق أمام أي ضربات أمريكية محتملة.
3- يرتبط انسحاب الحوثيين من موانئ الحديدة بطبيعة الوضع الميداني والعسكري في اليمن بشكل عام، خاصة في ظل الهزائم المتلاحقة التي طالت المتمردين الحوثيين في عددٍ من المناطق في الآونة الأخيرة، ومنها: الضالع، وصعدة، ولحج، والجوف، والبيضاء، وهو ما يعني أن الانسحاب قد يكون محاولة من الحوثيين لتجنب مزيد من الاخفاقات، إذ يستشعر الحوثي أن تغيير موازين القوى العسكرية لن تكون في صالحه في المستقبل القريب، وهو ما يجعله يبحث عن مخرج يضمن له البقاء في المعادلة السياسية فيما هو قادم.
4- يأتي إعلان الحوثيين عن انسحابهم من موانئ الحديدة في ظل تغيرات سياسية طرأت على الداخل اليمني، ويأتي في مقدمتها انعقاد مجلس النواب اليمني في مدينة سيئون بحضرموت (13 أبريل 2019). وتعتبر هذه الجلسة هي الأولى من نوعها منذ عام 2015، وعلى إثرها أعلن 16 حزبًا سياسيًّا تدشين تحالف جديد تحت اسم “التحالف الوطني للقوى السياسية اليمنية”، وذلك بغرض دعم الشرعية اليمنية ومقاومة الانقلاب الحوثي، وهو ما يعني أن هذا التحالف من شأنه أن يضعف المكاسب المستقبلية للحوثيين في حالة استمرار تعنت الحوثي ومواصلة عملية الانتهاكات داخل اليمن، خاصة وأن مجلس النواب اليمني كان قد أعد مشروع قانون يهدف إلى تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية وذلك في ختام جلسته غير الاعتيادية التي انعقدت في مدينة سيئون بحضرموت.
احتمالات قائمة
في ضوء ما سبق عرضه، يمكننا الوقوف على عدد من الاحتمالات بشأن جدية الانسحاب الحوثي من عدمه، وذلك على النحو التالي:
الاحتمال الأول- الانسحاب النهائي: ينطلق هذا الاحتمال من نظرة أكثر تفاؤلًا حيث يفترض جدية الحوثيين وصدقهم في عملية الانسحاب، والرغبة في حلحلة الأزمة اليمنية، ومن ثم إنهاء المعاناة الإنسانية. ويعزز هذا الاحتمال عدد من المؤشرات، من بينها حالة الخناق والتضييق الدولي المفروضة على طهران، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على استمرار دعمها للحوثيين على الأقل في الوقت الراهن، وهو ما يعني أن الحوثي قد يفتقد لأبرز داعميه ومموليه، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم قدرة الحوثي على مواصلة الصمود، فضلًا عن التغيرات الميدانية والهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها جماعة الحوثي. ناهيك عن توحيد الصف وتماسك الداخل اليمني بشكل كبير عما كان عليه الوضع في مراحل سابقة، الأمر الذي من شأنه أن يخصم من نفوذ ورصيد الحوثيين. وعليه فقد تصب هذه التفاعلات تجاه اقتناع الحوثيين بضرورة الانسحاب النهائي، ومن ثم بدء عملية التسوية أملًا في البحث عن دور مستقبلي فاعل.
الاحتمال الثاني- الانسحاب المؤقت: يستند هذا الاحتمال إلى الخبرة التاريخية للحوثيين في المراوغة والالتفاف على الاتفاقيات، وتضليل المجتمع الدولي، ومن ثم يفترض هذا الاحتمال أن انسحاب الحوثيين سيظل مؤقتًا ولن يخرج عن كونه جزءًا من تكتيك حوثي يستهدف كسب مزيد من الوقت من أجل استعادة التموضع في عدد من المناطق. ويستدل أصحاب هذه الرؤية بموقف الحوثيين في يناير 2019 عندما أعلنوا بدء انسحابهم من موانئ الحديدة دون أن يتحقق ذلك على أرض الواقع، ناهيك عن عدد من التقارير التي أكدت أن الحوثيين قاموا بتسليم موانئ الحديدة لعناصر تابعة لهم بعدما ألبستهم الزي الرسمي لقوات خفر السواحل اليمنية، وهو ما يؤكد حالة التمويه وغياب النية لدى الحوثيين بالانسحاب الجاد. وعليه يرى أصحاب هذا النهج أن استمرار الخداع الحوثي بهذه الصورة يستلزم موقفًا دوليًّا جادًّا وحازمًا وذلك من خلال فرض مزيد من العقوبات والضمانات التي تمنع الحوثيين من الالتفاف على عملية التسوية، في حين يذهب البعض للتأكيد على أن اللجوء للخيار العسكري ضد الحوثيين شر لا بد منه، إذ سيكون بمثابة الأداة الناجزة التي ستتمكن من القضاء التام على الحوثيين.
وتبقى كافة الاحتمالات المتعلقة بشأن انسحاب الحوثيين من موانئ الحديدة قائمة، وتبقى فرص التصعيد من التهدئة مرهونة بجدية التحركات الحوثية من عدمها.