أُقيمت انتخابات البرلمان الأوروبي يوم 23 مايو الماضي، ولمدة ثلاثة أيام، في 28 دولة أوروبية، تُمثّل دول الاتحاد الأوروبي، ذلك المشروع التكاملي الأكبر الذي يواجه صعوبات منذ أكثر من عقد، وتحديدًا منذ تسرعه في ضم أعضاء جدد من أوروبا الشرقية. وقد تفاعلت تلك الصعوبات مع عوامل أخرى لتخلق وضعًا سمح بصعود غير مسبوق للتيارات الشعوبية وبتمدد أفكارها في أوروبا، وكان البريكست أبرز انتصاراتها.
وبدايةً، يُمكن القول إن “المزاج العام” الأوروبي يزداد تشاؤمًا مع تراكم الأزمات؛ حيث تخبّط خروج بريطانيا من الاتحاد، ووجود العديد من التهديدات الإقليمية، ولا سيما في الشرق والجنوب، وتزايد حدة الاستقطاب السياسي والفكري والمجتمعي. فهناك شبه اتفاق على وجود هوية أوروبية، ولكن هناك من يرى أن مشروع الاتحاد الأوروبي هو جزء من المشكلة، بينما يرى آخرون فيه جزءًا من الحل. ولهذا كانت الانتخابات الأوروبية سؤالًا عن مدى إيمان الأوروبيين بمشروعهم، وعلامة فارقة على المستوى الداخلي لعديد من الأحزاب المتباينة في رؤيتها للاتحاد، وتمهيدًا في بعض الأحوال لما يمكن أن يحققوه على مستوى انتخاباتهم القومية بعد ذلك.
معلومات أساسية
البرلمان الأوروبي هو إحدى المؤسسات الأربع الرئيسية التي تُدير عمل الاتحاد الأوروبي، وهي: المجلس الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوروبي، ومجلس الاتحاد الأوروبي. ويُعد المؤسسة الوحيدة المُنتخبة بشكل مباشر من الأوروبيين. ويمارس البرلمان الحق في الرقابة على مختلف مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ويشارك في سن القوانين بالتعاون مع مجلس الاتحاد، والمصادقة عليها، ويصدق على ترشيح المفوضين وكذلك رئيس المفوضية، ويشرف على عملية تعيينه منذ البداية، ويمتلك حق سحب الثقة منه. وحاليًّا تتم الموافقة على تعيين رئيس المفوضية من الائتلاف ذي الأغلبية الحاكمة. ويُشارك البرلمان في وضع ميزانية الاتحاد وهو الذي يقرها.
وتمت إقامة أول انتخابات للبرلمان الأوروبي في 1979. ويُنتخب كل 5 سنوات، والانتخابات الحالية هي التاسعة في تاريخه. ويتكون البرلمان من 751 مقعدًا يتم توزيعها بالتناسب مع عدد السكان بحد أقصى 96 مقعدًا للدولة الواحدة وحد أدنى 6 مقاعد. وتملك ألمانيا أكبر عددٍ من المقاعد بواقع 96 مقعدًا، تليها فرنسا 74 مقعدًا، وإيطاليا وبريطانيا 73 مقعدًا، أما مالطا وقبرص ولوكسمبورغ وإستونيا فلا تحوز إلا 6 مقاعد لكل منها. وبخروج بريطانيا من الاتحاد سيتم تخفيض عدد مقاعد البرلمان إلى 705 مقاعد، حيث سيتم توزيع جزء من مقاعدها على دول كفرنسا وإيطاليا وهولندا، وسيُلغى الجزء الباقي.
انتخابات مختلفة عن سابقتها
في عام 2014 صوّت 43% فقط ممن لهم حق التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو الأقل منذ بداية تأسيس البرلمان، ولكن نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية بلغت 51% وهي النسبة الأعلى منذ عشرين عامًا. وهناك العديد من الأسباب الدافعة لهذا الإقبال على التصويت المتعلقة بالأحداث التي حدثت منذ انتخابات 2014، ويُعد أبرزها:
أولًا- فسر البعض نتيجة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد بعزوف شرائح مهمة كالشباب عن التصويت لعدم توقعهم مثلَ تلك النتيجة، مما دفع الكثيرين لإقامة حملات تدعو لعدم التكاسل عن المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي لقدرتها على تغيير النتائج.
ثانيًا- غياب الإجماع (في الماضي كان هناك شبه إجماع على الجمع بين الرأسمالية ودولة رفاه تشرف على إعادة التوزيع)، وتزايد الاستقطاب حول عدد من القضايا، ووصول العديد من الأحزاب الشعبوية للحكم في إيطاليا وبولندا والمجر، وارتفاع تمثيل اليمين المتطرف في دول مثل ألمانيا وإسبانيا، ونجاح تلك القوى في فرض اهتماماتها على الوسط السياسي وعلى جدول العمل والجدل المجتمعي، وإثارة قضايا الهجرة واللاجئين، وفشل سياسات الاتحاد في حل القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ورفض أسلوب عمله واعتباره سببًا لتراجع الدول.
ثالثًا- فشل خروج بريطانيا، ووجود العديد من المهدِّدات الدولية (التهديد الروسي بالنسبة لدول شرق أوروبا، وتراجع دعم الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لحلف الناتو، وحربه الاقتصادية ودعمه للتيارات اليمينية التي ترغب في تفتيت الاتحاد، والصعود الصيني المهدِّد لقيم الاتحاد). بالإضافة إلى بروز اهتمامات مغايرة لتلك التي تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة والأحزاب التقليدية الكبرى، كقضايا البيئة وتغير المناخ. وهذا ما انعكس في زيادة تمثيل الأحزاب الليبرالية والخضر المهتمة بتلك القضايا في البرلمان الحالي.
رؤية الأوروبيين لمشروع الاتحاد الأوروبي
وفقًا لاستطلاع رأي جديد قام به المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في شهر أبريل الماضي على 60 ألف مصوت في 14 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وجد أن دعمهم لمشروع الاتحاد الأوروبي هو الأعلى منذ عام 1983، حيث يرى ثلثا المصوتين أن الاتحاد كان جيدًا لبلادهم.
ولكن على الجانب الآخر، وُجد أنه توجد أغلبية في كل الدول -باستثناء إسبانيا- تعتقد أن الاتحاد يمكن أن ينهار خلال العقدين القادمين، حتى إن البعض يعتقد أن هذه قد تكون آخر مرة يصوتون فيها في انتخابات البرلمان الأوروبي. بالإضافة إلى اعتقاد 28% من المصوتين بأن الحرب ما بين دول الاتحاد ممكنة، ووصلت النسبة إلى 50% بين الشباب. وهذا يعكس حالة التشاؤم والخوف المسيطرة على الأوروبيين اليوم.
وعلى عكس ما يتم تسويقه بأن قضية الهجرة هي المحور الأوحد المؤرق للأوروبيين والمحفز لهم، وجدت الدراسة أنه برغم أن قضية الهجرة تظل الأعلى في الأهمية لدى المصوتين للأحزاب المعادية للتكامل الأوروبي مع التخوف من “الإسلام الراديكالي”؛ إلا أنه على جانب آخر شاركهم المصوتون المؤيدون لمزيد من التكامل التخوف من “الإسلام الراديكالي”، إلى جانب تنامي المد القومي كمهددٍ وليس الهجرة. وكان الاقتصاد مبعث تشاؤم كبير لدى المصوتين، حيث رأت الأغلبية أن أحوالهم ستكون أحسن مما قد يتاح لأولادهم.
بالإضافة إلى كل هذا، نجد تقارير من جهات استخباراتية تم الإعلان عنها عن احتمالية التدخل الروسي في الانتخابات، والذي يعتمد على نشر أخبار تعمق من الاحتقان المجتمعي لإضعاف الجبهات الداخلية، ولخلق حالةٍ من التشكيك في البرلمان الأوروبي بما يضعفه ويمهد لوصول الأحزاب المعادية له والصديقة لموسكو. ولكن يُعد التدخل الروسي أضعف من تدخله في الانتخابات الأمريكية أو الفرنسية الأخيرة لعدة أسباب، أهمها التخوف من زيادة سلسلة العقوبات المفروضة عليها، فضلًا عن أن أجندة الأحزاب المناوِئة للاتحاد ليست موحدة تجاه موقفها من روسيا، فدول شرق ووسط أوروبا تجد موسكو المهدد الأكبر لها عكس دول مثل إيطاليا.
دلالات نتائج الانتخابات
عزّز ما سبق من حالة التخبط والخوف التي تسيطر على بيئة الناخبين الأوروبيين، ولكن كان ذلك حافزًا كبيرًا لنزولهم وتحقيقهم نتائج تعكس هذا الاستقطاب. فنجد أن الأحزاب المؤيدة لأوروبا من الكتل التقليدية، مثل: حزب الشعب الأوروبي الممثل ليمين الوسط، والاتحاد التقدمي للاشتراكيين الديمقراطيين الممثل ليسار الوسط، نجد أن هاتين الكتلتين اللتين سيطرتا على الأغلبية في البرلمان الأوروبي لفترة طويلة قد فقدتها هذه المرة. وبذلك كُسرت هيمنتهم على تمرير سياساتهم، إذ بدت عاجزة، واتسم فكرهم بالتقليدية والمحدودية، ولم يقدموا خطابًا يتفهم تخوفات الناخبين، ويرد على تساؤلاتهم مما سمح للأحزاب المناوئة للاتحاد بزيادة تمثيلها منذ انتخابات عام 2014.
ولكن على جانب آخر، زاد تمثيل الأحزاب الليبرالية والخضراء هذه المرة، وهو ما يُثبت اهتمام الأوروبيين بما هو أكثر من قضايا الأحزاب التقليدية، وأن زيادة تلك النسبة سيمسح لتلك الأحزاب بالعمل على فرض أجندتها، وعلى تكوين كتلة قادرة على تمرير القضايا التي تهدف لإصلاح الاتحاد وتوسيع نطاق اهتماماته.
وسيضطر حزبا الشعب الأوروبي والاتحاد التقدمي إلى التحالف مع الخضر والليبراليين لتكوين أغلبية لتعيين الرئيس الجديد للمفوضية. ونرجح أن الحزبين الكبيرين سيبذلان الجهد لإرضاء ناخبي تلك الأحزاب وكسب أصواتهم.
ومن الصعب التنبؤ بشكل أداء هذا البرلمان الذي لا توجد فيه أغلبية طبيعية، والذي يعاني من محدودية نسبية لصلاحياته وإن زادت مؤخرًا في وقت تعاني فيه أوروبا من مشكلات بنيوية صعبة الحل حتى وإن توحدت الصفوف، ولكن الخطر والإحساس به قد يفرضان نوعًا من التركيز والهمة للعمل على حلها في البرلمان الأوروبي القادم.
ولكنّ نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة تثير جملة من التساؤلات التي تحتاج لإجابات عليها خلال الأيام القادمة من قبيل: هل ستنجح الأحزاب المعادية لليمين الشعبوي في التنسيق معًا لفرض إصلاحات تطمئن الناخب، أم ستضيع وقتًا في المناورات وتسجيل المواقف والتشاجر؟