لا ينبغي لأي مراقب يتابع عن كثب تطورات ما يجري في منطقة الخليج العربي من توترات تفجرت عقب الاعتداءات التي جرت في ميناء الفجيرة، والطائرات المسيرة التي غارت على مواقع سعودية، وُجّهت على إثرها أصابع الاتهام لقوات الحرس الثوري الإيراني، ووكلائه المحليين في المنطقة، فضلًا عن عبور حاملة الطائرات الأمريكية “إبراهام لينكولن”، وقطع عسكرية أمريكية أخرى؛ أن ينظر لها باعتبارها فصلًا جديدًا من الحرب الكلامية المتبادلة، والشحن الذي يعمد إلى الخطابات التعبوية بين الولايات المتحدة وإيران، وليست بداية لاندلاع حرب عسكرية، تحسمها المعارك الميدانية.
تبدو مدونة السياسة عمومًا، والأمريكية خاصة، ضالعة في العمل بشكل غير مباشر، وتتجلى تلك المهارة في كيفية إلقاء كرات اللهب المشتعلة، وترك نيرانها تعمل في المحيط المستهدف، والزمن المطلوب، والهدف الدقيق، حتى يتسنى لها الانتقال للمرحلة التالية، وحين ذلك تبدو كرات اللهب وقد بدت رمادًا.
تصاعد وتيرة التهديدات المتبادَلة
وثمة ارتباط عضوي بين تلك الحالة وما بدت عليه الأمور بين الولايات المتحدة وإيران خلال الأشهر الأخيرة، والتي تمثلت في تصاعد وتيرة حرب التهديدات في الأسابيع القليلة الماضية، حتى أعلنت واشنطن أنها لا ترغب في إشعال فتيل الحرب، بينما ترغب فقط في ردع طهران، وتهذيب سلوكها.
وفي المقابل، وصف المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي” في تصريحات رسمية في منتصف مايو الجاري، أن المفاوضات مع الولايات المتحدة تبدو “كالسم”، وأضاف أن طهران وواشنطن لا تسعيان للحرب.
بيد أن الرئيس الإيراني “حسن روحاني” ذكر في تصريحات صحفية في 23 مايو من العام الجاري، أن بلاده لن تستسلم للضغط الأمريكي، كما لن تتخلى عن أهدافها حتى إذا تعرضت للقصف. وفي سياق متصل بتصاعد التوتر بين طهران والولايات المتحدة، نقلت الوكالة الإيرانية للأنباء عن “روحاني” نبرة تجييشية تستعيد خطاب “المقاومة”، وعناصره التعبوية تجاه المجتمع المحلي الإيراني، حيث قال: “نحتاج للمقاومة حتى يعلم أعداؤنا أنهم إذا قصفوا أرضنا، وإذا استشهد أطفالنا، أو أصيبوا، أو اعتقلوا؛ فلن نتخلى عن أهدافنا من أجل استقلال بلادنا وكبريائنا”.
مناورة إيرانية
يشي الخطاب السياسي الإيراني، بأن طهران تدرك جيدًا أن المطلوب منها الخضوع لجملة من الاعتبارات السياسية في المنطقة، وأن ذلك سيحدث عبر الضغط عليهم للجلوس مرغمين عبر طاولة التفاوض.
بيد أن إيران تمارس هي الأخرى ما تراه ضروريًّا وحتميًّا للمناورة على تلك الأهداف، ومحاولة الالتفاف عليها بأقل الخسائر الممكنة، فضلًا عن سعيها للاستفادة من تلك الضغوط السياسية، وما ينتج عنها من عقوبات اقتصادية للسيطرة على الأزمات والتعقيدات الداخلية المأزومة، في ظل حالة الاحتجاج المتصاعدة شعبيًّا منذ نهاية العام قبل الماضي وحتى اليوم، في معظم المدن الإيرانية.
وقد جاءت الاحتجاجات والمظاهرات ضد الفساد السياسي، والقضايا المجتمعية، والتفاوت الطبقي، فضلًا عن المطالب الحقوقية الخاصة بالمرأة والشباب والمجتمع المدني، وفساد النخبة الدينية والحوزوية التي جرى مهاجمتها والنيل منها، للمرة الأولى، في تلك المظاهرات، والهتاف ضدها، والاعتداء على مقراتها الخاصة، باعتبارها تتستر على النخبة السياسية ومتحالفة معها.
وترتّب على مشاكل المجتمع الإيراني المتراكمة والمعقدة، رفع سقف شعارات التحدي والعداء الزائف، ضد واشنطن وتل أبيب، من جانب النظام الإيراني، لحسابات براجماتية، تؤدي دورها الوظيفي، لصالح هيمنة ونفوذ قوات الحرس الثوري الإيراني، وتدعيم مكانتها وشرعيتها وأدوارها، محليًّا وإقليميًّا، بالإضافة إلى ما تمثله من قوة ونفوذ في الداخل، مثل قيامها بقمع المظاهرات والاحتجاجات ورموز المعارضة.
وهو الأمر الذي تستطيع أن توجزه بأن ثمة إدراكًا لتطويع المواقف السياسية لصالح الأيديولوجيا ببراجماتية كاملة تصب في رصيد نظرية “ولاية الفقيه”، وما تمثله من إطار مغلق وجامد، يقبض على المجتمع الإيراني، ويحكم رؤيتها الشمولية في مناطق نفوذها بالشرق الأوسط.
سياسة أمريكية متشددة
دأبت الولايات المتحدة منذ ولاية الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على أن تبعث برسائلها الخشنة نحو إيران. إذ تمثلت تلك الرسائل في عدم الرضا الأمريكي عن تحليق طهران خارج الأدوار المرسومة، وبعيدًا عن حدود المطلوب والآمن، والخروج عن قواعد واعتبارات ما يقتضيه دور لاعب ثانوي في منطقة الشرق الاوسط.
فقبل نحو عام أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني، وذلك في كلمة له من البيت الأبيض. وقال ترامب: “أعلن اليوم انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني”. وأضاف في كلمته: “من الواضح أننا لن نستطيع منع إيران من تصنيع قنبلة نووية بهذا الاتفاق ذي البنية الضعيفة”.
كما انتقد “ترامب” سياسة سلفه “باراك أوباما” الذي أبرم مع طهران الاتفاق النووي، واعتبر أن إتمام ذلك الاتفاق كان خطأ كبيرًا. وقد عبّر مرشد الثورة الإيرانية “علي خامنئي”، خلال خطبة وسط عدد من الطلاب في الثاني والعشرين من مايو 2019، عن استيائه من الطريقة التي عقد بها الرئيس الإيراني “حسن روحاني” وفريقه الاتفاق النووي في عام 2015.
ومن ثم، توعّد “ترامب” إيران بفرض حزمة عقوبات اقتصادية “على أعلى مستوى”، بينما هدد الدول التي تدعم مشروع طهران النووي بنفس العقوبات من قبل واشنطن. وعندما أعلنت الأخيرة تلك العقوبات منحت استثناءات لثماني دول بمواصلة استيراد النفط الإيراني، ومنحتهم مهلة حتى مايو الجاري، للعثور على بديل، تجنبًا للعقوبات الأمريكية.
وفي أبريل الماضي، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية رسميًّا الحرس الثوري الإيراني على لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وهذه هي المرة الأولى التي تصنف فيها واشنطن رسميًّا قوة عسكرية في بلد آخر بجماعة إرهابية.
وعن تلك الخطوة، أكد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في بيان أنها “غير مسبوقة” وتؤكد “حقيقة أن إيران ليست فقط دولة ممولة للإرهاب، بل إن الحرس الثوري ينشط في تمويل الإرهاب والترويج له كأداة حكم”. مضيفًا أن هذا الإجراء يسمح بزيادة “الضغط” على إيران، والذي كان إجراء تصعيديًّا، في وقت استعدت فيه الولايات المتحدة لمرحلة جديدة من العقوبات، والضغوط على النظام الإيراني، مع اقتراب نهاية الاستثناءات النفطية الممنوحة لثماني دول، وذلك في النصف الأول من مايو الجاري. ولهذا ينسجم تصنيف الحرس الثوري مع حملة العقوبات المتدرجة، التي تقودها إدارة “ترامب” تجاه إيران بهدف تعديل سلوك النظام.
وبرغم تلك العقوبات وزخم حرب التهديدات فيما بين واشنطن وطهران؛ إلا أن القرار الأهم في مسيرة الأزمة بين طهران واشنطن، تجلى واضحًا عندما أعلن “دونالد ترامب” في منتصف ديسمبر 2018 انسحاب القوات الأمريكية من سوريا.
في تلك اللحظة بدا للحكومة الأمريكية أن ثمة فراغًا آخر تتركه واشنطن في الشرق الاوسط، خاصة بعد سقوط نظام البعث في العراق، ونظام طالبان في أفغانستان، وذلك لصالح طهران التي تتحرك خارج الحدود المقررة، وأن طهران في سبيلها لبلع ما يتسنى لها من جغرافيا سياسية، تقيض لها اكتمال الهلال الإيراني على منطقة الشرق الأوسط.
تمدد النفوذ الإيراني
وفي المحصلة، بدت شهور عام 2011 مخيفة في منطقة الشرق الأوسط، التي تحتفظ باستقرار أنظمتها السياسية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، على إثر اندلاع ما عرف بـ”ثورات الربيع العربي”، ولكن دفعت وتيرة الأحداث التي تتنامى منذ عام 2005 إلى سقوط بعض الأنظمة العربية؛ في تونس، والقاهرة، وليبيا، واليمن، بينما اشتعلت سوريا وأضحت ساحة للصراع بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، مما أتاح لطهران تحديدًا النظر لحجم التغير في الشرق الأوسط بكثير من الاهتمام، باعتباره حدثًا مركزيًّا في مستقبل المنطقة، وعليها التحرك جديًّا لاقتناص أكبر فائدة ممكنة.
وإلى ذلك، بدت الأحداث في سوريا كاشفة لرد الفعل الإيراني تجاه أحداث المنطقة، ففي حين وصفت طهران ما حدث في القاهرة وتونس وصنعاء بأنه “صحوة إسلامية”، هاجمت ما حدث في سوريا، ورأت أن الثورة فيها لا تملك شرعية الثورات العربية الأخرى، وأعادت طهران إنتاج خطاب الدولة السورية من خلال مقولات الفتنة، وقوى الممانعة، والمخطط الخارجي، والعمالة.
على خلفية ذلك عملت طهران على تعزيز تواجدها داخل أربع عواصم عربية؛ بغداد، بيروت، صنعاء، دمشق، وبإشراف كامل من الحرس الثوري الإيراني و”قاسم سليماني” الذي تواجد بنفسه ميدانيًّا في مواقع القتال المحررة وبين بعض الفيالق التي أشرف على تكوينها، ولا سيما فيلق “فاطميون” و”زينبيون”.
وقد عملت إيران منذ اللحظة الأولى على تثبيت أقدامها داخل الأراضي السورية، عبر آليات الدعم المالي والسياسي والعسكري الذي قدمته في صورة مستشارين عسكريين، ثم الحضور الفعلي من خلال قوات الحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس، وميليشيات مذهبية من عدة دول جنّدتهم من المهاجرين الأفغان بصورة كبيرة وملحوظة.
وبحسب تصريحات إيرانية، فقد ذهبت طهران إلى أن سوريا تعد واحدة من أهم المحافظات الإيرانية، وإذا سقطت فإن ذلك سيعني سقوط طهران بالضرورة. وتأتي تصريحات أخرى لتعبر عن رؤية المصالح الإيرانية بلغة الأيديولوجيا؛ إذ وصفت الدفاع عن سوريا بـ”الدفاع المقدس”، وأنه من الصعوبة بمكان حصر المنافع الاستراتيجية لإيران في سوريا.
وثمة تصريح آخر لافت صدر في منتصف مايو 2014، إذ قال “محمد إسكندري”، قائد الحرس الثوري في منطقة ملاير: “قتالنا اليوم في سوريا هو قتال ضد أمريكا على التراب السوري، وأكد وجود 42 لواء و138 كتيبة مجهزة لقتال العدو”.
وقد ارتكزت طهران على عدة سرديات قدمتها للشعب الإيراني، استندت فيها للأيديولوجيا كثيرًا، عندما تحدثت عن استهداف العتبات المقدسة في سوريا، وضرورة التعبئة لحمايتها، وأن الشيطان على عتبات التغول داخل إيران، مما يحلحل ثوابت الأمن القومي الإيراني، الأمر الذي يفرض عليهم الصمود لمواجهتهم. كما عبّرت تصريحات لمسئولين أن المقاتلين في سوريا ليسوا إيرانيين، وهو صحيح بشكل جزئي، لكن يجري الترويج له للتقليل من وطأة التدخلات الخارجية على الداخل الإيراني المستنفر ضد ذلك.
بيد أن النقطة الأخطر في مسألة سوريا داخل العقل الإيراني، هي حجم الثقل والقوة الذي يمثله حزب الله اللبناني في المشروع الإيراني؛ إذ تعتبر طهران حزب الله النموذج الأبرز والأنجح عقائديًّا وتنظيميًّا وسياسيًّا، ويتلاقى ذلك فعليًّا مع الرواية التي تقول إن “قاسم سليماني” أكد للعميد “حسين همداني” الذي قتل في سوريا ضرورة موافقة “السيد حسن نصر الله” على خطة التدخل الإيراني في سوريا، فضلًا عن خطر حقيقي سيواجهه حزب الله إذا سقطت سوريا. وبذلك نستطيع أن نتفهم القول بأن سقوط سوريا يعني تهديدًا مباشرًا لاستقرار طهران، والتي لا تبدو مجرد جملة دعائية أو مجازية!
في تلك السنوات التي تلت عام 2011، بدا العالم العربي مهلهلًا، وتوارت قيادات دول عربية عُرفت بأدوارها المركزية في علاقاتها مع الغرب، وواشنطن تحديدًا، وبدت طهران مستقرة وآمنة، وعلى استعداد تام لتأدية دورها كلاعب هام ومركزي، مما تبلور في عهد الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” من خلال التعاون في مكافحة الإرهاب وإتمام الاتفاق النووي.
خلال ذلك كله جرى نوعٌ من الاحتفاء الإيراني رسميًّا بنشاطاتها في الداخل العراقي، واليمني، والسوري، مرات ومرات، وتردد اسم القائد العسكري “قاسم سليماني”، وفيلق القدس، على ألسنة الجميع، بينما ظهر جليًّا تفاعل العامل الديني “حماية العتبات المقدسة” لصالح العامل السياسي داخل الشرق الأوسط، من أجل هدف واحد ومحدد، سبق وأشار إليه “الخميني” خلال هبوطه من طائرته في طهران أول مرة بعد عودته من باريس: “إن الأتراك حكموا هذه المنطقة لقرون، والعرب حكموا هذه المنطقة لقرون، وحان الوقت للفرس أن يحكموا هذه المنطقة لقرون طويلة”.
وتُعد روسيا الاتحادية من أبرز اللاعبين الرئيسيين في سوريا، وعضّدت موقف نظام “بشار الأسد” كثيرًا خلال السنوات الماضية، من خلال عمليات عسكرية مباشرة استهدفت مواقع المعارضة، وحصدت موسكو ثمن ذلك حين أبرمت اتفاقًا مع دمشق لتأجير ميناء طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط لمدة تسعة وأربعين عامًا، في خطوة تبدو فيها موسكو تبسط يدها على جميع مفاصل الدولة السورية اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، ولا يُمكن النظر نحو تلك الخطوة بعيدًا عن أن فيها تحرشًا بالمصالح والمطامع الإيرانية في سوريا.
بيد أن طهران هي الأخرى تنظر إلى ميناء اللاذقية باعتباره جسر ولاية الفقيه عبر المتوسط، وذلك من خلال إنشاء قاعدة عسكرية بحرية في اللاذقية. وأن الرئيس السوري “بشار الأسد” قد أتم التوقيع على ذلك إبان زيارته لطهران في فبراير الماضي.
خلاصة القول، عملت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على تغيير قواعد اللعبة حتى يتسنى لها المرور بعيدًا عن صوت البارود، بممارسة أقصى درجات الضغط على النظام الإيراني، للانكفاء على طاولة المفاوضات، والاتفاق على شكل هيمنة طهران داخل منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما داخل الأراضي السورية، لما يمثله من خطر على استقرار إسرائيل.