منذ خروج الرئيس السوداني “عمر البشير” من السلطة، جاءت استجابة الاتحاد الإفريقي لتطورات الأزمة السودانية بالغة السرعة والحدة. فبعد ساعات قليلة من صدور بيان الفريق الأول “عوض بن عوف” الذي أعلن فيه عزل الرئيس “عمر البشير”، في الحادي عشر من أبريل 2019؛ أصدر رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي (التشادي “موسى فقيه”) بيانًا أعرب فيه عن يقين الاتحاد بأن استيلاء الجيش على السلطة لم يكن ردًّا مناسبًا على التحديات التي تواجه السودان وطموحات شعبه.
واستمرارًا لنهج التصعيد، أصدر مجلس السلم والأمن الإفريقي بدوره بيانًا بشأن الأوضاع في السودان في الخامس عشر من أبريل تضمن أولى الإشارات لإمكانية تعرض السودان لعقوبات حال امتناع المجلس العسكري الانتقالي عن تسليم السلطة للمدنيين في غضون خمسة عشر يومًا، حيث أعلن أنه “إذا لم يسلم المجلس العسكري الذي عزل الرئيس عمر البشير السلطة للمدنيين ضمن المهلة المحددة، فسيعلق الاتحاد الإفريقي مشاركة السودان في كافة أنشطته إلى حين عودة النظام الدستوري”.
وقد جاءت هذه المواقف لتعكس نهجًا متشددًا في تطبيق مبدأ عدم الاعتراف بالانتقال غير الدستوري للسلطة. فمنذ وقت مبكر سعت منظمة الوحدة الإفريقية (قبل تحولها للاتحاد الإفريقي) للتوصل لمعالجة حاسمة لظاهرة الانتقال غير الدستوري للسلطة بأشكاله المتعددة. فقد نص الإعلان الصادر عن قمة المنظمة المنعقدة في العاصمة التوجولية لومي في عام 2000 على ضرورة تجنب التداول غير الدستوري للسلطة في إفريقيا، فارضًا عقوبات على الدول التي تشهد انتقالًا للسلطة عبر الانقلابات العسكرية، أو الاستيلاء على السلطة من جانب حركات تمرد مسلحة، أو الامتناع عن تسليم السلطة لحكومة منتخبة في انتخابات حرة ونزيهة. ومع مولد الاتحاد الإفريقي، نص قانونه التأسيسي على عدم السماح للحكومات التي تصل للسلطة بغير الطرق الدستورية بالمشاركة في أنشطة الاتحاد، وهو ما أكده البروتوكول المحدِّد لصلاحيات مجلس السلم والأمن الإفريقي الصادر عام 2004، والذي منح المجلس سلطة فرض عقوبات على أي دولة إفريقية تشهد انتقالًا غير دستوري للسلطة بموجب إعلان لومي.
الانخراط المباشر
نتيجة للمواقف المتشددة التي تبناها الاتحاد الإفريقي في الأيام الأولى للأزمة السودانية، أصبح السودان مهددًا بتعليق مشاركته في أنشطة الاتحاد الإفريقي بحلول نهاية أبريل الجاري، الأمر الذي قد تكون له آثار سلبية خطيرة تزيد من فرص تدهور الأوضاع في السودان، نتيجة ما لهذا القرار من آثار على إضعاف شرعية السلطة القائمة في السودان ممثلة في المجلس العسكري محليًّا ودوليًّا، ونتيجة لما تُضيفه من تعقيدات تعيق محاولات السودان لإنهاء كافة آثار العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليه على خلفية اتهامه بدعم الإرهاب.
وردًّا على بيان مجلس السلم والأمن الإفريقي، كثف المجلس العسكري الانتقالي اتصالاته بالاتحاد الإفريقي، قبل أن يعلن عضوا اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الفريق “جلال الدين الشيخ الطيب” والفريق “شمس الدين كباشي” في الثامن عشر من أبريل عن زيارة وشيكة لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي “موسى فقيه” للخرطوم. فبناء على طلب من مجلس السلم والأمن الإفريقي، توجّه رئيس مفوضية الاتحاد للعاصمة السودانية في العشرين من أبريل ليعلن من هناك استعداد المنظمة القارية للتعاون مع السودان خلال المرحلة الانتقالية، من أجل التوصل للتوافق المطلوب الذي يضمن فترة انتقالية آمنة، في ظل حكومة مدنية تُهيئ المناخ لانتخابات حرة ونزيهة. وخلال الزيارة، التقى “موسى فقيه” رئيسَ المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، وهو اللقاء الذي خرج منه رئيس المفوضية بتصريح يشير إلى وجود بعض الخلافات بين الشركاء السودانيين يحتاج حلها المزيد من الجهد. كما التقى “فقيه” الفريق أول “عمر زين العابدين” (رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري)، وهو اللقاء الذي أكد خلاله “فقيه” أن السودان دولة محورية في إفريقيا، وأبدى فيه تفهم الاتحاد الإفريقي للثورة الشعبية وللدور الأساسي الذي لعبته القوات المسلحة فيها، مؤكدًا أهمية بذل الجهود لتقريب وجهات النظر كون التوافق بين مختلف الأطراف السياسية السودانية بشأن المرحلة الانتقالية يُعد أمرًا أساسيًّا.
وتضمّنت الزيارة التي امتدت يومين عقد لقاء بين رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي وعدد من ممثلي الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، حيث التقى “موسى فقيه” ممثلين عن “تجمع المهنيين السودانيين”، وممثل الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، ووفد من الجبهة الوطنية للتغيير برئاسة “غازي صلاح الدين”. وقد أعرب الأخير عن موقفه السلبي من مهلة الخمسة عشر يومًا، معتبرًا أنه ليس من المفيد توقيع عقوبة على السودان في هذه الظروف. وفي وقت لاحق، التقى رئيسُ مفوضية الاتحاد الإفريقي الأمينَ العام لحزب المؤتمر الشعبي السوداني “علي الحاج” الذي اعتبر أن تدخل المجلس العسكري الانتقالي إنما جاء كعملية “إسعاف” للوضع القائم لتجنيب البلاد مخاطر الانزلاق نحو الفوضى.
قمة القاهرة التشاورية: الملامح الأساسية
في الثاني والعشرين من أبريل اختتم رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي زيارته للخرطوم قاصدًا القاهرة، حيث أُعلن في اليوم نفسه استضافة العاصمة المصرية قمتين مصغرتين تشاوريتين بشأن الأوضاع في السودان وليبيا. وقد عُقدت القمة التشاورية للشركاء الإقليميين في السودان في الثالث والعشرين من أبريل بمشاركة رؤساء كلٍّ من تشاد وجيبوتي وجمهورية الكونغو ورواندا والصومال وجنوب إفريقيا، بجانب مشاركة نائب رئيس الوزراء الإثيوبي، ومستشار رئيس جنوب السودان للشئون الأمنية، ووزراء خارجية أوغندا وكينيا، والسكرتير الدائم للخارجية النيجيرية.
وفي ضوء الإحاطة التي قدمها “موسى فقيه”، رئيس المفوضية، بشأن زيارته للسودان، وبأخذ الإجراءات المعلنة من قبل السلطات السودانية في الاعتبار؛ أقرت الدول المشارِكة بالحاجة لمنح المزيد من الوقت للسلطات السودانية والأطراف السودانية لتنفيذ تلك الإجراءات، على ألا تستغرق مدة مطولة، حيث أوصت القمة مجلس السلم والأمن الإفريقي بتمديد الجدول الزمني الممنوح للسلطة السودانية لمدة ثلاثة أشهر. وقد اتسمت قمة القاهرة بأربعة ملامح أساسية تمثلت في:
1- الشمول: حيث شمل الحضور دول الجوار الإقليمي للسودان، فضلًا عن رؤساء ترويكا إدارة الاتحاد الإفريقي التي تضم الرئيس المصري بصفته الرئيس الحالي للاتحاد في عام 2019، والرئيس الرواندي “بول كاجامي” بصفته الرئيس السابق للاتحاد، والرئيس الجنوب إفريقي “سيريل رامافوزا” الذي سيتسلم رئاسة الاتحاد في العام المقبل، وهي الآلية التي وُضعت لتضمن لجهود الاتحاد الاستدامة في ظل التغيير السنوي لرئيس المنظمة القارية. كذلك شمل هذا الحضور عددًا من المنظمات الإقليمية الفرعية ذات الأهمية، حيث يشغل الرئيس الكونغولي منصب رئيس المؤتمر الدولي للبحيرات العظمى، كما تتولى إثيوبيا الرئاسة الدورية لتجمع “إيجاد”.
2- التوازن: حيث عكس البيان الختامي قدرًا كبيرًا من استعادة الموقف الإفريقي تجاه السودان لتوازنه، وذلك من خلال تجاوز المنظور الضيق الذي ركز على الجوانب الإجرائية المتعلقة بآليات الحكم، بينما غفل آثار المستجدات الراهنة على بنية الدولة الوطنية. فقد أكد البيان تضامن جميع المشاركين مع السودان، وتطلعهم لتحقيق طموحات الشعب السوداني في إطلاق عملية شاملة للتحول الديمقراطي السلمي. لكنه أكد أيضًا مبادئ وغايات الاتحاد الإفريقي في تحقيق السلم والأمن والاستقرار، والالتزام بوحدة وسيادة وتماسك السودان وسلامة أراضيه.
3- الحياد: حيث جاء الموقف الأول لرئيس مفوضية الاتحاد على قدر كبير من الانحياز، إذ أعلن رفضه الصريح لتولي المجلس العسكري الانتقالي السلطة في السودان بعد ساعات من عزل “البشير”، وهو الموقف الذي من شأنه أن يزيد من الأوضاع تعقيدًا، وأن يفقد الاتحاد الإفريقي فرص التدخل لدعم الاستقرار بصفته وسيطًا غير محايد. ونتيجة لزيارة رئيس المفوضية للخرطوم، ونتيجة للتبادل الإيجابي للرؤى بين قادة الدول الإفريقية في القاهرة؛ عاد الاتحاد الإفريقي ليؤكد الحاجة العاجلة للحوار المشترك بين السلطات السودانية والقوى السياسية، معترفًا بضرورة إجراء حوار سياسي يشمل جميع الأطراف السودانية بما فيها المجموعات المسلحة، من أجل سرعة استعادة النظام الدستوري، وإرساء نظام سياسي ديمقراطي شامل، وترسيخ حكم القانون وحماية حقوق الإنسان.
4- الواقعية: فقد كان الموقف الأول لرئيس مفوضية الاتحاد يقتضي تسليم المجلس العسكري الانتقالي السلطة “فورًا” للمدنيين؛ إلا أن العديد من الاعتبارات الواقعية تحول دون ذلك. فعلى سبيل المثال، تبدو فرص إجراء انتخابات حرة ونزيهة في السودان بواقعه الحالي على قدر من الصعوبة، فضلًا عن إصرار قوى الحرية والتغيير على البدء في مرحلة انتقالية مطولة تمتد لأربع سنوات من أجل التخلص من آثار تغلغل المؤتمر الوطني في مؤسسات الدولة، ولتجنب الانتكاس للوضع القديم مرة أخرى. كذلك، يبدو خروج المؤسسة العسكرية من المشهد بصورة تامة في الوقت الراهن مصدرًا لعدم الاستقرار في ظل التحديات الأمنية الجسيمة التي تواجه السودان. على هذا، خرجت توصية القمة التشاورية بتمديد الجدول الزمني لثلاثة أشهر لتعكس تقييمًا أكثر واقعية للأوضاع على الأرض، وبما لا يصطدم بتوجهات الحركة الاحتجاجية.
الدور المصري الحاسم
يرتبط النجاح الذي حققته المبادرة المصرية بدعوة الأطراف المشارِكة في القمة التشاورية بشأن السودان بالدور الفعال للرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقي. فقد شهدت القارة الإفريقية محاولات مناظرة لم يُكتب لها النجاح جاء بعضها بدعوة من الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي، كان آخرها محاولة الرئيس الرواندي لاستصدار قرار إفريقي بشأن أزمة انتخابات الكونغو الديمقراطية في نهاية عام 2018. وعلى الرغم من تعقد الأزمة في السوادن مقارنة بالوضع في الكونغو الديمقراطية، نجحت قمة القاهرة التشاورية في تحقيق عدد من الأهداف المهمة رغم صعوبتها، تمثلت في بناء إجماع إفريقي بشأن مبادئ أساسية حاكمة لمواقف دول القارة من الأزمة السودانية، بجانب النجاح في تأجيل تعرض السودان لعقوبات من الاتحاد الإفريقي كانت ستزيد من صعوبة الأوضاع على الأرض.
ويرجع هذا النجاح الذي حققته قمة القاهرة إلى المبادئ التي تبنتها مصر منذ بداية الأزمة على النحو الذي انعكس في الكلمة الافتتاحية للقمة التي ألقاها الرئيس “عبدالفتاح السيسي” والتي تضمنت:
1- الاستجابة السريعة والفعالة لتطورات الأوضاع في السودان، من خلال عقد القمة في القاهرة فور انتهاء رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي من مهمته في الخرطوم بلا تأخر. ومما يُحسب للقمة المصرية أن سرعة عقدها لم تأتِ على حساب مستوى التمثيل فيها، وهو ما جاء نتيجة لمكانة مصر المحورية في القارة الإفريقية، والقبول الواسع الذي تتمتع به الجهود المصرية لإرساء الاستقرار والسلم في إفريقيا.
2- تأكيد الدعم المصري الكامل لخيارات الشعب السوداني وإرادته الحرة في صياغة مستقبل بلاده، ودعم مصر لما سيتوافق عليه في هذه المرحلة الفارقة من تاريخه، مع الأخذ في الاعتبار الجهود التي يبذلها المجلس العسكري الانتقالي والقوى السياسية والمدنية السودانية للتوصل إلى وفاق وطني. ويأتي هذا الموقف اتصالًا بما اتّبعته مصر من حياد كامل منذ بداية الأزمة في السودان بتجنب الانحياز لأي طرف من أطراف المعادلة السودانية.
3- تجديد الالتزام المصري بدعم السودان في كافة خطواته، سواء خلال الأزمة الحالية أو في المستقبل، في ظل ما يجمع البلدين من روابط وثيقة. حيث أكدت كلمة الرئيس المصري دعوة دول جوار السودان وكذلك المجتمع الدولي لتقديم كافة أشكال الدعم والمساعدة من أجل تعزيز الجهود الوطنية السودانية نحو مستقبل أفضل.
4- التطبيق الفعلي لمبدأ الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية، والذي يُعد شعارًا للرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقي باعتباره السبيل الوحيد للتعامل مع التحديات، وهو ما يأتي اعترافًا بحقيقة أن الدول الإفريقية أقدر من أي طرف آخر على فهم الطبيعة الخاصة لمشكلاتها، ومن ثم فهي الأقدر على إيجاد حلول لها. ويأتي تطبيق هذا المبدأ في السودان ليحمل أهمية خاصة بعد أن خسر السودان كثيرًا من جراء تدويل مشكلاته الداخلية وتحوله لساحة لنشاط العديد من القوى الدولية غير الإفريقية التي لم يكن تدخلها لصالح الشعب السوداني أو الدولة السودانية.
5- الحرص على بناء إجماع إفريقي من خلال صياغة موقف مشترك يقوم على الثوابت محل الإجماع بين دول القارة والابتعاد عن المواقف الخلافية، حيث التزمت قمة القاهرة بموقف ثابت مفاده ضرورة الجمع بين أهداف الانتقال السلمي للسلطة وإنجاز استحقاقات المرحلة الانتقالية، بالتوازي مع الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية ووحدتها وسلامة أراضيها.
مما سبق يمكن القول، إن الدور الذي قامت به مصر حيال الأزمة السودانية في رئاستها الدورية للاتحاد الإفريقي كان له أثر إيجابي مزدوج، حيث جنب السودان سلبيات تعليق المشاركة في أنشطة الاتحاد، وجنّب الاتحاد الإفريقي خسارة تأثيره في الأزمة السودانية بتحوله للمقاطعة بدلًا من المشاركة الفعالة. هذا النجاح الملموس للمبادرة المصرية يفتح الباب واسعًا أمام المزيد من الجهود المصرية الرامية لتحقيق الاستقرار في السودان بشقيه الأمني والسياسي، سواء عبر الأطر الإقليمية أو عبر مسار العلاقات الثنائية الذي يشهد بدوره جهودًا مصرية حثيثة.