المتابع للمشهد السوداني عقب الإطاحة بـ”عمر البشير”، خاصة التطورات السياسية في الأيام الأخيرة، يكتشف أن قوى إعلان الحرية والتغيير، وهو التكتل الأكبر المعبر عن القوى المدنية السودانية، في طريقها لفقدان المكسب الأهم الذي حققته وهو الصياغة المنفردة -بالتعاون مع المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق “البرهان”- لشكل المرحلة الانتقالية في السودان. وحين أقول منفردة فإنني أقصد بها أن كل تيارات الحركة الإسلامية المحسوبة على نظام “البشير” ليست جزءًا من هذه التفاهمات والاتفاقيات بين المجلس الانتقالي وقوى الحرية والتغيير.
الأزمة الحقيقية التي تمر بها قوى إعلان الحرية والتغيير في السودان هي تجاهلها أن موازين القوى على الأرض ليست في صالحها على الإطلاق، فكل تيارات الإسلام السياسي في السودان وإن بدا أنها بعيدة عن المشهد وعما يحدث في اعتصام القيادة العامة بالخرطوم، إلا أنها تراقب الموقف. هذه التيارات هي جزء من عملية افتعال الأزمات والخلافات بين المجلس وقوى الحرية والتغيير، ولهذه التيارات أنصار كثر داخل ساحة الاعتصام يؤججون ويفتعلون الانقسامات، فضلًا عن امتلاكها ميليشيات مسلحة. كما أن لها عناصر داخل مؤسسات الدولة السودانية، فالبشير عبر ٣٠ عامًا من حكمه وتحالفه مع الإسلاميين مكّن هؤلاء من المؤسسات كلها بلا استثناء.
لذا، كان على قوى إعلان الحرية والتغيير أن تكون أكثر حكمة، وأن تتحلى بالذكاء السياسي، وألا تصل إلى مرحلة خلاف مع المجلس العسكري، وتحديدًا رئيسه الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، فهذا الرجل وإن كان جزءًا من المؤسسة العسكرية، إلا أنه ليس مؤدلجًا دينيًّا ولا سياسيًّا، كما أنه صادق في نواياه تجاه الثورة السودانية وقوى إعلان الحرية والتغيير، ويريد أن ينقل السلطة بشكل كامل للمدنيين، ويسلمها لمؤسسات منتخبة تعبر عن السودانيين بمختلف توجهاتهم، لبناء السودان الجديد الذي قامت الثورة من أجله، ولمحو آثار الحكم الإخواني الاستبدادي الشمولي الذي عانى منه السودانيون على مدى ٣٠ عامًا.
أزمات مفتعلة
لم يكن هناك خلاف جذري وعميق بين المجلس العسكري الانتقالي، وبين قوى إعلان الحرية والتغيير، فالوثيقة التي قدموها في 2 مايو الماضي حول شكل المرحلة الانتقالية، وتحديدًا نسب التمثيل في المجلس السيادي، وطبيعة الحكومة، ونسبة التمثيل في المجلس التشريعي، تم التوافق على ٩٠٪ منها، ووصلوا لحلول وسط بشأنها. وفِي مساء الثلاثاء ١٤ مايو، أعلن المجلس العسكري وقوى التغيير في مؤتمر صحفي وصولهم لاتفاق، كانت أهم بنوده أن تكون المرحلة الانتقالية ثلاث سنوات، يتم فيها خلال الشهور الستة الأولى منها الوصول لاتفاقيات سلام للصراعات الداخلية المسلحة في بعض الولايات السودانية ككردفان ودارفور. كما اتفقوا على أن يكون تشكيل المجلس التشريعي من ٣٠٠ نائب، منهم ٦٧٪ من قوى الحرية والتغيير، على أن تكون النسبة الأخرى الممثلة في المجلس من القوى السياسية السودانية التي لم توقع على بيان إعلان الحرية والتغيير. وتعهدت الأخيرة بوقف التصريحات العدائية ضد المجلس العسكري وقياداته، بجانب التعهد بعدم توسيع الاعتصام، واقتصاره فقط على ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة، مع ضرورة إزالة كافة الحواجز والمتاريس في الشوارع الجانبية للاعتصام، وعدم غلق الكباري وخط السكة الحديد. كما اتفق الجانبان على تشكيل لجنة مشتركة للتصدي لأي جهة تستهدف المعتصمين، خاصة أن اليوم السابق على هذا الاتفاق شهد إطلاق نار على المعتصمين وقوات الجيش، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى من الجيش والمعتصمين. وقد تبرأ من هذا الحادث المجلس العسكري الذي أعلن أن هناك طرفًا ثالثًا محسوبًا على النظام السابق يقف وراء الحادث، وهو أمر منطقي ومفهوم، خاصة إذا علمنا أن التيارات الإسلامية في السودان لديها كتائب ظل مسلحة، كان قد كشف عنها من قبل “علي عثمان طه”، وهو قيادي إخواني كان يشغل منصب نائب “البشير”.
لقد اعتُبر الاتفاق بمثابة مرحلة جديدة في السودان، وكان من المفترض أن يتم خلال ٢٤ ساعة الإعلان عنه بشكل كامل، لكن حدثت تطورات حالت دون ذلك؛ أولها أن قوى الحرية والتغيير -أو بعض الفصائل داخل قوى الحرية والتغيير- لم تلتزم ببعض بنود الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بحدود الاعتصام الذي امتد لشارع النيل ولجامعة الخرطوم. كما أن الخطاب السياسي على منصة الاعتصام ومن قيادات قوى الحرية والتغيير على شاشة “الجزيرة” وغيرها كان خطابًا عدائيًّا ضد المجلس. رافق ذلك إطلاق نار مرة أخرى يوم الأربعاء 15 مايو على المعتصمين من جانب مجموعات مجهولة نتج عنها عدد من الإصابات. كل هذا دفع رئيس المجلس الانتقالي الفريق “البرهان” إلى بث كلمة متلفزة وبنبرات حادة أعلن فيها وقف التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير لمدة ٧٢ ساعة حتى يتهيأ المناخ الملائم لإكمال الاتفاق، والمطالبة بإزالة المتاريس والحواجز جميعها خارج منطقة الاعتصام، وفتح خط السكة الحديد، وهو ما بدأ تنفيذه بالفعل بعدها. ولَم تجد قوى إعلان الحرية والتغيير سوى الالتزام به مع التنديد بتجميد التفاوض.
متغير جديد
شهد السودان يوم الجمعة 17 مايو متغيرًا جديدًا على الأرض، تمثّل في خروج تظاهرات من السلفيين، دعا إليها ما يسمى “تيار نصرة الشريعة ودولة القانون” الذي أسسه “عبدالحي يوسف” أحد زعماء التيار الأصولي المتطرف هناك. وقد أعلن هؤلاء رفضهم للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وإصدار بيان قبل هذه التظاهرات بيوم واحد، أكدوا فيه أن تنحية الشريعة الإسلامية عن إدارة الدولة والحياة في السودان لا يمكن قبوله. وكان “عبدالحي يوسف” من أشد المدافعين عن نظام “البشير”، وكان تياره جزءًا من الحالة الإسلامية المتحالفة مع النظام. كما كان مدافعًا عن تنظيم “القاعدة” ومؤسسه “أسامة بن لادن” الذي وصفه بولي الأمر. وتشير بعض التقارير إلى أن “يوسف” دائم السفر إلى ليبيا لتعبئة التنظيمات الإرهابية هناك والتي تقاتل الجيش الوطني الليبي.
وعليه، نحن أمام متغير جديد على الأرض، هو خروج تيار تابع لـ”الحركة الإسلامية”، في أول تظاهرة بعد سقوط “البشير”، هدفها عرقلة أي اتفاقات بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير. وتحركاتهم هذه ليست بعيدة عن تحركات باقي فصائل الحركة الإسلامية، التي تسعى للحفاظ على مكاسبها باستمرار، والإبقاء على تحالفات النظام القديم كما هي دون تغيير. كما أن لديهم من الأدوات ما يساعدهم على تحقيق ذلك.
خريطة الإسلاميين
المتغير المهم السابق يتطلب الوقوف على خريطة الإسلاميين في السودان. ودون الدخول في جذور نشأة الحركة الإسلامية “الإخوان” في السودان في خمسينيات القرن الماضي، يُعد عام 1989 عامًا مفصليًّا في تاريخ الحركة الإسلامية في السودان، وهو العام الذي شهدت فيه السودان انقلابا عسكريًّا قاده “عمر البشير” على حكومة “الصادق المهدي” زعيم حزب الأمة، بدعم من “الجبهة الإسلامية القومية” التي كان يترأسها الإخواني “حسن الترابي”، و”البشير” نفسه كان عضوًا في هذه الجبهة.
وعقب نجاح الانقلاب، بدأت الانقسامات داخل الحركة الإسلامية المتحالفة مع “البشير”، فأسس “البشير” في 1994 “حزب المؤتمر الوطني” كمسمى بديل للجبهة الإسلامية، وجعله إطارًا جامعًا لكل التيارات الإسلامية. أما “الترابي” فقد انشق عن حزب المؤتمر الوطني وأسس “حزب المؤتمر الشعبي” في عام 1999. وانشق أيضًا عن المؤتمر الوطني القيادي الإخواني “الطيب مصطفى” وهو “خال” عمر البشير، حيث أسس حزبًا إسلاميًّا جديدًا أطلق عليه “حزب منبر السلام العادل”. ثم حدث انشقاق آخر في أكتوبر ٢٠١٣ عن المؤتمر الوطني بخروج القيادي الإخواني “غازي صلاح الدين” وتأسيسه “حزب الإصلاح الآن”. أما المرجعية الدينية التي كان يستند إليها حزب المؤتمر الوطني فهي “الحركة الإسلامية السودانية” وهي المرادف لتنظيم الإخوان في المنهج والهيكل الإداري مع اختلاف الاسم فقط. وجميع أعضاء الحزب الحاكم في السودان وقت “البشير” كان يشترط عضويتهم في الحركة الإسلامية.
بهذا المعنى، هناك خمسة تيارات رئيسية تمثل الإسلاميين في السودان بخلاف التيار السلفي، هي: حزب المؤتمر الوطني، وحزب المؤتمر الشعبي، وحزب منبر السلام العادل، وحزب الإصلاح الآن، و”الحركة الإسلامية” التي تمثل المرجعية لكل هذه التيارات. وعقب سقوط نظام “البشير” وإزاحته من السلطة، تم تجميد حزب المؤتمر الوطني ومصادرة ممتلكاته ومقراته، لكن يظل هناك ثلاثة أحزاب إخوانية بجانب التنظيم الأم لم يتم حظرها، ويستجمعون حاليًّا أنفسهم في محاولة للعودة للحكم مرة أخرى، وهذا ما لا تستوعبه قوى الحرية والتغيير.
التيارات المدنية
قوى “إعلان الحرية والتغيير في السودان” هو الائتلاف الممثل لكل التيارات المدنية في السودان، سواء كانت ليبرالية أو يسارية أو قومية، وهو الذي قاد الثورة ضد نظام “عمر البشير”، وهو المنوط به حاليًّا الوصول مع المجلس العسكري لاتفاق ينقل السودان إلى دولة مدنية حديثة.
وتتشكل قوى الحرية والتغيير من ٤ تحالفات سياسية رئيسية. التحالف الأول هو “تجمع المهنيين السودانيين”، الذي تم تأسيسه في أكتوبر ٢٠١٦ ويضم “لجنة أطباء السودان المركزية”، و”شبكة الصحفيين السودانيين”، و”تحالف المحامين الديمقراطيين”. والتحالف الثاني هو “قوى نداء السودان”، وتشكل في ديسمبر 2014 من قوى سياسية معارضة مدنية ومسلحة مثل “حزب الأمة” القومي بزعامة “الصادق المهدي”، و”الجبهة الثورية المسلحة” المكونة من “حركة تحرير السودان- فصيل مني أركو مناوي”، و”حركة تحرير السودان- فصيل عبدالواحد نور”، و”حركة العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال”.
والتحالف الثالث هو “تحالف قوى الإجماع الوطني” الذي يضم مجموعة من القوى المدنية المعارضة خاصة اليسارية، كالحزب الشيوعي السوداني، والمؤتمر السوداني المعارض، وحزبي البعث والناصريين، ومبادرة المجتمع المدني، بجانب العشرات من منظمات المجتمع المدني.
والتحالف الرابع هو “التجمع الاتحادي المعارض”، الذي تشكّل في يناير ٢٠١٨، ويضم “الحزب الوطني الاتحادي الموحد”، و”الحزب الاتحادي الديمقراطي- العهد الثاني”، و”الحزب الوطني الاتحادي”، و”الحزب الاتحادي الموحد”، و”حزب الحركة الاتحادية”، و”حزب الاتحاديين الأحرار”، و”حزب التيار الحر”.
ومن خلال متابعة خطاب قوى الحرية والتغيير، سواء من خلال بياناتهم أو تصريحات ممثليهم على شاشات التليفزيون العربية بكافة توجهاتها، أو من خلال مواقفهم المرتبكة مع المجلس العسكري الانتقالي؛ نلاحظ أن هذه القوى منقسمة على نفسها. وهذا الانقسام والاختلاف في الرؤى لم يصل إلى مستوى التصدع في بنية التنظيم، لكن يظل هناك تياران أو جبهتان داخلها: جبهة تتبنى خطابًا راديكاليًّا متشددًا سياسيًّا ضد المجلس الانتقالي، وترفع سقف المطالب لدرجة يستحيل التجاوب معها. كما تمارس هذه الجبهة خطابًا إعلاميًّا معاديًا للمجلس العسكري. وهذه الجبهة يمثلها بعض الأحزاب الشيوعية والناصرية داخل قوى الحرية والتغيير ومعهم “بعض” المحسوبين على تجمع المهنيين. أما الجبهة الأخرى فهي جبهة معتدلة لديها درجة من الحنكة السياسية، وترى ضرورة عدم خسارة المجلس العسكري، وعدم التصعيد معه، وعدم تقديم مطالب تعجيزية يصعب تحقيقها. وهذا التيار يمثله “قوى نداء السودان” الذي ضمنه حزب الأمة السوداني برئاسة “صادق المهدي”، كما يمثله أيضًا بعض الأصوات داخل تجمع المهنيين.
ماذا بعد؟
السؤال الذي يشغل بال الجميع حاليًّا خارج السودان، هو: إلى أين يتجه المشهد هناك؟ والمعنيون بالإجابة على هذا السؤال في اعتقادي “قوى إعلان الحرية والتغيير”، فهم لديهم فرصة تاريخية قد لا تعوض، وسيندمون عليها إذا ضاعت منهم، فمستقبل السودان والسودانيين وحلمهم بدولة مدنية جديدة عصرية متوقف على تغيير ديناميكية تعاملهم مع المجلس الانتقالي. ويجب أن ينصب مجهود قوى الثورة في الدفع باتجاه الوصول لاتفاق، وعدم التصعيد والانجرار خلف أصوات راديكالية. ووفقًا للاتفاق الأخير مع المجلس العسكري، ستتولى قوى الحرية والتغيير تشكيل الحكومة، وستكون لها النسبة الأكبر في البرلمان الانتقالي، وسيكون لها ممثلون في المجلس السيادي، ولا أرى مبررًا لحالة التشدد من بعض الأصوات داخل هذه القوى التي تطالب بتغليب نسبة المدنيين على العسكريين في المجلس السيادي، فهذا لن يحدث ولن يقبله المجلس العسكري، وإن قبله -وهذا مستبعد- فأتوقع انقلابًا ناعمًا.
أمامهم فرصة لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات يقودها الفريق “البرهان”، يعملون فيها معه على إعادة بناء مؤسسات الدولة السودانية وتطهيرها من “كيزان” الحركة الإسلامية والوصول بالسودان لبر الأمان.