تتزايد الاتصالات الفلسطينية-الروسية في الفترة الأخيرة تزامنًا مع العدّ العكسيّ للإعلان عن خطة التسوية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكرد فعل استباقي يعكس ملامح خطة تحرك فلسطينية تتبنى زيادة فاعلية الأدوار الدولية المنخرطة في الإقليم تجاه القضية الفلسطينية، وكمحاولة للحد من هيمنة الولايات المتحدة التي أظهرت سخاء غير مسبوق في دعم إسرائيل مقارنة بالإدارات الأمريكية السابقة.
وعلى الأرجح فإن السلطة الفلسطينية لا تراهن على موسكو كبديل لواشنطن، وإنما لكسر احتكار الولايات المتحدة للقضية وفقًا لما أعلنه الرئيس محمود عباس “أبو مازن”. ومن جانبها، أظهرت روسيا تقاربًا واضحًا مع المواقف الفلسطينية، فقد أبدت اعتراضها على التسريبات الخاصة بـالخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط “صفقة القرن” وما واكبها من خطوات قامت بها واشنطن كنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كما اعتبرت أن الخطوات أحادية الجانب تهدر الحق الفلسطيني وتقوض مسار عملية السلام المتعثر، وأنه يجب أن تسبقها العودة إلى المفاوضات المجمدة. وقد عرض الكرملين الوساطة بين الطرفين، ودعا لعقد مؤتمر قمة في عام 2016، لكن إسرائيل تجاهلته.
نقاط ارتكاز
وفي الواقع فإن الحديث عن الدور الروسي في عملية السلام في الشرق الأوسط لا بد أن ينطلق من عدة نقاط ارتكاز رئيسية تتعلق بخلفية وتطور الدور الروسي إزاء قضية التسوية، ومنها:
- أن روسيا ليست طرفًا طارئًا على ملف التسوية منذ إطلاق مسار مدريد عام 1991، فهي عضو في اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، التي أنشأت في مدريد عام 2002، ولكن المتغير في هذا السياق هو مستوى التفاعل الروسي مع القضية الفلسطينية في ضوء المتغيرات الجيوسياسية وتداعياتها على التفاعلات الجارية في المنطقة وبالتالي على التواجد الروسي فيها.
- أن التعويل على دور روسي فاعل في عملية التسوية الفلسطينية-الإسرائيلية لا يعتمد منهج “التقارب” مع أطراف عملية التسوية، بقدر ما يعتمد على “التأثير” على الأطراف الفاعلة في معادلة التسوية، خاصة إسرائيل والولايات المتحدة، وإلا فستكون تلك المعادلة مختلة.
- أن سرعة الحركة الروسية لا تنسجم مع رؤية موسكو لأفق الصراع في الشرق الأوسط، وتحذيراتها بشأن ضعف الخيارات. ففي منتدى فالدي 2018 (روسيا في الشرق الأوسط.. لاعب في كل الساحات الرئيسية) لخّص “ميخائيل بوغدانوف” (المبعوث الروسي الخاص للشرق الأوسط) الرؤية الروسية في عدة نقاط، منها: أن واشنطن لا تعطي المجال للرباعية الدولية للعمل بكامل طاقتها، وسياساتها تخلق حالة من عدم اليقين، وأن التسوية القائمة على مبدأ الدولتين عرضة للخطر، وحذر من “نقطة اللا عودة” التي باتت قريبة جدًّا، معتبرًا أن خيار دولة واحدة لا يتناسب مع الفلسطينيين أو الإسرائيليين.
فرص مقيدة
إن السؤال المركزي الذي يمكن طرحه فيما يتعلق بالدور الروسي في عملية التسوية حاليًّا هو: هل هناك فرصة لدور روسي مختلف في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي انطلاقًا من المتغير الجيوسياسي بعد أن أصبحت روسيا دولة جوار لإسرائيل في ظل تواجدها في سوريا، وما رتّبه ذلك الجوار من تداعيات ألقت بظلالها على العديد من الترتيبات والتفاهمات الأمنية؟
واقعيًّا، وفي إطار الإجابة على السؤال السابق، يُمكن القول إن هناك عدة محدِّدات تجعل من أي فرصة محتملة هي فرصة مقيدة ومحدودة، وتعوق أي دور روسي يمكن التعويل عليه، ومنها على سبيل المثال:
أولًا- غياب أوراق الضغط: فالمتغير الإقليمي بالنسبة لروسيا لم يُضف لها أوراق ضغط على إسرائيل بسبب طبيعة مسار التسوية، فهو مسار خارج مجلس الأمن، وليس صراعًا ميدانيًّا تمثل فيه روسيا أحد موازين القوى، كما لا تمتلك أوراق قوة في الداخل الإسرائيلي تُمكّنها من التأثير في هذا الملف على عكس الوضع بالنسبة للولايات المتحدة في ظل وجود منصات أمريكية-إسرائيلية مشتركة تلعب دورًا كبيرًا في التأثير على صناعة القرار على الجانبين.
فعلى سبيل المثال، طلب رئيس الوزراء الفلسطيني “محمد أشتية” من رئيس المكتب التمثيلي لروسيا في رام الله “أجانين رشيدوفيتش” أن تتخذ موسكو إجراءات ضد المواطنين الروس الذين ينتقلون للعيش في مستوطنات في الضفة الغربية، والضغط على إسرائيل لإلغاء قرارها بقطع المدفوعات التي تدفعها السلطة الفلسطينية لعائلات السجناء الفلسطينيين والشهداء من عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عن الفلسطينيين، وهو ما لم تتمكن روسيا من القيام به، وبالتالي هناك ما يمكن أن تمنحه الولايات المتحدة لإسرائيل على عكس ما يمكن أن تمنحه موسكو للفلسطينيين أو ما يمكن أن تمنعه عن إسرائيل أو تلزمها به.
ثانيًّا- سياسة فصل الملفات، التي تنتهجها إسرائيل في إطار العلاقة مع روسيا، فالأولي كانت حريصة منذ البداية على تحييد الثانية في هذا الملف وعدم خلط الأوراق، كما لم تعقد أي مقايضات أو صفقات ذات صلة يمكن أن تدفع إسرائيل إلى اتخاذ خطوة لصالح الفلسطينيين، وهو ما ظهر من عدم تلبية رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” دعوة روسيا إلى حوار فلسطيني-إسرائيلي في موسكو.
ثالثًا- طبيعة الاصطفافات الإقليمية: لا تشكل التفاعلات الإقليمية الراهنة بيئة مناسبة لدور روسي في ضوء التوترات الإقليمية على خلفية السياسات الإقليمية لإيران، بل على العكس استدعت زيادة في الطلب على الدور الأمريكي من جهة، وبالتالي لم تَبْنِ روسيا قاعدة تكتل ذات تأثير تجعل منها قطبًا في معادلة اصطفاف إقليمي، خاصة وأن السياسات الروسية في سوريا لم تنسجم مع المواقف العربية من جهة أخرى، وهو ما يُعقّد موقف السلطة الفلسطينية في حال راهنت على موسكو.
خطط مرتبكة
تنمّ المواقف الروسية-الفلسطينية عن صعوبات في تشكيل رؤية مشتركة يمكن العمل عليها في الإطار الثنائي. فعلى سبيل المثال، طرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس “أبو مازن” فكرة الصفقة البديلة، ضمن أُطر الحركة الفلسطينية للتعامل مع “صفقة القرن” المرفوضة فلسطينيًّا. وفي هذا السياق، نقل تقرير لوكالة “تاس” الروسية في أبريل الماضي عن المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية “نبيل أبو ردينة” في لقاء مع مجموعة من الصحفيين الإسرائيليين، أن السلطة الفلسطينية تريد من المجتمع الدولي أن يدعم معارضته لخطة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ما لم تكن تستند إلى خطوط ما قبل عام 1967 والتفاهمات الدولية السابقة. وكشف عن أن إبرام أي اتفاق سلام في المستقبل يجب أن يكون في إطار مجموعة (٥+١) كما تم مع الصفقة الإيرانية. ولم تُبْدِ روسيا موقفًا واضحًا إزاء تلك الرؤية.
وفي المقابل، طرح مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة “فاسيلي نيبينزيا” مشروعًا لإرسال بعثة تابعة لمجلس الأمن الدولي إلى الشرق الأوسط لتسوية الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. وقال خلال جلسة لمجلس الأمن في 29 أبريل 2019: “نعتقد أن من شأن إرسال بعثة مجلس الأمن الدولي إلى الشرق الأوسط أن يعزز وحدتنا والتعامل مع الطرفين”، لكن هذا الطرح لم يحظَ باستجابة من جانب الأعضاء في مجلس الأمن. وبالتالي فإنه على الرغم من التلاقي الروسي الفلسطيني عند نقطة رفض مشروع “صفقة القرن”؛ إلا أن ذلك لم يواكبه تلاقي الطرفين عند نقطة خطة عمل مشتركة يمكن الانطلاق منها لصياغة خطة بديلة يمكن البناء عليها.
الخلاصة، إن هناك زيادة في الاهتمام الروسي بالقضية الفلسطينية، إعلاميًّا ودبلوماسيًّا، خلال العقد الماضي، وتزايد بوتيرة أعلى خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وعلى الأرجح فإن تحليل أبعاد هذه الفاعليات، ومنها على سبيل المثال: استضافة الحوار الفصائلي لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وإدارج القضية الفلسطينية على منتدى فالدي الدوري، وخطابات دبلوماسية في الأمم المتحدة، وتبادل زيارات فلسطينية؛ تظل في إطار التعاطي مع القضية الفلسطينية بشكل عام، وليس هناك اهتمام خاص أو تحرك غير تقليدي بالنسبة لمسار التسوية.
وبالتالي، يمكن القول إن روسيا ستبقى مجرد لاعب ثانوي في ملف التسوية وليست لاعبًا رئيسيًّا، سواء بفعل ديناميكية التفاعلات الإقليمية الراهنة، أو بفعل محركات الدور الروسي نفسه الذي يتحرك في ساحات الصراعات المسلحة بكفاءة أعلى من استخدام الآلية الدبلوماسية في قضايا التسوية، وهو ما يفسر تراجع الاهتمام الروسي بالشرق الأوسط في استراتيجيات الأمن القومي الروسية إلا في نقاط التماس مع القضايا ذات الأبعاد الأمنية والاستراتيجية. وفي المقابل، لا يعتقد أن التفاعلات الإقليمية أو التفاعلات القائمة بين أطراف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ناضجة بالقدر الذي يُمكن أن يمنح هامش مساحة أوسع للدور الروسي لإحداث تغيير يُعتد به.