بات في حكم المؤكد أن “صفقة القرن” التي أُزيح الستار عن أولى خطواتها (بعد إعلان البيت الأبيض عن الورشة الاقتصادية الدولية في البحرين أواخر شهر يونيو 2019) لن تُسهم بشكل مفيد في تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والأرجح أن طرحها سيؤدي إلى تصعيد الموقف المتوتر بالفعل، والإسراع في تآكل الإدارة المشتركة للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين.
إذ حتى في ظل ضغوط “ترامب” الشديدة، لا يمكن أن نتوقّع من القيادة الفلسطينية الموافَقة على “صفقة القرن” بعد أن ألغت قرارات “ترامب” وإجراءاته على مدار الـــ18 شهرًا الماضية عددًا من المكوّنات الأساسية لمقاربة الولايات المتحدة التقليدية للصراع “الإسرائيلي-الفلسطيني”. ولهذا أوضحت القيادة الفلسطينية، أكثر من مرة، أنها لن تتعامل مع مقترحات إدارة “ترامب” بسبب انحيازها لإسرائيل، وستواصل تعزيز الاعتراف الدولي الكامل بالدولة الفلسطينية. وهنا يتبدّى جوهر الموقف الإسرائيلي ورهانه على الرفض الفلسطيني أولًا لخطة “ترامب”، حيث ستعتبر إسرائيل هذا الرفض للمفاوضات على أساس الخطة الأمريكية بمثابة ضوء أخضر لتنفيذ عناصر المبادرة بشكل انتقائي، ومن جانب واحد يسمح لها بالحفاظ على السيطرة الدائمة على القدس الشرقية والأجزاء الاستراتيجية من الضفة الغربية، خاصة أن نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة تُشير إلى خطر كبير يتمثل في شعور الحكومة الإسرائيلية الجديدة بالجرأة اللازمة لبدء الضم للمنطقة (ج) من الضفة الغربية. وهذا من شأنه أن يُقلّص بشكل دائم الأراضي الفلسطينية إلى جيوب معزولة قليلة. عندئذ لن يكون من الممكن تصور تسوية على أساس دولتين. ومن ثمّ، ليس من المبالغة في شيء القول بأن طرح الصفقة -إذا حدث- ما هو إلا (بالنظر إلى حسابات “نتنياهو” وجماعات اليمين) استدراج رفض فلسطيني مؤكد يبرر ضم أكثر من 60% من أراضي الضفة.
هنا تتبدى أهمية الإشارة إلى المعادلة الحرجة فلسطينيًّا؛ فالقبول الفلسطيني بـ”الصفقة” أو اعتبارها أساسًا يمكن التفاوض عليه قد يُعدّ استسلامًا. وبالمقابل، فإن رفضها قد يكون نوعًا من الانتحار، إن لم يكن ضمن بناء بديل عنها. ولا شك أن بناء هذا البديل المطلوب يتناقض مع استمرار استراتيجية البقاء والانتظار وردة الفعل التي تظهر تجلياتها المختلفة في أداء النخب السياسية الفلسطينية.
“ترامب” ورهانات “نتنياهو” وفريقه
إذا كانت واشنطن لم تكشف حتى الآن عن تفاصيل “صفقة القرن” التي من المفترض أن تكون بمثابة أساس للمفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية؛ فإن هذا لا ينفي سهولة استخلاص عددٍ من الاستنتاجات، بعد أن مضت إجراءات “ترامب” وتصريحاته بعيدًا في السعي لتكريس الموقف الإسرائيلي على الأرض، من مختلف أبعاد القضية (القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود، الأمن.. إلخ). فيما يبقى العمل الجاري حاليًّا لبلورة طبيعة وشكل الإطار السياسي للكيان الفلسطيني.
وبعد أن قدمت تلك التصريحات والإجراءات دلائل على مقاربة جديدة لاتفاق أقرب إلى مواقف “نتنياهو” الذي يصر على رفض الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، ويتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية يمكن أن تجري عملية تسويتها عبر ما يُسمى بـ”السلام الاقتصادي”. وهو في سبيل ذلك لن يتورع عن الإقدام على إضعاف السلطة، ونزع ما تبقى من دور سياسي لها؛ حتى تستكمل القيام بالدور الوظيفي (الأمني، الإداري، الاقتصادي) وضمن سقف الحكم الذاتي، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار السلطة وتفكيكها إلى سلطات عدة ضمن صيغة “الإمارات المتحدة”.
وتأسيسًا على ما تقدم، سينتهز “نتنياهو” الفرصة الراهنة كي يواصل تطبيق “الصفقة” على الأرض، من خلال التخطيط والتمهيد لضم المستوطنات، كخطوة على طريق ضم المنطقة (ج) التي يجري البحث إسرائيليًّا حول الأسلوب الأنسب لها: هل ضم سكانها قليلي العدد؟ أم طردهم؟ أم ضم جزء منهم؟ وكيفية التعامل مع الذين سيشملهم الضم: هل سيكونون مواطنين إسرائيليين؟ أم منحهم إقامة دائمة من دون جنسية؟
أما بالنسبة إلى ضم الضفة الغربية بكاملها مع سكانها فهو غير مطروح، لأن هذا سيحوّل إسرائيل عاجلًا أم آجلًا إلى دولة لمواطنيها أو دولة ثنائية القومية، وينفي عنها الصفة “اليهودية”، لأنها لن تبقى (مع ضم الأرض والسكان) دولة أبارتهيد إلى الأبد، لذا فإن الضم الكامل للضفة مع السكان مرفوض إسرائيليًّا، ربما بصورة أشد من رفض إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.
إعادة هندسة الضفة.. الابتعاد عن مخاطر استمرار الوضع القائم
استكمالًا لما سبق، يتعين لفت الانتباه إلى ما ذكره معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل INSS من أن النخب الأمنية والعسكرية في إسرائيل لديها قناعة كاملة بأن الوقت الحالي لا يمكن التوصل فيه إلى اتفاق شامل مع الفلسطينيين، وأنه من الأفضل لإسرائيل الاستمرار في سياسة إدارة الصراع، التي تستند إلى إدراك استراتيجي بأن الوقت يقف إلى جانبها، وأنه لا يوجد سبب لدفع العمليات التي تشكل مخاطر على إسرائيل قبل أن يتضح ميزان القوى داخل النظام الفلسطيني، وقبل أن تتضح الصورة داخل العالم العربي بشكل عام. ومن ثم، يتعين التركيز بشكل أساسي -في هذه الآونة- على الاستجابة للتحديات الأمنية وتغيير الوضع على الأرض.
وفي السياق ذاته، فإن استمرار الوضع الراهن، وسيناريوهات فرض القانون الإسرائيلي في الضفة الغربية، وضم الأراضي الفلسطينية؛ يعني احتمالًا كبيرًا للانزلاق إلى واقع دولة واحدة. وهذا الاتجاه يعمل ضد هدف إسرائيل في الحفاظ على نفسها كدولة يهودية و”ديمقراطية” وآمنة. بمعنى أن استمرار تكثيف السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الأراضي في الضفة الغربية، مع توسيع البناء في المستوطنات (في إجراءات يعتبرها الفلسطينيون والمجتمع الدولي وقائع أحادية الجانب على الأرض) يؤدي إلى الاستمرار في تآكل الخيارات المستقبلية لإسرائيل نتيجة عدم القدرة على الانفصال عن الفلسطينيين. وهذا الوضع يقوض مكانة إسرائيل في الساحة الدولية، كما يتجلى في جملة أمور من بينها قرار مجلس الأمن رقم 2334، الذي ينص على أن المستوطنات التي بنتها إسرائيل في الأراضي المحتلة عام 1967 غير قانونية. وكما يتجلى أيضًا في نجاح حركة المقاطعة المناهضة لإسرائيل، بما في ذلك تعبئة اليهود من المعسكر الليبرالي في الولايات المتحدة (والتي تتعارض قيمها في مجال حقوق الإنسان مع استمرار سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين) لغرض الاحتجاج النشط ضد إسرائيل. وفي هذا السياق، فإن الانقسام بين إسرائيل وعناصر داخل أكبر جالية يهودية خارج إسرائيل، هو أمر خطير للغاية بالحسابات الإسرائيلية.
انطلاقًا من هذا الإدراك قد تُراهن إسرائيل خلال الأسابيع القليلة القادمة على الرفض الفلسطيني أولًا لخطة “ترامب”، وبعدها ستتقدم هي بالبديل الذي يناسبها ويسهم في فرض وقائع جديدة على الأرض، تؤدي في النهاية إلى تطويع كل السيناريوهات لمصلحتها. وهذا البديل يتمثل في إعادة تقسيم الضفة الغربية على النحو الذي قد يوفر لإسرائيل فرصة الجمع بين مزايا التسوية الانتقالية، والخطوات أحادية الجانب. وفي الوقت ذاته سوف يقطع الطريق على الانزلاق نحو حل “الدولة الواحدة” الذي تخشاه إسرائيل وتعده خطرًا كبيرًا على مستقبلها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لإسرائيل تسويق هذا الإجراء أمام العالم باعتباره دليلًا على جديتها في أن ينشأ كيانان منفصلان (أحدهما للفلسطينيين) بما يقطع الطريق على سياسات نزع الشرعية عنها.
خريطة توضح مشروع إعادة تقسيم الضفة الغربية
وتتمثل الخطوات العملية لتطبيق هذا البديل فيما يلي:
1- ستنقل إسرائيل الصلاحيات في المنطقة (ب) في الضفة الغربية إلى السلطة الفلسطينية، على غرار الصلاحيات التي تمتلكها الأخيرة حاليًّا في المنطقة (أ). وستسمح بالتماسك والاستمرارية في الأرض الفلسطينية لإنشاء مساحة فلسطينية موحدة (المنطقتان أ، ب) والتي ستكون بمثابة الأساس لمستقبل الدولة الفلسطينية وربما تصبح دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة. وستغطي هذه المنطقة حوالي 40% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية، التي تضم أكثر من 95% من السكان الفلسطينيين.
2- ستخصص إسرائيل ما يصل إلى 25% من الضفة الغربية من المنطقة (ج) لتطوير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية لتشجيع تنمية الاقتصاد الفلسطيني، ونقل المناطق الفلسطينية المأهولة الواقعة خارج المنطقة (ب) والمنطقة (ج) للسيطرة الفلسطينية. وستشارك إسرائيل في جهد مشترك مع المجتمع الدولي لإنشاء شركات صناعية، ومشاريع سياحية، وإنشاءات سكنية.
3- في المرحلة الأولى، لن تقوم إسرائيل بنقل الأمن وخطة تقسيم المناطق إلى الفلسطينيين في مناطق التطوير هذه، ولكن سيتم نقلها تدريجيًّا إلى السلطة الفلسطينية، استنادًا إلى معايير إسرائيل الخاصة بالحالة الأمنية في تلك المناطق.
4- ستشهد الأراضي الفلسطينية المتصلة إقامة نظام مواصلات متواصل من الشمال إلى جنوب الضفة الغربية، بهدف الحد من الاحتكاك اليومي بين الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة الغربية من ناحية، والسكان الفلسطينيين من ناحية أخرى.
5- ستتخذ إسرائيل إجراءات لإكمال الجدار العازل الذي سيحدّد حدود الفصل بين الكيانين ومصالحها الإقليمية المستقبلية. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تخصيص ما يصل إلى 20٪ من مساحة الضفة الغربية كمنطقة أمنية خاصة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة، بما في ذلك وادي الأردن حتى طريق “ألون” والطرق والمواقع الاستراتيجية الأخرى.
6- سيستمر البناء في الكتل الاستيطانية الرئيسية. وفي المقابل، سيتم وقف البناء في المستوطنات المعزولة الواقعة في عمق المناطق الفلسطينية، وسيتم وقف الدعم الحكومي للتوسع داخل هذه المستوطنات. ولن يتم طرح مسألة إخلاء المستوطنات إلا في سياق اتفاق شامل مع الفلسطينيين.
7- حل مشكلة قطاع غزة ليس شرطًا مسبقًا -من وجهة نظر إسرائيل- لتطبيق هذا التصور، ولكن ستحاول إسرائيل معالجة إشكالياتها مع غزة بشكل مستقل. بما في ذلك احتمالات كبيرة بالانخراط في مواجهة عسكرية مع حماس (أهم وأضخم من سابقاتها) قبل انتهاء العام الجاري.
باختصار، فإن إسرائيل -ونتيجة لدعم “ترامب” اللا محدود- تتصرف اليوم وهي على قناعة تامة بأنها تحظى بوضع استراتيجي فريد يوفر لها فرصة لتبني سياسة استباقية تمكنها من تعزيز مستقبلها.