هناك بعض المقولات التي يجب الإلمام بها لفهم انتخابات البرلمان الأوروبي التي أُجريت خلال الفترة من ٢٣ مايو إلى ٢٦ من الشهر ذاته، وهي أنه الهيئة الوحيدة من هيئات الاتحاد الأوروبي التي تُنتخب انتخابًا مباشرًا، وقد ازدادت صلاحياته تدريجيًّا ليصبح صاحب دور في تعيين رئيس المفوضية الأوروبية، ولكنها لا تزال محدودة نسبيًّا. وأن تلك الانتخابات تعاني من صورة سلبية للبرلمان، إذ يتصور العامة أنه لا يهم، وأنه مجرد ديكور يضفي طابعًا ديمقراطيًّا لمشروع غير ديمقراطي. ويؤثر هذا التصور على نسب المشاركة في بعض الدول، وعلى سلوك الناخب، الذي يستطيع أن يوجه إنذارًا للسلطة الحاكمة له دون أن يتحمل -في تصوره- تبعاته، وأن يعبر عن تفضيلاته دون الاضطرار للخوض في حسابات الجدوى للخيارات المتاحة، لا سيما وأن نظام الانتخاب بالقائمة النسبية يعني أن كل صوت سيمثل في البرلمان. وأخيرًا تلعب اعتبارات السياسة الداخلية لكل بلد دورًا في تحديد سلوك الناخب يطغى في كثيرٍ من الأحوال على دور المشكلات الأوروبية العابرة لكل دولة.
والمقارنة الأدق يجب أن تكون بين الانتخابات المتعاقبة للبرلمان الأوروبي، وليست المقارنة بينها وبين الانتخابات الرئاسية أو التشريعية في الدولة؛ حيث إن هناك أحزابًا تُحقق نتائج طيبة في الانتخابات الأوروبية بينما هي عاجزة عن إحراز نتائج يُعتد بها في الانتخابات القطرية، وأن أحزاب السلطة تواجه دائمًا مخاطر التصويت العقابي. ولذا، فإن رسم صورة كلية للتصويت القاري عملية لا معنى لها. فكل تصويت محلي قطري، والنتائج المحلية قطرية، وإن كان لها تأثير قوى وتبعات على مسار المشروع الأوروبي.
استقطاب جديد
هناك دولٌ أوروبية شاهدت هيمنة للأحزاب التاريخية والتقليدية، وأخرى شاهدت تقدمًا للقوى الشعبوية، وثالثة مدًّا أخضر بدا غير متوقع. ولكن يبقى أن نصيب القوى والأحزاب التقليدية -أي الديمقراطية المسيحية والاشتراكية الديمقراطية- في تراجع مستمر على المستوى القاري، من ٦٦٪ عام ١٩٩٩ إلى ٥٤٪ عام ٢٠١٤ إلى ٤٣٪ هذا العام. ومعنى هذا أن الاتفاق بينهما لن يكفي لاختيار خليفة “جان كلود يونكر” رئيس المفوضية الأوروبية، وأنهما سيضطران إلى التفاوض مع الليبراليين ومع الخضر، لا سيما وأن مرشح المسيحية الديمقراطية الألماني “مانفريد فيبر” عديم الخبرة بالمؤسسات الأوروبية، وتقول الشائعات إن الرئاسة الفرنسية غير مقتنعة به.
وفي هذا الشأن، قال خبير فرنسي لصحيفة “لو فيجارو” إن الأحزاب التي لها خطاب واضح وخيار أيديولوجي محدد هي التي حققت نتائج جيدة، على عكس تلك التي يمكن وصف برنامجها بالتوافقي. وقد لا يكون هذا التشخيص صالحًا في كل الدول، لكنه صالح في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وأوروبا الشرقية. وقال آخر، إن الانتخابات كرست استقطابًا جديدًا بين أحزاب برجوازية وأخرى شعبية.
ويزعم أقطاب الأحزاب الخضراء في ألمانيا وفرنسا أن النتائج الجيدة للخضر في بعض الدول تعود إلى الوعي البيئي للشباب والقلق العام من ظاهرة الاحتباس الحراري. وقد أقر كوادر حزب المستشارة “أنجيلا ميركل” بأن الأحزاب الألمانية التقليدية أساءت تقدير أهمية هذا الملف، ولا ننكر صحة هذا التشخيص، إلا أنه يجب التنويه إلى أمرين؛ أولهما أن الأحزاب الخضراء تحقق دائمًا نتائج طيبة في الانتخابات الأوروبية، لأن الناخب يريد توجيه رسالة حول همومه، ولكنه لا يزال يشك في قدرتها على حكم بلد. وثانيهما أن تلك الأحزاب استفادت كثيرًا من استياء الناخب التقليدي لليسار، وخاصة اليسار المتطرف.
ويبدو أن الاستقطاب بين المدن الكبرى المعولمة من ناحية، والريف والمدن الصغيرة والمتوسطة الحجم من ناحية أخرى، ما زال فاعلًا ومؤثرًا، وإن كانت الأوزان النسبية للطرفين والقضايا الخلافية تختلف من بلد إلى آخر رغم التركيز على القضايا المتعلقة بالهوية وبالهجرة
نتائج الانتخابات
في ألمانيا، ارتفعت نسبة المشاركة مقارنةً بانتخابات عام ٢٠١٤ (كل المقارنات مع نتائج ٢٠١٤ ما لم نُشِرْ إلى غير ذلك) لتتخطى حاجز الستين في المائة، وتراجع حزب المستشارة “ميركل” تراجعًا كبيرًا (٧٪)، بينما انهار الاشتراكيون الديمقراطيون حيث حصلوا على أكثر قليلًا من ١٥٪ من أصوات الناخبين (تراجع قدره ١٢٪)، وضاعف الخضر عدد من صوتوا لهم وحصلوا على أكثر من خمس أصوات الناخبين وحققوا نتائج طيبة بين الشباب (٣٤٪) والناخبين الجدد (٣٦٪)، وهناك مليون وربع ناخب مسيحي ديمقراطي ومليون و٣٧٠ ألف ناخب اشتراكي ديمقراطي صوتوا للخضر.
وأخيرًا وليس آخرًا تُعتبر نتائج اليمين المتطرف متوسطة، ولكنها مائلة إلى السوء. فنتائجه قطعًا أحسن من نتائج انتخابات عام ٢٠١٤ نظرًا لتبعات أزمة المهاجرين السوريين، ولكنها أقل من نتائجه في انتخابات عام ٢٠١٧ رغم أن المفروض أن الانتخابات الأوروبية تُساعد مثل هذه الأحزاب (لأنه تصويت دون تكلفة)، ولكن الحزب احتفظ بمعاقله على عكس الاشتراكيين الديمقراطيين الذين خسروا بعضها.
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لعام ٢٠١٩

في فرنسا على عكس ما يذهب إليه بعض المحللين فإن النتائج تُعتبر نصرًا كبيرًا للرئيس “إيمانويل ماكرون”، رغم فشله في تحقيق هدفه المعلن وغير الواقعي وهو التقدم على حزب “مارين لوبان” التي تصدرت المشهد رغم ارتفاع نسبي للمشاركة (٥٠٪) وهي الأعلى منذ سنة ١٩٩٤ فحصلت قائمتها على ٢٣,٣١٪ مقابل ٢٢,٤١٪ لحزب الرئيس. أي إن الفارق أقل من واحد في المائة. وحقق الخضر مفاجأة كبيرة وحصلوا على ١٣,٤٧٪. ولكن المفاجأة الكبرى هي الانهيار الكامل للجمهوريين أي لليمين التقليدي الذي اكتفى بـ٨,٤٨٪. وكان الانهيار الموازي لليسار المتطرف ولحزب ميلانشون الذي حقق ٦,٣١٪ متوقعة بعد أدائه أيام أزمة السترات الصفراء.
وتُعد تلك النتائج نصرًا للرئيس “ماكرون” لجملة من الأسباب؛ أولها الهروب من المصير التقليدي للحزب الحاكم في فرنسا في الانتخابات الأوروبية، أي الهزيمة المهينة، واستعادة توازنه بعد زوبعة السترات الصفراء. وثانيها أن استراتيجيته تستهدف تدمير اليمين التقليدي ويسار الحكم (الذي يجيد التدمير الذاتي على أي حال) ليقيم ثنائية إما “ماكرون” أو “لوبان”، وهي ثنائية تضمن له إلى الآن الفوز في أي انتخابات رغم الضعف النسبي لقاعدته الانتخابية، والرفض الواسع لمشروعه الاقتصادي. ومن دواعي الاطمئنان لـ”ماكرون” أن انهيار الجمهوريين ليس نتيجة أداء سيئ أثناء الحملة أو برنامج تافه؛ إذ أجمع المراقبون على الثناء على رأس وأعضاء القائمة، ولكن ما حصل هو أن ناخبي الحزب اختاروا إما “لوبان” أو “ماكرون”، وعوضوا بذلك خسارة “ماكرون” لأصوات تُحسب على يسار الوسط وذهبت للخضر.
ويبدو أن أزمة الجمهوريين بنيوية، ولا يعني ما سبق أن الخطر زال بالنسبة لـ”ماكرون”؛ فمن ناحية أثبتت الانتخابات أن حزبه لا يضم كفاءات سياسية ولا يفرزها، فهو حزب الرجل الواحد، على عكس حزب “مارين لوبان”، حيث إن أداء “جوردان بارديلا” رأس قائمتها أذهل المراقبين. ومن ناحية أخرى فإن غياب البديل المقبول قد يتسبب في أزمات عنيفة في الشارع.
وشهدت المملكة المتحدة انقلابًا كبيرًا وإن كان متوقعًا، إذ انهار الحزبان الكبيران وفقدا معاقل انتخابية هامة، واكتفى حزب العمال بالمركز الثالث وحصل على ١٤٪ من أصوات الناخبين وراء الفائر الأكبر وهو حزب البريكسيت الذي نجح في لم شمل أنصار الخروج من الاتحاد من مختلف فرق الطيف السياسي، وحصل على أكثر من ٣١٪ من الأصوات (بدون نتائج أيرلندا الشمالية التي ستقلص قطعًا الفارق بينه وبين الآخرين) والحزب الليبرالي الديمقراطي الذي قفز قفزة كبيرة وتخطى حاجز خمس الأصوات مستفيدًا من استياء قطاع كبير من الناخبين اليساريين من سياسة “جيرمي كوربين” زعيم حزب العمال، وجاء الخضر في المركز الرابع محققين ١٢٪، بينما جاء المحافظون في المركز الخامس بـ٩٪ وظلت نسبة المشاركة منخفضة لا تصل إلى ٤٠٪.
وصرّح “نيجل فراج” قائد الحزب المنتصر والنصير الصريح للبريكسيت، بأن من الطبيعي أن يكون حزبه ممثلًا في الفريق البريطاني الذي سيتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، ورغم ذلك يبدو -وفقًا للصحافة البريطانية- أن أنصار البقاء في الاتحاد أكثر قليلًا من أنصار البريكسيت، مع الاعتراف بصعوبة تصنيف أصوات ناخبي المحافظين والعمال تصنيفًا دقيقًا، وإن قدر الخبراء أن ٨٠٪ من ناخبي المحافظين من أنصار البريكسيت و٦٠٪ من ناخبي العمال ضده. ولكن المشكلة أن تصويت أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي مفتت على عكس تصويت أنصار البريكسيت.
ولا يعني هذا أن إجراء استفتاء جديد إجراء حكيم لأنه انقلاب على الديمقراطية سيعمق انقسام المملكة، ولا بأس في هذا الصدد أن نُقرّ بأن ما لا يقل عن ثلث ناخبي بريطانيا كارهون للوحدة الأوروبية منذ البداية، أي منذ دخولها في سبعينيات القرن الماضي، وفي أحوال كثيرة يكون هذا الثلث معطلًا. ونضيف أن تجمعهم وراء راية حزب واحد تطور مقلق للغاية نظرًا لطبيعة النظام الانتخابي للمملكة (جولة واحدة ويحصل المتقدم على المقعد حتى لو لم يحصل على الأغلبية المطلقة).
وقد شهدت إيطاليا ثلاثة تطورات بالغة الأهمية؛ أولها كان متوقعًا وهو التقدم الكبير لحزب “ماتيو سالفيني” “الجامعة الإيطالية” الذي حصل -وفقًا للتقديرات الأولية- على أكثر من ثلث الأصوات مضاعفًا عدد ناخبيه مقارنة بمارس ٢٠١٨، وموسعًا قاعدته على حساب حزب “برلوسكوني” أساسًا، وحقق تلك النتيجة معتمدًا على المدن الصغيرة، ولم يحتل الصدارة في أي مدينة كبرى، ونجح في قلب موازين القوى في الائتلاف الحاكم لصالحه، حيث خسر شريكه “حركة خمسة نجوم” ثلث ناخبيه (مقارنة بانتخابات مارس ٢٠١٨) الذين استاءوا من خيار التحالف مع “سالفيني” ومن عجز الحركة عن تطبيق برنامجها الانتخابي ومن فشل ما طُبق فعلًا.
وثانيها لم يكن متوقعًا وهو احتلال الحزب الديمقراطي (الذي تخلص من رئيسه ورئيس وزراء إيطاليا السابق “ماتيو رنزي”) المركز الثاني محرزًا ٢٠٪ من الأصوات منتصرًا في عدد هام من المدن الكبرى الشمالية (تورينو، وميلانو، وجنوة، وروما)، ومستفيدًا من خيبة آمال الناخبين اليساريين في “حركة خمسة نجوم”.
ويتمثل ثالثها في حصول حزب فاشيٍّ أكثر تطرفًا من الجامعة الإيطالية “فراتيللي ديطاليا” على ٦٪ من الأصوات، وأهمية هذا أن تلك النتيجة قد تدفع “سالفيني” إلى تغيير تحالفاته، بل إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة. ولا شك أنها ستقوي شوكته في مواجهته لسلطات الاتحاد فيما يتعلق بسقف العجز والديون، حيث يقال إن بروكسل ستأخذ إجراءات عقابية ضد روما في يونيو المقبل.
وفي بولندا، حقق الحزب الحاكم أحسن نتيجة له على الإطلاق، فقد حصل على ٤٥٪ من الأصوات، وهي أقوى نتيجة لحزب يميني شعبوي معادٍ لليبرالية النخب الأوروبية وللهجرة. وجاءت قائمة تاسك الليبرالية في المركز الثاني، حيث حصلت على ٣٨٪ من الأصوات. وقد تناولت المعركة الانتخابية موضوعات مثل الهجرة وحقوق المثليين والدور السياسي للكنيسة الكاثوليكية، وما حدث في الحرب العالمية الثانية، وهل للبولنديين مسئولية في المحرقة؟ وعلى أي حال، شكلت هذه الانتخابات اختبارًا للانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في الخريف المقبل، وكانت نسبة المشاركة ضعيفة نسبيًّا (٤٥٪)؛ إلا أنها أكثر من المعتاد، بل حققت رقمًا قياسيًّا.
وتُعد إسبانيا من الدول المهمة وإن تراجع دورها الأوروبي في السنوات الماضية نتيجة أزمتها الاقتصادية الطاحنة وانشغالها بمشكلاتها الداخلية، ومنها حركة كاتالونيا الانفصالية. ورغم ذلك حقق الاشتراكيون نصرًا هامًّا وحصلوا على ٢٠ مقعدًا من الـ٥٤ المخصصة لإسبانيا. وقد عبّر “بيدرو سانشيز” (رئيس الوزراء الإسباني) عن أمله في بناء تحالف من أنصار الاتحاد مع برلين وباريس.