مَثّل صعود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عنصرًا جاذبًا لاستقطاب كثير من المقاتلين الأجانب للانضمام إلى “دولة الخلافة” المزعومة في سوريا والعراق. وقد ساعدت عالمية الدعوة التي تبناها التنظيم في نجاحه في تجنيد النساء من مختلف الجنسيات، غير أنه مع الضغط العسكري الذي تعرض له التنظيم، وفقدانه عددًا من معاقله الرئيسية، برزت ظاهرة “العائدات من داعش” كأحد تداعيات الهزيمة “الجغرافية” للتنظيم.
وتمثل ظاهرة “العائدات من داعش” تحديًا كبيرًا خلال المرحلة الراهنة، لا سيما مع غياب معطيات دقيقة حول أعدادهن. فبعد إعلان الخلافة المزعومة في عام 2014، قَدّرت وزارة الخارجية الأمريكية أن حوالي 4550 امرأة أجنبية من مختلف بلدان العالم انضممن إلى “داعش”، وتتراوح أعمارهن بين 16-24 عامًا. كما أشار تقرير صادر عن “مجموعة صوفان”، في مارس 2016، إلى أن عدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق تراوح ما بين 27-31 ألفًا، ثلثهم من النساء، يتوزعون على حوالي 87 دولة. فيما نوهت مراكز بحثية أخرى إلى أن إجمالي عدد النساء الملتحقات بـ”داعش” في الفترة من عام 2013 وحتى عام 2018 بلغ ما يقرب من 4700 امرأة.
وتُشير هذه الأرقام إلى الأعداد المحتملة لانتشار “العائدات من داعش”، غير أنه يجب الأخذ في الاعتبار أنها أعداد تقديرية، بما يجعل منهن ظاهرة تشهد بعض التحولات. فمن هؤلاء النساء من تزوجن وأنجبن وكوّنّ “عائلات جهادية”، ومنهن من قُتلن، ومنهن من انتقلن إلى بلدان أخرى غير مواطنهنّ الأصلية. ومن ثم، فإن حالة اللا يقين حول الأعداد الفعلية للنساء اللاتي انضممن إلى التنظيم تزيد من تعقيد الظاهرة، وتثير تساؤلات مهمة حول أسباب لجوء التنظيم إلى تجنيد النساء، وكذا دوافعهن للانضمام، وأخيرًا مدى خطورتهن في المستقبل.
لماذا لجأ تنظيم “داعش” إلى تجنيد النساء؟!
أدرك تنظيم “داعش” الأهمية الرمزية والاستراتيجية للنساء، فعمد إلى استغلالهن الاستغلال الأمثل. وتنصرف الأهمية الرمزية للنساء في إعطاء الشرعية للتنظيم، وذلك لنجاحه في استقطاب أعداد كبيرة من النساء الأوروبيات والعربيات، ما يدعم فكرة العالمية والشمولية التي يروج لها. بينما تتجلى الأهمية الاستراتيجية للنساء في احتضان المرأة لأفكار التنظيم، ما يضمن الانتقال الأيديولوجي لأفكاره. وكذلك الضجة الإعلامية التي تصاحب العمليات الإرهابية التي تقوم بها المرأة، ما يُعزز صورة الجهادية التنظيمية. فضلًا عن خصوصية المرأة وتجنبها الكثير من نقاط التفتيش التي يتعرض لها الرجل.
وقد تنوعت مهام النساء داخل التنظيم، بدايةً من دعم الأزواج وتربية جيل جديد من المتطرفين، إلى مجال الدعاية والترويج لأيديولوجيا التنظيم وأفكاره المتطرفة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، بجانب جمع أموال التنظيم من خلال الإنترنت. وكان التطور الأبرز لنساء “داعش” تشكيل كتيبة “الخنساء” في عام 2014، وهي بمثابة شرطة نسائية، تركزت مهامها الأساسية في مراقبة السلوك العام للنساء، ومنع اختلاط الرجال مع النساء، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة الحدود كالعقاب والجلد والسجن. وتطور نشاط الكتيبة بعد ذلك للمشاركة في عمليات القتال والعمليات العسكرية وتدريب النساء على حمل السلاح.
ومع الضغط العسكري على التنظيم، وفقدانه أعدادًا كبيرة من مقاتليه، لجأ إلى الاعتماد على النساء في العمليات الانتحارية خلال معركة الموصل في العراق، ومعركة “الباغوز” في سوريا، مستلهمًا في ذلك خبرة “تنظيم الأرامل السوداء” في شمال القوقاز (وهو تنظيم يعتمد على الانتحاريات للقيام بعمليات انتقامية من السلطات الأمنية). ويعتبر توظيف النساء في العمليات الانتحارية تحولًا جوهريًّا في تكتيكات التنظيمات الإرهابية.
دوافع انضمام النساء إلى تنظيم “داعش”
هناك عددٌ من العوامل المختلفة التي دفعت النساء الأوروبيات والعربيات على حد سواء إلى الانضمام لتنظيم “داعش”، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- الدوافع العقائدية: يُعد هذا الدافع محركًا للنساء الأوروبيات والعربيات معًا، ويتمثل في الاقتناع بالفكر الداعشي المتطرف، والسعي إلى العيش في ظل دولة الخلافة المزعومة، والامتثال لفكرة الجهاد في سبيل الله من أجل الدفاع عن العقيدة وتطبيق شرع الله للفوز بالجنة، وذلك طبقًا لرؤية التنظيم حول الإسلام والشريعة الإسلامية.
2- الدوافع الاجتماعية: تختلف الدوافع الاجتماعية لانضمام النساء الأوروبيات للتنظيم عن دوافع مثيلاتهنّ من النساء العربيات. إذ يُمثل تهديد الهوية فضلًا عن حالة الاغتراب التي يعاني منها كثير من الأوروبيات المسلمات في المجتمعات الغربية دافعًا ومحركًا لانضمام الأوروبيات إلى تنظيم “داعش” ظنًّا منهن أن ذلك سوف يحقق لهن الاستقرار. كذلك فإن حالة التهميش التي تُعاني منها النساء العربيات في بعض المجتمعات الشرقية نتيجة لممارسة السلطة الأبوية عليهن تدفع بهنّ نحو الانضمام للتنظيم بغرض تأكيد قدرتهن على الفعل والتأثير.
3- الدوافع الشخصية: يأتي على رأس الدوافع الشخصية البحث عن المغامرة، والرغبة في اكتشاف تجربة فريدة من نوعها، وكذلك السعي للارتباط والاستقرار الأسري؛ إذ تعد فكرة الزواج محفزًا مهمًّا لانضمام النساء إلى التنظيم على خلفية التأثر بالآلة الدعائية له وفق نموذج “عرائس الجهاد” في بعض الحالات.
خطورة العائدات من “داعش”
تبرز خطورة ظاهرة العائدات في سياق ثلاثة محدِّدات؛ يتعلق أولها بمحورية العلاقة التي تربط المرأة بالمجتمع، ويتصل ثانيها بأدوار ومهام المرأة داخل تنظيم “داعش”، وينصرف ثالثها إلى الدوافع المحركة لانضمامهن إلى “داعش”. وفي ظل المحددات الثلاثة مجتمعة، يمكن الوقوف على المخاطر المحتملة لظاهرة العائدات في النقاط التالية:
1- نشر الفكر الداعشي: لا يزال الكثير من نساء “داعش” مستمرات في تبني الفكر الداعشي، وهذا ما عكسته مواقفهن في “مخيم الهول” الواقع في الشمال السوري، حيث أبدى بعضهن ممن خرجن من “الباغوز” تعاطفًا شديدًا مع تنظيم “داعش”، وهو ما يُشير إلى احتمال قيامهن حال عودتهن بنقل هذا الفكر المتطرف إلى أشخاص آخرين أو غرسه في أبنائهن، وبالتالي خلق جيل جهادي في المستقبل.
2- تنفيذ عمليات إرهابية: فقد تلقت النساء العائدات التدريب والتأهيل على المهام القتالية والعمليات العسكرية، ما يثير احتمال قيامهن بتنفيذ عمليات إرهابية. وهذه العمليات قد تأخذ ثلاثة أنماط؛ أولها: نمط “الذئاب المنفردة”، لا سيما مع سهولة الأدوات المستخدمة في هذا التكتيك كالطعن والدهس. ثانيها: نمط الإرهاب العائلي، وذلك مع قيام العائدات باستقطاب بعض أفراد أسرهن. ثالثها: نمط الإرهاب الانتحاري، خاصة أن تنظيم “داعش” عمد إلى تكثيف عملياته الانتحارية بواسطة النساء نتيجة تعرضه لهزائم متتالية.
3- تشكيل شبكات جهادية: نجح تنظيم “داعش” خلال الفترة التي سيطر فيها على سوريا والعراق في إيجاد نوع من الترابط بين نساء التنظيم نتيجة لما عاصرته النساء من نجاحات وتمدد لدولة الخلافة المزعومة، ما أوجد رصيدًا نفسيًّا مشتركًا بينهن، ومن ثمّ قد يستمر هذا الترابط والتواصل بعد عودتهن لدولهن أو لدولة ثالثة، على نحو قد يدفع التنظيم إلى توظيفهن ضمن شبكات جهادية.
***
خلاصة القول، تمثل ظاهرة “العائدات من داعش” تحديًا كبيرًا أمام الدول المرشحة لاستقبالهن، وفي إطار التعاطي مع تلك الظاهرة، يمكن التمييز بين نوعين من العائدات؛ الأول: النساء اللاتي نفرن من التنظيم ونبذن أفعاله الدموية وأفكاره التكفيرية الضالة. الثاني: النساء اللاتي ما زلن مقتنعات بأفكار التنظيم، ويحرصن على نشرها وتطبيقها. ومن ثم، لا بد من توفير الدعم المادي والمعنوي للنوع الأول، والاستماع إلى تجربتهن مع التنظيم، ما يساهم في تقديم صورة صحيحة عن واقع التطرف لفئات أخرى معرضة للاستقطاب. كذلك لا بد من وضع استراتيجية كاملة للتعامل مع النوع الثاني تهدف إلى فك ارتباطهن بالتنظيم، ونزع عقيدة التطرف، مع التأكيد على محاسبة النوعين عما بدا منهن من أفعالٍ مخالفة للقانون.