شهد أواخر عام 2017 سلسلة من التطورات المهمة على صعيد جهود دول منطقة الشرق الأوسط لاتخاذ خطوات جادة لتنفيذ برامجها النووية السلمية. وهناك عاملان رئيسيان وراء الاتجاه العالمي نحو التوسع في استخدام الطاقة النووية السلمية، ودمجها في استراتيجية الطاقة. العامل الأول، أن الطاقة النووية ما زالت حتى الآن هي أرخص مصادر توليد الطاقة الكهربائية وأكثرها استدامة، ذلك أن سعر الكيلو وات/ ساعة للطاقة النووية يبلغ في المتوسط 3.2 سنتات، في حين أن أسعار الكهرباء التي يتم إنتاجها عن طريق البترول والغاز تتراوح بين 11.2-13 سنتًا لكل كيلو وات/ ساعة. أضف إلى ذلك أن العمر الافتراضي للمحطات النووية يزيد عن ضعف العمر الافتراضي للمحطات التقليدية، حيث يتراوح هذا العمر بين 60-80 سنة. العامل الثاني، يتعلق بتزايد الاتجاه لدى الدول التي اعتمدت لعقود عديدة على البترول والغاز الطبيعي في توليد الكهرباء إلى تنويع مصادر الطاقة من خلال إضافة الطاقة النووية ضمن معادلة مزيج الطاقة بها.
الحلم النووي في مصر.. تطور تاريخي
تُعد مصر من أوائل الدول النامية التي أدركت أهمية الطاقة النووية واستخدماتها السلمية منذ خمسينيات القرن العشرين؛ ففي عام 1956 قامت مصر بتوقيع أول اتفاق دولي للتعاون النووي مع الاتحاد السوفيتي، ثم انضمت مصر كعضو مؤسس للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة بفيينا عام 1957. وفي العام نفسه تم إنشاء هيئة الطاقة الذرية.
وقد مرت مصر بأربع مراحل أساسية في بناء برنامجها النووي لتوليد الطاقة:
المرحلة الأولى
بدأت في عام 1963، وتم فيها الانتهاء من إقامة “مركز الشرق الأوسط الإقليمي للنظائر المشعة للدول العربية” بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكان مقره القاهرة. وفي العام نفسه، تم التعاقد مع بيت خبرة بريطاني لعمل دراسات حول اختيار موقع المفاعل. وبالفعل تم اختيار منطقة “سيدي كرير”، كموقع مقترح، لبناء مفاعل بطاقة 150 ميجاوات، لتكون أول محطة في العالم ذات استخدام مزدوج تعمل لتوليد الكهرباء وتحلية مياه البحر بطاقة 20 ألف متر مكعب في اليوم. وتقدمت الشركات والهيئات العالمية بعروضها في أوائل عام 1965، وتم اختيار الشركة المنفذة وبدأ السير في تنفيذ المشروع، لكن المشروع توقف.
المرحلة الثانية
أعادت مصر التفكير مرة ثانية في إحياء برنامجها النووي، وذلك بعد ارتفاع أسعار البترول عالميًّا بعد حرب 1973، حيث أصبح البديل النووي لتوليد الكهرباء هو الأكثر ملاءمة من حيث التكلفة. ففي عام 1974 أعلن الرئيس الأمريكي “نيكسون” أثناء زيارته لمصر موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على تزويد مصر بمحطات نووية. وفي عام 1975، تم إصدار بيان مصري-أمريكي مشترك حول التعاون النووي، بموجبه كان بإمكان مصر شراء مفاعلات للطاقة النووية بقدرة إجماليه 1300 ميجا وات.
وكان من المخطط استئناف بناء المحطة بموقع سيدي كرير السابق اختياره في عام 1966، لكن في عام 1978 أصدرت الولايات المتحدة قانونًا بمنع الانتشار النووي، ووضعت شروطًا جديدة لتصدير التكنولوجيا والمواد النووية إلى دول أخرى. واشترطت الولايات المتحدة على مصر أن تصدق على هذا القانون والقبول بإخضاع أنشطتها النووية لرقابتها، ورفضت مصر هذا الشرط، واعتبرته تدخلًا في شئونها، وبذلك توقف المشروع مرة أخرى.
المرحلة الثالثة
أدى النمو المتسارع للطلب على الطاقة الكهربائية إلى تجدد التفكير في الطاقة النووية كبديل لسد تلك الاحتياجات. فقامت مصر في هذا الإطار بالتصديق على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في عام 1981 لتتمكن من إنشاء 8 محطات نووية قدرة كل منها 1000 ميجاوات، بحيث تبدأ بتنفيذ محطتين في منطقة الضبعة. وتم توقيع عدة اتفاقيات للتعاون في مجالات الاستخدامات السلمية للطاقة النووية مع كل من فرنسا، والولايات المتحدة، وألمانيا الغربية، وإنجلترا، والسويد. كما وقعت مصر أيضًا مذكرات تفاهم مع الصين، والبرازيل، والأرجنتين. وقررت الحكومة المصرية تخصيص جزء من عائدات النفط لتغطية إنشاء أول محطة نووية (محطة الضبعة بالساحل الشمالي).
وفي عام 1982، وقّعت مصر اتفاقية للتعاون النووي مع كندا، وأخرى لنقل التكنولوجيا النووية مع أستراليا. وفي عام 1983 طرحت مصر مواصفات مناقصة لإنشاء محطة نووية لتوليد الكهرباء قدرتها 900 ميجاوات. ثم عملت مصر على تعديل اتفاقيتها مع وزارة الطاقة الأمريكية لرفع حصة شراء اليورانيوم اللازم لتشغيل المحطات النووية المصرية من 600 ميجاوات التي كانت مقدرة لمحطة سيدي كرير إلى 4000 ميجاوات، بما يغطي احتياج 4 محطات قدرة كل منها 1000 ميجاوات. ولكن جاءت كارثة مفاعل تشرنوبل في أبريل 1986، لتعمق الشكوك حول درجة أمان المحطات النووية، فتم إلغاء المشروع مرة أخرى.
ثم أعلنت مصر في عام 2002 عن إنشاء محطة لتوليد الطاقة النووية السلمية خلال 8 أعوام بالتعاون مع كوريا الجنوبية والصين ولكن المشروع لم يكتمل.
وفي عام 2007، تم اختيار موقع الضبعة لإنشاء أول محطة كهرباء تعمل بالطاقة النووية في مصر، لكن الأمر لم ينفذ على أرض الواقع، وتكرر الأمر أيضًا عام 2012.
المرحلة الرابعة
رغم المعوقات العديدة التي واجهت تنفيذ هذا الحلم خلال العقود الماضية، كان هناك إصرار من جانب القيادة السياسية في مصر على تنفيذه. ففي عام 2013، تم الإعلان عن تدشين مشروع إنشاء محطات نووية لإنتاج الكهرباء، حيث تم اختيار منطقة الضبعة بمحافظة مرسى مطروح بمحاذاة ساحل البحر المتوسط، لإنشاء المشروع على مساحة 45 كم2. ويعد موقع الضبعة هو الموقع الأنسب لإقامة المحطة لعوامل عديدة، منها توافر مياه كافية للتبريد وملاءمته من النواحي الجيولوجية والطبوغرافية وغيرها من المقومات الفنية والبيئية اللازمة لتنفيذ المشروع.
وتم توقيع عقد إنشاء المحطة في عام 2015 وذلك بقرض روسي قيمته 25 مليار دولار يتم سداده على 22 عامًا بعد الانتهاء من الاستلام الابتدائي للوحدات النووية. ويتضمن المشروع إنشاء 4 مفاعلات نووية بقدرة إجمالية قدرها 4800 ميجاوات، من طراز الجيل الثالث المُطور لتوليد الطاقة النووية بطاقة 1200 ميجاوات لكل مفاعل. وتم التوقيع على البدء في تفعيل وتنفيذ عقود المشروع في عام 2017، ومن المتوقع الانتهاء من الوحدة الأولى والاستلام الابتدائي والتشغيل التجاري بحلول عام 2026، والانتهاء من الوحدات الثلاث الأخرى بحلول عام 2028. وتتراوح نسبة المساهمة المحلية في الوحدتين الأولى والثانية بين 20% – 25%، وتزداد بصورة تدريجية في الوحدات التالية لتصل إلى حوالي 35% في الوحدة الرابعة.
وكشف الدكتور “أمجد الوكيل” رئيس هيئة الطاقة النووية أن تنفيذ مشروع محطة الضبعة يمر بثلاث مراحل رئيسية هي:
– المرحلة التحضيرية لما قبل الإنشاء ومدتها عامان ونصف.
– مرحلة الإنشاء ومدتها خمسة أعوام ونصف تقريبًا.
– مرحلة الاختبارات لما قبل التشغيل ومدتها عام تقريبًا.
وأكد أن المشروع حاليًّا في المرحلة التحضيرية لما قبل الإنشاء، والتي تشتمل على الأعمال والأنشطة الخاصة بالتصميم واستصدار الأذون والتراخيص، مثل: إذن قبول الموقع، وإذن الإنشاء، وكذا استكمال مرافق البنية التحتية، وإعداد التجهيزات اللازمة للبدء في إنشاء المحطة، من خلال عقد الاجتماعات الفنية بين فريقي المشروع من الجانبين المصري والروسي وتبادل الوثائق الفنية، وتنفيذ التزامات طرفي التعاقد وفق الجدول الزمني.
والجدير بالذكر أن مشروع الضبعة النووي حصل على جائزة “روس آتوم”، كأحد أفضل ثلاثة مشروعات نووية حول العالم، وذلك ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة لأكبر مؤتمر ومعرض نووي في العالم “روساتوم إكسبو ٢٠١٩” بمدينة سوتشي الروسية أبريل 2019.
كما أن محطة الضبعة حصلت على إذن قبول الموقع في 10 مارس 2019 من هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، ويعتبر إصدار هذا الإذن إقرارًا بأن موقع الضبعة وخصائصه تتوافق مع المتطلبات المصرية الوطنية وأيضًا متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمواقع محطات القوى النووية، وهو ما سينعكس على ضمان التشغيل الآمن والموثوق في المستقبل للمنشآت النووية. كما يشار إلى أن إذن قبول الموقع هو شرط الحصول على وثيقة الترخيص التالية «إذن الإنشاء» وهو المرحلة التالية التي تقوم هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء حاليًا بالتعاون مع المقاول الروسي «أتو مستروي إكسبورت» بالوفاء بمتطلباتها.
الجدوى الاقتصادية للمشروع
بالإضافة إلى المزايا العامة للاعتماد على الطاقة النووية في توليد الطاقة، هناك مزايا عديدة لمشروع محطة الضبعة النووية في مصر. يتعلق أول هذه المزايا بطبيعة المحطة ذاتها، والتي ستلعب دورًا مهمًّا في توليد الطاقة الكهربائية وتوطين التكنولوجيا، وتطوير التصنيع المحلي وتعزيز البحث العلمي، بالإضافة إلى تحلية مياه البحر، كونها تنتمي إلى الجيل الثالث VVER-1200/V-529 من المفاعلات النووية. كما يتميز هذا الجيل بأنه لا يُصدر أي انبعاثات للغازات الملوثة أو غازات الاحتباس الحراري. فضلًا عن توفر أعلى معدلات الأمان العالمية المستخدمة في محطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية.
من ناحية أخرى، يوفر المشروع حوالي 10 آلاف فرصة عمل خلال فترة الإنشاء، وما لا يقل عن 4 آلاف فرصة عمل دائمة. ومن المتوقع أن يؤدي تشغيل المشروع إلى رواج اقتصادي كبير بمنطقة الضبعة ومحافظة مطروح بكاملها. ويؤدي هذا المشروع دورًا جوهريًّا في تنويع مزيج الطاقة في مصر، وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، ويضع مصر على طريق التقدم العلمي والتكنولوجي.
ووفقًا للاتفاق الموقّع بين مصر وروسيا، تبلغ قيمة القرض المقدم لتنفيذ المشروع 25 مليار دولار (بنسبة 85% من تكلفة المشروع)، بفائدة قدرها 3% سنويًّا، يتم سداده على مدى 22 سنة بواقع قسطين لكل عام، حيث يبدأ القسط الأول بعد 6 سنوات من تشغيل المفاعل الأول للمحطة.
وأخيرًا، يمكن الإشارة إلى الدور الذي سيلعبه المشروع في بناء القدرات وتأهيل الكوادر المصرية في مجال بناء وإدارة وتشغيل محطات الطاقة النووية السلمية. ففي هذا الإطار، تم إنشاء مدرسة فنية متخصصة في تدريس العلوم الفنية والتقنية وتصميم المفاعلات النووية السلمية، حيث بدأت الدراسة فيها بالفعل، وهي أول مدرسة للتطبيقات النووية. وسيقتصر دور الجانب الروسي خلال السنوات الأولى للتشغيل بعد التسليم النهائي للمحطة على تقديم خدمات الدعم الفني للتشغيل والصيانة فقط وتوفير قطع الغيار، حيث يقل الطلب على هذه الخدمات تدريجيًّا مع اكتساب الخبرات وبناء الكوادر في هذا الصدد.
