للمرة الأولى منذ خمس سنوات ظهر زعيم تنظيم “داعش” “أبو بكر البغدادي”، يوم الاثنين 29 أبريل 2019، في فيديو نشره التنظيم المتطرف عبر قناته على تطبيق “تليجرام”، بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين”! وقد أظهرت الصورة أن “البغدادي” بصحة جيدة، ولا يزال يتبعه قيادات وأعوان ردًّا على ما أُذيع حول الانقسامات داخل التنظيم أو أنه قُتل. ورغم ثبات الكلمات التي تلفّظها “البغدادي” فقد كانت نظراته زائغة، وزاوية التصوير ثابتة تقريبًا، ويبدو إجراء مونتاج للكلمة الأصلية، حيث كان يتم القطع ثم استئناف الحديث. وبالطبع كان السلاح مكوِّنًا أساسيًّا في الصورة.
وقد أراد “البغدادي” إرسال عدة رسائل عبر كلمته التي أُذيعت خلال 18 دقيقة تقريبًا، وكان أبرز هذه الرسائل ما يلي:
أولًا- إظهار النية لاستمرار العمليات النوعية التي يقوم بها التنظيم، وأن تراجع التنظيم في الشام منتهيًا بالباغوز في سوريا لا يعني انتهاءه، ومن ثمّ تحديد الهدف الأساسي لمعركة التنظيم في المرحلة القادمة، وهو “الاستنزاف”، فقد قال: “إنهم يعملون على إثبات قدرتهم على امتلاك زمام المبادرة في معركة استنزاف للعدو، استنزاف لمقدراته البشرية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية.. استنزاف في كل شيء.. فالمعركة اليوم هي استنزاف ومطاولة للعدو، فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة”. هذا الاستنزاف والتوسع في الخسائر التي يمكن أن يسببها التنظيم للخصم ثأرًا للإخوان الذين هُزموا في العراق والشام. وهنا أشار “البغدادي” إلى أن العمليات الثأرية قد بدأت في 8 دول بواقع 92 عملية موجهة ضد الصليبيين، تزامنًا مع احتفالات المسيحيين بعيد القيامة المجيد. ويدلل بهذا العدد الضخم من العمليات على استمرار التماسك الداخلي للتنظيم، ووحدة هدفه.
ثانيًا- ربط العمليات التي يقوم بها الجهاد ومحاربة الدول له بذكرى الحروب الصليبية، فقد اعتبر أن معركته مع الدول المكافحة للإرهاب هي معركة بين المسلمين والصليبيين. وتكرر هذا الربط مع توصيته بتوجيه العمليات ضد فرنسا “الصليبية” وحلفائها. وربما خصّ فرنسا بالذكر بعد تصريحات “ماكرون” المهاجِمة للإخوان المسلمين مؤخرًا. كذلك، فإن التركيز على الاختلاف الديني والتركيز على الصليبيين جاء لكسب تعاطف البعض وإثارة غيرتهم على الإسلام.
ثالثًا- اهتم “البغدادي” بتكريم عناصره والدعاء لهم بعد أن قام بتسمية بعض القيادات التي قُتلت في سوريا، وفي معركة الباغوز تحديدًا، سواء من المقاتلين الانغماسيين، أو من فرسان الإعلام (كما أطلق عليهم)، أو من أعضاء الهيئة الشرعية. والأسماء التي ذكرها كثيرة، لكن الملفت فيها الألقاب. فقد اهتم بإظهار الجنسيات المتعددة لعناصره، فمنهم: “أبو هاجر عبدالصمد العراقي الطالبي”، و”أبو وليد السيناوي”، و”أبو مصعب الحجازي”، و”أبو عبدالله الأسترالي”، و”أبو جهاد الشيشاني”، و”أبو أنس فابيان الفرنسي”، و”أبو ياسر البلجيكي”، وغيرهم. الرسالة الواضحة وهي التأكيد على الانتشار، والقدرة على تجنيد أصحاب الجنسيات المختلفة.
رابعًا- التأكيد على الاستمرارية أيضًا ظهر في أمرين؛ أولهما مباركة بعض العمليات في ليبيا وسيريلانكا والسعودية (الزلفى) لتأكيد ارتباط هذه العمليات بالتنظيم، واستمرار قدرته على الفعل. وثانيهما بانضمام تنظيمات محلية للتنظيم ومبايعة خليفته، سواء في إفريقيا (بوركينافاسو، ومالي) أو آسيا (انضمام أحزاب وجماعات لولاية خراسان).
خامسًا- الدعوة للانضمام للتنظيم، وتبني منهجيته في الجهاد، والاعتماد على العنف في كلٍّ من السودان والجزائر بعد أن تخلّصا من حكامهما الطواغيت، كما ذكرهم بدون أسماء، مع ملاحظة أنه أشار إلى فوز “نتنياهو” برئاسة وزراء إسرائيل مؤخرًا دون توجيه أية توصية لعناصره بالعمل ضد إسرائيل. وقد ربط هذه الدعوة بالإشارة إلى جهل الشعوب الثائرة، وعدم معرفتها الصالح.
سادسًا- بعد كلمة “البغدادي” استمر الفيديو بنشيد ملحن للتنظيم يؤكد اتّباعهم “البغدادي”، واستمرارهم في الجهاد، والتأكيد على التماسك، والعزم على الجهاد العنيف، لكن ما كان ملفتًا أن الصورة المصاحبة لهذا النشيد كانت لعدة ملفات يستلمها “البغدادي” من مساعده، وكل ملف يحمل اسم ولاية من الولايات التي أعلنت ولاءها لـ”داعش” أو التي يعمل أو ينوي أن يوجه عملياته إليها. وأظهرت الكاميرا عمدًا أسماء الولايات التالية: ولاية اليمن، والصومال، والقوقاز، وأخيرًا تركيا، وبالتالي فإن هناك محاولة لتبرئة تركيا من التعاون مع التنظيم، سواء في سوريا أو في ليبيا مؤخرًا.
سابعًا- أن توقيت إذاعة الفيديو يرتبط بالاستراتيجية الجديدة التي يتبناها التنظيم، والتي عُرفت باسم “خلايا التماسيح”، وهي نهج أقرب إلى عمليات “الذئاب المنفردة”، وهو مصطلح يشير إلى توظيف مجموعة الخلايا النائمة التابعة للتنظيم التي تعمل تحت الأرض على هجمات من وقت لآخر على معاقل وأهداف يحددها قادة التنظيم لهؤلاء. وقد تم الكشف عنها في إحدى الوثائق السرية التي تم العثور عليها عقب مواجهات بين عناصر من التنظيم والقوات الحكومية بشمال شرق سوريا في مارس الماضي، حيث تشير إلى عدة استراتيجيات حول خطط التنظيم الجديدة التي يسعى إليها، والتي تتمثل في زيادة الهجمات الإرهابية عبر عدة أشكال، سواء عبر “الذئاب المنفردة” أو عبر دعم مقاتليه العائدين من بؤر الصراع إلى بلدانهم، وتفجير المركبات، والاغتيالات، واختراق الحواسيب، وهي خطط قد يتبعها تنظيم “داعش” مستقبلًا.
وتعتمد هذه الاستراتيجية في الأساس على ما يُعرف بـ”مكتب العلاقات الخارجية لدولة الخلافة”، والذي تتمثل مهمته في تمويل هذه الخلايا، وإنشاء ما يعرف بـ”مكتب العلاقات الخارجية لإدارة العمليات بأوروبا”، ومن خلاله سيتم دعم هذه الخلايا الجديدة التي تقوم وفقًا للرسالة بالهجوم على “أعداء دولة الخلافة” وأخذ أموالهم وإرسالها إلى “دولة الخلافة”، واغتيال كل شخص يشكل تهديدًا “لدولة الخلافة” أو لخليفتها أيًّا كان.
وتقوم فكرة هذه الخلايا على “رعاية” العائدين والموالين للتنظيم في أوروبا، لأن لديهم النية في تنفيذ عمليات لنصرة التنظيم خارج سوريا والعراق، وتجهيز أشخاص انتحاريين على صناعة المتفجرات وتفجير المركبات وتدريبهم على الخطف، ودعم قراصنة التنظيم عبر مواقع الإنترنت وتدريب المزيد منهم. ويؤكد ذلك ما نُشر عبر منصات “داعش” الإعلامية مؤخرًا من دعوات بضرورة تكثيف العمل على استهداف بعض الحسابات الإلكترونية. وقد وافق “والي ولاية البركة” التابع للتنظيم على تنفيذ هذه الخطة منذ يناير 2019 شرط أن يرسل هؤلاء إلى المناطق المحددة بالتفجيرات والهجوم.
و”خلايا التماسيح” استراتيجية تقوم على استهداف القارة الأوروبية أولًا بهذه الخلايا، وتطبيقها بعد ذلك في الكثير من المناطق حول العالم، حيث تشير الوثائق إلى أن هناك خلايا بالفعل أُنشئت في مناطق أوروبية وفي روسيا. ويُرجَّح أن هذه الخلايا مكونة من التنظيم المبايع “لداعش” في شمال روسيا والمسمى تنظيم “ولاية القوقاز”.
وتأكيدًا على هذا الاتجاه، أعلنت أجهزة الاستخبارات البريطانية تلقيها معلومات بشأن مخططات لتنظيم “داعش”، بهدف تنفيذ هجمات في بريطانيا وأوروبا عبر ما يعرف باسم “خلايا التماسيح”، خاصة بعد الربط بين منفذي هجوم سيريلانكا وتعليمات صادرة لهم من داعشي بريطاني كان في سوريا.
أوروبا مستهدفة بعمليات متفرقة، خاصة أماكن العبادة؛ لكن الثأر الذي يُغلف كلمة “البغدادي” يُنذر بتطور نوعي في العمليات، وانتشار لها في آسيا وإفريقيا والمنطقة العربية، وليس فقط في أوروبا.