بعيداً عن الصخب الدائر حول الاستقبال «الإعلامى» لوصول هشام عشماوى إلى أرض مصر فى حدث أقل ما يمكن أن يوصف به هو «التاريخى»، وبعيداً عمن كان يجب أن يكون هناك، أو ما كان ينبغى أن يقال فى هذا السياق، أو عما كان يتوجب أن يدور فى تلك الدقائق التاريخية الحاسمة القليلة جداً، التى كان من شأنها أن تظل محفورة فى أذهان الملايين، والتى كان يمكنها أن تصبح رسالة أقوى من آلاف الكلمات ومئات التصريحات وعشرات المؤتمرات، نتوقف قليلاً لنستقى الدروس ونتعلم ولو القليل.
القليل آخذه من على صفحة الخبير عن حق صاحب الكلمات الموزونة بميزان الذهب العميد خالد عكاشة، مدير المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، كلمات قليلة كتبها مبشراً بالحدث الكبير: «عاجل. اليوم. الإرهابى هشام عشماوى فى قبضة السلطات المصرية. شكراً وفخراً بجهاز المخابرات العامة المصرية. شكراً ودعماً للجيش العربى الليبى فى حربه الشريفة على الإرهاب».
كلمات لا مجال فيها للهراء، أو مساحة بها للاستظراف، أو وقت متاح للدق على المجاز أو تجربة فنون الإبداع فى الكلام الذى قد يصيب وعلى الأرجح يخيب، هناك مواقف لا ينبغى أن يسمح فيها بالمجازفة، وفرص لا يصح أبداً إهدارها مهما كانت الأسباب، ومن ثم فإن فرصة البناء على هذا الحدث الضخم لا ينبغى أن تمر مرور الكرام، بل ينبغى أن تتحول حالة يتدرب عليها العاملون فى الإعلام، والدارسون لفنونه، والمهتمون بشئونه والقائمون على أمره.
ومكونات التدريب ومحتواه بالغة الثراء، فبدءاً بجاهزية فريق كامل من الإعلاميين للتعامل مع خبر عاجل جلل سواء فى الاستوديو أو فى مكان الحدث بمهنية ودون لت أو عجن، ومروراً بالاستعداد المعلوماتى والذهنى والنفسى لتطور الحدث وربطه بأحداث أخرى دون تكلف أو ادعاء أو استعلاء وانتهاء بالجاهزية للتعامل مع المزيد من الأحداث بينما تتطور، يمثل حدث وصول هشام عشماوى علامة فارقة فى طريق استعادتنا لبعض مما فقدناه من قدرة إعلامية ومهارة مهنية فى التعامل مع الأحداث.
وفى التعامل مع الأحداث، تقف الألفاظ والمسميات والنعوت لتشكل أهمية كبرى ومعياراً للمهنية وطريقاً نحو المصداقية الإعلامية، وكم علمتنا مؤسسات إعلامية غربية الكثير عن المسميات، فهل هؤلاء محاربون من أجل الحرية؟ أم مقاتلون من أجل الاستقلال؟ أم عصابات إجرامية؟ وهل من قاموا بتلك العملية استشهاديون أم انتحاريون أم إرهابيون؟ وهل من يمتلك السلاح ويستخدمه فى مواجهة جيش وطنى مسلح أم مقاوم أم منشق أم بطل أم خائن؟ تعلمنا أن تكون المسميات وبقدر الإمكان بعيدة عن النعوت ذات الإيحاءات السلبية أو الإيجابية قدر الإمكان.
لكن ليس فى الإمكان تطبيق مثل هذه المعايير فى ظل أوضاع ملتبسة ومقلوبة رأساً على عقب كتلك التى نعيشها فى كنف «الربيع العربى»، والسبب لا يكمن فقط فى انهيار شبه تام لمصداقية من تعلمنا منهم، حيث فوجئنا بتحول «مسلحين يستخدمون السلاح لقتل المدنيين والعسكريين» إلى «متمردين»! وصدمنا لنجد رفضاً شبه كامل لتوصيف رغبة ملايين المصريين فى التخلص من إمارات الدولة الدينية الإخوانية بأنه «انقلاب عسكرى على أول رئيس منتخب أتت به الصناديق، ووجدنا أن ميليشيات تنهش الأرض السورية تحت مسميات دينية موصوفة باعتبارها «المعارضة السورية المعتدلة»، وليس علينا التنقيب كثيراً فى أغوار المصداقية المهنية والدقة العملية، فلدينا من الأمس القريب وسيلة إعلامية غربية لها مكانتها ومصداقيتها تصف عشماوى باعتباره «المعارض البارز»، ورغم الاعتذار، إلا أن المسمى الجديد تحول إلى «المتشدد البارز».
عموماً، فإن كل ما سبق لا يعنى بأى حال من الأحوال أننا أكثر مهنية أو أعتى مصداقية، لكن -وكما يقول المثل العبقرى- لا تعايرنى ولا أعايرك فالهم طايلنى وطايلك، وما تسبب فيه تفجر ماسورة التوك شو على قنواتنا على مدار السنوات القليلة الماضية، وما آلت إليه الأوضاع من تحول هذه البرامج إلى صياح وتهليل وهبد على الطاولات ووصلات شرشحة وفرد لملايات المعايرات والتنابزات وفتح الساحات وإفراد المساحات لتهديد هذا بـ«سى دى» فضائحى وإنذار ذاك بقصص شخصية، البعض فعلها ربما بوازع وطنى، أو باجتهاد شخصى أو ما إلى ذلك.
لكن المؤكد أن هذه السيولة، وتلك العشوائية تستمر فى إلقاء ظلال وخيمة وتكبدنا خسائر كبيرة سواء من حيث ثقة المتلقى المصرى فيما يبث، أو مصداقيتنا الإعلامية بين بقية الدول. ولتكن العطلة البرامجية فى شهر رمضان فرصة لتصحيح بعض الأوضاع، والاستفادة من درس الاستقبال الإعلامى لهشام عشماوى، ونعاود بناء فرق إعلامية مجهزة ومدربة، وذلك بعيداً عن مبدأ الصوت الواحد والتوجه الأوحد لنواكب العصر وننافس كما نستحق.
نقلاً عن جريدة الوطن بتاريخ 31 مايو 2019