مع تصاعد حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران التي بدأت بإعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة فرض العقوبات، مرورًا بالإعلان عن اعتبار الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، فضلًا عن قرار وقف الإعفاءات الخاصة بشراء النفط الإيراني التي كانت ممنوحة لثماني دول، وأخيرًا نشر قطع بحرية استراتيجية بينها حاملة الطائرات الأمريكية “إبراهام لينكولن” وقوة من القاذفات في وضع الاستعداد؛ اتجهت كل الأنظار إلى روسيا باعتبارها طرفًا مهمًّا في المعادلة بين إيران والولايات المتحدة. لذلك برز سؤال رئيسي مفاده: هل ستناوئ روسيا تحركات الولايات المتحدة ضد إيران؟ أم ستستجيب لها؟
موقف روسي مركب
اتسمت مواقف روسيا في أغلبها بالميل تجاه إيران في مواجهة الولايات المتحدة؛ ففي أعقاب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، أعلنت الخارجية الروسية “أن هذا الإجراء انتهاك صارخ للقانون الدولي والاتفاقات الدولية، وعمل يقوض سمعة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأن قرار رئيس الولايات المتحدة يهدد الأمن الدولي”. كما رفضت روسيا قرار وقف الإعفاءات الخاصة بشراء النفط الإيراني التي كانت ممنوحة لثماني دول، حيث أوضحت في بيان صدر في 24 أبريل 2019، أن واشنطن تسعى بقرارها إلى حرمان إيران من عائدات التصدير وتقويض اقتصادها. وأضافت أن سياسة إيران المستقلة لم تُرضِ الولايات المتحدة لأنها تمنع واشنطن من السيطرة على الشرق الأوسط المهم استراتيجيًّا. وفي المقابل، وردًّا على إعلان إيران تعليق جزء من التزاماتها ضمن الاتفاق النووي، في إطار مهلة مدتها 60 يومًا للأطراف الأوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) للتفاوض حول تنفيذ الاتفاق في المرحلة الحالية ومصيره مستقبلًا، فقد شدد الرئيس الإيراني “حسن روحاني” على أنه في حال فشلت المفاوضات فستتخذ بلاده خطوات إضافية للتخلّي عن المزيد من التزاماتها في إطار الاتفاق النووي. وأكد الرئيس “بوتين” ضرورة الالتزام بالاتفاق النووي، موضحًا أنه في حال اتخذت إيران خطوات للرد على الانسحاب الأمريكي، فسينسى الجميع أن الولايات المتحدة كانت هي من بادر بهدم الاتفاق، وسيتم إلقاء اللوم على إيران حتى يتم حشد الرأي العام العالمي في هذا الاتجاه. كما شدد على أن روسيا ليس بإمكانها لعب دور “فرقة إنقاذ” بشكل دائم على الساحة العالمية. مضيفًا أن الأمر لا يعتمد على روسيا فقط، بل يعتمد على جميع الشركاء، جميع اللاعبين، بما فيهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإيران.
سيناريوهات محتملة
يرتبط مستقبل موقف روسيا من حالة التوتر والتصعيد المتسارعة بين الولايات المتحدة وإيران، بطبيعة الصبغة التي أضحت تصبغ العلاقات بين روسيا وإيران. بمعنى آخر، لا يمكن فصل تنامي حالة الخلاف بين الطرفين تجاه بعض الأمور وعلى رأسها الأزمة السورية (التي تُعتبر بحق الكاشف الأساسي عن حجم التباين الواسع بينهما) عن موقف روسيا إزاء حالة التوتر المحموم بين الولايات المتحدة وإيران، والذي يرتبط بثلاثة سيناريوهات رئيسية.
السيناريو الأول- استمرار الدعم الروسي لإيران
يستند هذا السيناريو إلى السنوات الطويلة من التقارب الروسي الإيراني، والتي عمدت فيها روسيا إلى الدفاع عن إيران، والتنسيق معها. ومن ثم، يقوم هذا السيناريو على فكرة أساسية مفادها أن إيران حليف مهم لموسكو يصعب التخلي عنه، أو سيكون ثمن هذا التخلي باهظًا. لذا، فقد تعمد روسيا إلى دعم إيران في مواجهة التصعيد الأمريكي بطريقة قد تدفع إيران إلى قبول الرؤية الروسية فيما يتعلق بالأزمة السورية. فضلًا عن كون إيران معاونًا حقيقيًّا فيما يتعلق بمواجهة جماعات الإرهاب والتطرف السنية، التي لا تُعتبر تهديدًا فقط للتواجد الروسي في سوريا، وإنما تهديدًا لروسيا في عُقر دارها ومجالها الجيوستراتيجي.
وعلى جانب آخر، فإن التقارب الذي تنبأ به عدد من المحللين بين “ترامب” و”بوتين” لم ينعكس في تغير حقيقي في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، والشاهد على ذلك انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، وكذا الاستمرار في سياسة فرض العقوبات على روسيا. ويرتبط بذلك أيضًا عدم القدرة على التنبؤ بسياسة “ترامب”، بمعنى أنه قد يعلن بين عشية وضُحاها عن فتح صفحة جديدة مع إيران، أو دعوتها لطاولة المباحثات، الأمر الذي قد يتسبب في تقارب أمريكي-إيراني على حساب العلاقات مع روسيا التي ستكون في حالة تخليها عن إيران حليفًا غير موثوق فيه. أما فيما يتعلق بدول الخليج، فعلى الرغم من حالة التقارب التي بدأت تطفو خلال السنوات الآخيرة؛ إلا أن العلاقات لم تشهد طفرة حقيقية، فلا تزال البوصلة الخليجية موجهة نحو الولايات المتحدة، ولا تزال علاقات التحالف الوثيق بينهما قائمة، وذلك بجانب استمرار الخلاف بين المملكة العربية السعودية وروسيا حول خفض إنتاج النفط، وكذا محدودية التعاون الاقتصادي. وأخيرًا، وعلى الرغم من الحديث حول الشروع في تعاون نووي بين السعودية وروسيا؛ إلا أن هناك رغبة سعودية في إقامة البرنامج النووي السعودي بالتعاون مع الطرف الأمريكي.
السيناريو الثاني- المناورة الروسية
ينطلق هذا السيناريو من فكرة تبني روسيا سياسة مرنة أكثر براجماتية، تُمكّنها من الوقوف في منطقة وسطى بين الجانبين. ويعتمد هذا السيناريو على أن روسيا ستظل مستمرة في دعمها لإيران على مستوى الخطاب المعلن، لكن مع دعوتها للتهدئة. ويستند هذا السيناريو إلى استمرار روسيا في خطواتها لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، بجانب التنسيق مع الأطراف الأخرى وعلى رأسها إسرائيل. ووفقًا لهذا السيناريو، تُدرك روسيا أن إضعاف إيران (حليفها الأساسي في المنطقة) في مقابل تقوية أطراف أخرى تمثل حلفاء رئيسيين للولايات المتحدة لن يصب في مصلحة روسيا ونفوذها في المنطقة.
وفي السياق ذاته، ستستمر روسيا في سعيها للتقارب مع الولايات المتحدة استغلالًا لوجود “ترامب” في السلطة، الذي رفض اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية. أما فيما يتعلق بدول الخليج، فستعمل روسيا على تعزيز علاقاتها بدول الخليج، وبالأخص مع وجود رغبة متبادلة بين الجانبين تؤكدها الزيارات التي قام بها كل من العاهل البحريني “حمد بن عيسى آل خليفة” في سبتمبر 2016، وكذا زيارة العاهل السعودي “سلمان بن عبدالعزيز” في أكتوبر 2017، وأيضًا زيارة الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في مايو 2018 لموسكو. كما ستسعى لتكثيف مجالات التعاون العسكري والاقتصادي معها، وستلتزم في سبيل ذلك بتصريحات تؤكد ضرورة حماية الخليج وأمنه وضمان استقراره.
السيناريو الثالث- تخلي روسيا عن إيران
يقوم هذا السيناريو على فكرة رئيسية ترتبط باتساع موضوعات الخلاف بين إيران وروسيا، بطريقة أصبحت تهدد مصالحهما الرئيسية، حيث تعتبر الساحة السورية هي النافذة الأساسية الكاشفة عن تنامي حالة الخلاف بينهما. ومن أبرز مؤشرات هذا الخلاف ما أوضحه بعض المراقبين من تباين في تصريحات المبعوث الروسي الخاص “أليكسندر لافرينتيف” ومستشار مجلس الأمن القومي الإيراني “علي شامخاني” بعد محادثاتهما في طهران حول توقف العمليات القتالية التي تريد طهران استمرارها بحجة وجود جبهة النصرة وتنظيم الدولة “داعش”، فيما تعمل في الخفاء على تعزيز مصالحها الاقتصادية في سوريا.
وينطلق هذا السيناريو من رغبة روسيا في تقويض نفوذ إيران في سوريا، وتحجيم تأثير وكلائها بالمنطقة. كما تُدرك روسيا أنها لم تعد في حاجة إلى حليف كإيران لزيادة نفوذها في المنطقة، لأنها موجودة ميدانيًّا في سوريا في قلب المنطقة. إضافة إلى أن تصاعد النفوذ الإيراني يُمثل محفزًا ومحركًا للتنظيمات الإرهابية السنية لتوسيع نشاطها بطريقة قد تضر بمصالح روسيا. أضف إلى ذلك عدم قدرة الاقتصاد الروسي -المُحمّل بالعقوبات- على تحمل المزيد من العقوبات في سبيل إيران. كما أن التعاون مع إيران في مجالات الاقتصاد والتجارة والتسلح سيصبح غير ذي قيمة في حال تردت الأوضاع الاقتصادية داخل إيران. وفي المقابل، يُمكنها الاستفادة من زيادة أسواق وأسعار النفط جراء تراجع النفط الإيراني.
وعطفًا على ذلك، هناك حالة من حالات التنسيق المكثف بين روسيا وإسرائيل فيما يتعلق بالأوضاع الأمنية في سوريا، وهو ما شكّله إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” حول التوافق مع نظيره الروسي أثناء زيارته لموسكو للتعاون من أجل إخراج القوات الأجنبية من سوريا (القوات الإيرانية، وحزب الله). وتقوم سياسة تل أبيب في هذا الشأن على التعاون مع موسكو لتشكيل فريق مهمات مشترك لتأمين خروج القوات الأجنبية، وإنشاء خط عسكري مباشر بين إسرائيل وروسيا. وفي السياق ذاته، هناك رغبة لدى روسيا في استمرار الرئيس “ترامب” في الحكم، وعليه فلا بد له أن يظهر بمظهر الطرف الرابح في علاقته مع إيران حتى يستطيع الفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020. وذلك استنادًا إلى تردد الأنباء حول وجود علاقات بين حملة الرئيس “ترامب” وروسيا، وكذا اتهامها بالتدخل والتلاعب بالانتخابات الرئاسية السابقة. وفي إطار سعي الولايات المتحدة لتضييق الخناق على إيران، فقد تُقْدِم الولايات المتحدة على رفع العقوبات عن روسيا مقابل تخليها عن إيران. أما فيما يتعلق بدول الخليج، فهناك رغبة روسية كبيرة في تعزيز العلاقات معها، ليس من أجل التنسيق فيما يتعلق بسياسات النفط، وتعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية والتجارية ومبيعات السلاح؛ وإنما أيضًا فيما يتعلق بإعادة إعمار سوريا، ذلك أن دول الخليج هي الطرف الأكثر قدرة على القيام بذلك، على عكس إيران.
ختامًا، يمكن القول بشكل عام، وبغض النظر عن السيناريو المرجح، إن روسيا لا تريد التصعيد ولا ترغب فيه، وستكون أغلب تحركاتها في اتجاه التهدئة. وارتباطًا بذلك، تدعم روسيا الاتفاق النووي الإيراني، وتدعو إيران دومًا للالتزام به. واستنادًا إلى المعطيات القائمة فإن السيناريو المرجّح هو السيناريو الثاني المرتبط بقدرة روسيا على إدارة مناورة تعزز من علاقتها بأغلب -إن لم يكن كل- الأطراف. غير أن اتباع روسيا لهذا السيناريو لن يستمر لفترة طويلة، حيث إن النتائج المزمع تحقيقها ستدفع بروسيا باتجاه السيناريو الأول أو الثالث وفقًا للنجاحات التي حققتها على الأرض. بمعنى آخر، ستتجه روسيا إلى الاستمرار في دعم إيران حال فشلت الأولى في تعزيز علاقتها بالأطراف الأخرى، في حين ستتجه نحو تقليل دعمها الموجه لإيران حال نجحت في تطوير علاقتها بالأطراف الأخرى.