تحظى منطقة شرق المتوسط باهتمام متزايد من جانب عدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، وذلك عقب الإعلان عن الاكتشافات الهائلة المتتالية من الغاز، والتي بدأت في عام 2009 إثر إعلان إسرائيل عن اكتشافها حقل تمارا، ثم حقل ليفياثان في عام 2010 بالقرب من حيفا، حيث يُقدر حجم الاحتياطيات التي تم اكتشافها في الحقلين مجتمعين بنحو 26 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ثم اكتشاف حقل أفروديت في عام 2011 قبالة السواحل القبرصية باحتياطي يقدر بنحو 5-8 تريليونات قدم مكعب، ثم اكتشافات حقل ظُهر المصري في عام 2015 الذي بحجم احتياطيات تقدر بحوالي 30 تريليون قدم مكعب.
التحركات التركية.. السياق ومؤشرات التصعيد
وجاءت ردود الفعل التركية في المنطقة لتثير العديد من التساؤلات حول حقيقة الدوافع التركية في المنطقة. فقد أعلنت أنقرة في 3 مايو 2019 عزمها القيام بأعمال تنقيب عن الغاز حتى شهر سبتمبر 2019 في مناطق تدخل ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. وقد قوبل هذا التحرك برفض من جانب عدد من الدول، إذ أعلنت الخارجية المصرية في بيان لها، في 4 مايو 2019، رفضها أي إجراء أحادي الجانب يتعلق بأنشطة الحفر في منطقة بحرية غرب قبرص، حيث اعتبرت مصر أن هذا الأمر من شأنه أن يؤثر على الأمن والاستقرار في المنطقة. في الوقت ذاته، أعربت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي “فيديريكا موغيريني” عن قلقها من هذه التحركات التركية، ودعت أنقرة إلى الامتناع عن أي عمل غير قانوني، وضرورة احترام الحقوق السيادية لقبرص، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي سيرد على هذه التحركات بشكل ملائم وبتضامن كامل مع قبرص. كما وصفت الولايات المتحدة، على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية “مورغان أورتاغوس”، التحركات التركية بـ”الاستفزازية” التي تُهدد بإثارة التوترات في المنطقة.
وهكذا، هناك توافق دولي واضح على رفض التحركات التركية الأخيرة في منطقة شرق المتوسط، واعتبارها مصدرًا لمزيد من التوتر والصدام المُحتمل بين عدد من دول المنطقة، خاصة وأن هذه التحركات تأتي في سياق سياسي غير مستقر ناجم عن طبيعة العلاقات بين عدد من دول المنطقة. حيث تشهد العلاقات المصرية-التركية حالة من الاحتقان الناجم عن الموقف التركي العدائي من ثورة 30 يونيو وتداعياتها، ناهيك عن تأزم العلاقات بين تركيا واليونان والتي تفاقمت على إثر المناوشات بين الجانبين على خلفية عمليات التنقيب في شرق المتوسط، فضلًا عن العداء التاريخي الممتد بين أنقرة ونيقوسيا منذ عام 1974 والتي لا تزال آثاره قائمة حتى الآن.
في هذا السياق المضطرب، يُمكننا الوقوف على أهم مؤشرات التصعيد التركي والسلوكيات العدائية تجاه دول منطقة شرق المتوسط:
1- تجاهل الاتفاقيات الدولية: يُعتبر النهج التركي المُخالف لقواعد القانون الدولي للبحار، ورفض الاتفاقيات الخاصة بترسيم الحدود البحرية؛ أحد أبرز ملامح ومؤشرات التصعيد التركي في المنطقة. فقد أعلنت أنقرة في فبراير 2018 على لسان وزير خارجيتها “مولود جاويش أوغلو” رفضها اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص والتي تم التوقيع عليها في ديسمبر 2013؛ حيث اعتبر “أوغلو” آنذاك أن الاتفاقية لا تحمل أية “صفة قانونية”، الأمر الذي رفضته مصر، وأكدت في المقابل -على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية- “أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتها، مشيرًا إلى أنها تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة”. فضلًا عن ذلك، أبدت تركيا اعتراضها على اتفاقية ترسيم الحدود بين إسرائيل وقبرص والتي أقرها الجانبان في عام 2010. ويأتي رفض أنقرة لهذه الاتفاقيات انطلاقًا من المزاعم التركية بأنها لا تراعي حقوق جمهورية قبرص الشمالية -التي لا تعترف بها سوى أنقرة- في الاستفادة من موارد وثروات الطاقة الموجودة في المنطقة.
2- التلويح باستخدام القوة: لجأت تركيا إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية ضد قبرص واليونان حال عدم امتناعهما عن عمليات التنقيب والبحث عن حقوق الغاز في منطقة شرق المتوسط، وهو ما عبر عنه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في فبراير 2018، خلال كلمته أمام اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، عندما قال إن “حقوقنا في الدفاع عن الأمن القومي في منطقة عفرين شمال غرب سوريا هي نفسها في بحر إيجه وقبرص، وقيام القوات المسلحة التركية بعملية غصن الزيتون لتطهير عفرين شمال سوريا من التنظيمات الإرهابية لن يعوق تركيا عن حماية حقوقها في البحر المتوسط وبحر إيجه”. في السياق ذاته، أطلق الجيش التركي في 27 فبراير 2019 أكبر مناورات بحرية في تاريخه، والتي أطلق عليها “الوطن الأزرق 2019″، حيث شملت هذه المناورات ثلاثة بحار محيطة بتركيا (البحر الأسود، بحر إيجه، البحر المتوسط)، وذلك بمشاركة نحو 103 قطع بحرية متنوعة. وجاءت هذه المناورة بعدما أطلقت أنقرة في 22 فبراير 2019 السفينة “ديبسي ميتروا-1” للقيام بأعمال التنقيب شرق المتوسط، لتكون بذلك ثاني سفينة تركية للتنقيب عن الغاز بعد السفينة “فاتح الوطنية” التي أطلقتها تركيا في أكتوبر 2018 للغرض ذاته، وهو ما يعني أن أنقرة على استعداد للصدام البحري واستخدام القوة العسكرية، ومن ثم التصعيد ضد عدد من القوى الفاعلة شرق المتوسط.
3- اعتراض مسار السفن: عمدت تركيا طيلة الفترات الماضية إلى منع مرور السفن، والحيلولة دون استمرار شركات التنقيب في القيام بمهامها الاستكشافية، الأمر الذي بدا واضحًا في فبراير 2018 عندما قامت أنقرة بعرقلة ومنع الحفار “سابيم 1200” التابع لشركة إيني الإيطالية من التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه القبرصية. وقد بررت تركيا -آنذاك- تحركاتها ضد شركة إيني بأن السفينة تتجه للتنقيب ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة للقبارصة الأتراك، وهو ما اعتبره البعض منافيًا لحقوق المرور البريء المنصوص عليه ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. الأمر ذاته تكرر في عام 2011 عندما قامت تركيا بإرسال سفن حربية إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اعتراضًا على قيام شركة “نوبل إنجري” الأمريكية بأعمال تنقيب في المناطق الاقتصادية لقبرص. ورغم أن هذه المحاولة التركية لم تكن مُجدية نظرًا لأن الصدام مع هذه الشركة الأمريكية كان كفيلًا بأن يُدخل تركيا في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما لا تتحمله أنقرة، الأمر الذي ساهم في خفض التوتر والتصعيد من قبل الأتراك.
دوافع عديدة
في ظل رد الفعل الدولي المَضاد والمُحذر للتحركات والدور التركي في شرق المتوسط، يمكننا الوقوف على دوافع أنقرة من هذه التحركات فيما يلي:
1- تأمين مصادر الطاقة: تسعى أنقرة من خلال محاولات التنقيب عن الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط إلى ضمان وتأمين احتياجاتها من الطاقة والغاز الطبيعي، خاصة في ظل احتياجات السوق المحلي التركي لهذه الموارد. ومن ثم، تعد منطقة شرق المتوسط إحدى وجهاتها الأساسية التي تحتوي على ما يقرب من 340 تريليون قدم مكعب من الغاز وفقًا لتقديرات المسوح الجيولوجية الأمريكية، حيث أغرت الاكتشافات الأخيرة تركيا للبحث والتنقيب عن الثروات ومصادر الطاقة في هذه المنطقة؛ إلا أن أحلام تركيا المرتبطة بالطاقة في المنطقة اصطدمت برفض دولي لتحركاتها الأحادية والمُخالفة للقوانين والأعراف الدولية.
2- محاولة كسر العزلة: وجدت تركيا نفسها معزولة إقليميًّا ودوليًّا بسبب توجهاتها العدائية تجاه دول منطقة شرق المتوسط، وإصرارها على ممارسة الاستفزازات وانتهاك قواعد القانون الدولي، الأمر الذي انعكس في استبعاد أنقرة من منتدى غاز شرق المتوسط الذي أعلنت عنه القاهرة في 14 يناير 2019، حيث ضم البيان التأسيسي للمنتدى كلًّا من مصر والأردن وفلسطين وقبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا. كما شكل التحالف الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص الذي تبلور في نوفمبر 2014 كإطار للتعاون الثلاثي والتنسيق في عدد من الملفات وعلى كافة الأصعدة، مصدرًا لتهديد وعزل تركيا عن محيطها الإقليمي. ومن ثم تأتي هذه التحركات في إطار محاولة تركيا كسر وتجاوز العزلة المفروضة عليها من هذه الدول. كما تحاول تركيا أن تفرض واقعًا استباقيًّا قبل قيام أي من دول شرق المتوسط بالشروع في اتفاقية ترسيم حدود بحرية لا تضع تركيا في الحسبان، خاصة في ظل توقعات بشأن قيام مصر واليونان بالاتفاق على ترسيم الحدود البحرية فيما بينهما.
3- التغطية على المشكلات الداخلية: تهدف تركيا من تحركاتها الأخيرة في منطقة شرق المتوسط إلى التغطية على المشكلات الداخلية التي بات يواجهها “أردوغان” والحزب الحاكم، فضلًا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية وتدهور قيمة الليرة التركية. بمعنى آخر، تسعى تركيا من خلال تحركاتها في شرق المتوسط إلى إقناع الداخل التركي بأن مثل هذه الإجراءات يمكنها أن تساهم في استعادة الاقتصاد التركي مكانته. كما يعمل النظام التركي على محاولة تجاوز الخسائر السياسية لحزب العدالة والتنمية الذي تعرض لانتكاسة على إثر خسارته في الانتخابات البلدية، خاصة بعدما فقد الحزب نفوذه في أنقرة وإسطنبول، الأمر الذي اعتُبر بمثابة هزيمة لأردوغان نفسه.
***
ختامًا، يمكن القول إن التحركات التركية في شرق المتوسط -رغم طابعها العدائي- لن تؤثر على الحقوق القانونية لمصر والتي اكتسبتها بفعل الاتفاقيات الدولية، واتفاقيات ترسيم الحدود خاصة مع قبرص، والتي تحدد على إثرها الحقوق السيادية لمصر على منطقتها الاقتصادية الخالصة. وبالتالي، فإن تحركات أنقرة الحالية والمستقبلية لن تؤثر على حصة مصر بأي حال من الأحوال في الثروات البحرية في المنطقة، لأسباب عديدة يتعلق جوهرها بقوة الموقف القانوني لمصر، واستنادها إلى الاتفاقات وقواعد القانون الدولي المنظمة لاستغلال الموارد والثروات البحرية.
من ناحية أخرى، فإن هذه التحركات التركية ستعمق بالتأكيد من حالة التقارب بين مصر وباقي دول المنطقة، وعلى رأسها قبرص واليونان. كما قد تعجل من إجراءات ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان.