لا يمكن فهم التحولات السياسية التى تشهدها العديد من المجتمعات دون فهم التحولات الجيلية التى تمر بها. فكل جيل قد يكون له رؤيته الخاصة للقضايا السياسية، هذه الرؤية لا تتشكل فقط نتيجة ما يتعلمه أبناء هذا الجيل فى المدرسة او الجامعة او من خلال أدوات التنشئة الأخرى، بل تتشكل أيضا نتيجة لخبرتهم الحياتية المشتركة. أو كما أشار أحد علماء الاجتماع من أنه لا يتم تعريف جيل من خلال سنوات ميلاده فحسب، بل أيضًا من خلال التجربة التاريخية الرئيسية التي اشترك فيها أعضاؤه.
وقد استوقفني منذ عدة شهور ظاهرة جديدة تشهدها الحياة السياسية الأمريكية، وهى قيام مجموعة من أعضاء الكونجرس من الشباب الذين انتخبوا حديثا بالتعبير صراحة عن انتقادهم للسياسة الخارجية الإسرائيلية، وقد ظننت فى البداية أن هذه ظاهرة مؤقتة وفردية وقد لا يكون لها أى مستقبل. ولكن دراسة حديثة أصدرها مركز ستراتفور، وهو أحد المراكز المتخصصة فى الدراسات الإستراتيجية أوضحت أن التغيرات فى المواقف التى تبناها بعض أعضاء الكونجرس تجاه إسرائيل هى أعمق من ذلك، وهى تعبير عن تحولات جيلية أدت الى تغيير الطريقة التي ينظر بها الشباب الأمريكي إلى إسرائيل، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في يناير 2018 أن الأمريكيين الأصغر سنًا في الفئة العمرية (18 الى 49) يتعاطفون بشكل أقل مع إسرائيل، ويشير التقرير الى أن عدة عوامل تقود هذا التغيير. أولها أن هذه الأجيال الأصغر سنا لها تجربة تاريخية مختلفة بشأن إسرائيل مقارنة بشيوخهم، الذين يميلون إلى أن يكونوا أكثر دعمًا لها. فبالنسبة للعديد من الشباب الأمريكيين لا يوجد لديهم الذكريات المباشرة للحروب العربية الإسرائيلية التي كثيرا ما ذكرت إسرائيل أنها هددت وجودها قبل عدة عقود، كما أن هؤلاء الشباب ليس لديهم أي صلة مباشرة بأعضاء الجيل الذين عانوا مما يعرف بالهولوكوست أو محارق اليهود. هذه العوامل أدت الى تغير الطريقة التي ينظر بها هؤلاء إلى إسرائيل. فبالنسبة لهم تبدو إسرائيل كجزء مستقر فى منطقة الشرق الأوسط، وليست دولة يمكن محوها في النزاع التالي. من ناحية أخرى فقد تعرض هؤلاء الأمريكيون الأصغر سنا لتجربة ردود إسرائيل العسكرية القوية على الانتفاضات الفلسطينية، وفى مواجهة متظاهرين أكثر ضعفا. هذه التجربة، جعلت هؤلاء الأمريكيين أكثر استعدادا لقبول إدانة إسرائيل وتحميلها المسئولية فى عدم إحراز تقدم في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
كما تظهر الاستطلاعات أن الاتجاه بين الأمريكيين الشباب هو أنهم أقل تديناً من الأجيال السابقة، وحيث إن الدين المسيحي واليهودي هو دافع رئيسي في تشكيل المواقف تجاه إسرائيل، فهؤلاء الشباب أقل تعاطفا مع إسرائيل لافتقادهم هذا الدافع. و لكن من ناحية أخرى هناك نسبة متزايدة من الشباب الأمريكيين المتدينين مسلمون، وهؤلاء لا يقبلون باتباع سياسة مؤيدة لإسرائيل نتيجة لهذا البعد الديني.
خلاصة هذا النتائج هى ان الانتقادات التى وجهها أعضاء من الكونجرس لإسرائيل أو التعاطف الذي يبدونه للفلسطينيين ليس ظاهرة استثنائية أو فردية، بل هى وجهات نظرها قريبة من أبناء جيلهم، وهو أمر قد يكون له تأثيرات ضخمة فى المستقبل، وقد يدفع بعض الدوائر الإسرائيلية والأمريكية الى السعى للوصول لتسوية مع الفلسطينيين الآن وفى ظل المعطيات الحاضرة، وقبل أن تتغير فى المستقبل نتيجة هذه التحولات الجيلية.
العديد من الدراسات الأخرى استهدفت التعرف على آراء الأجيال الشابة بالنسبة للقضايا الداخلية، وخاصة مواقف ما يعرف بجيل الألفية (من مواليد 1981 الى 1996) و جيل (زى) وهو الحرف الأخير فى الأبجدية الإنجليزية (من مواليد 1996 و مابعدها) ، والتى أوضحت أن هؤلاء الشباب يتجهون ببطء نحو اليسار، وخاصة تبنى الآراء المؤيدة لدور أكبر للدولة فى الاستثمار فى التعليم والصحة، فى حين أن الجيل من مواليد 1946 الى 1964 يتجهون ببطء نحو اليمين.
باختصار العالم يشهد تحولات جيلية سوف يترتب عليها تحولات ضخمة فى السياسات الداخلية والخارجية، وما أحوجنا فى مصر والعالم العربى الى القيام ببحوث علمية عن توجهات الأجيال المختلفة، وخاصة الشباب، و دراسة تأثيرها على مستقبلنا، وكيفية التعامل معها.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ١٧ مايو ٢٠١٩.