بخلاف ما تبعثه عملية استلام القاهرة للإرهابي “هشام عشماوي”، في 29 مايو 2019، من الجيش الوطني الليبي، من رسالة ردع للجماعات الإرهابية بأن اليد المصرية ستطالها مهما طال الوقت، وحتى لو كانت خارج الحدود؛ إلا أن تزامن توقيت العملية مع خوض الجيش الليبي معركة طرابلس ضد ميليشيات حكومة الوفاق، منذ قرابة الشهرين، يكتسب دلالة أعمق بالنسبة لفهم أبعاد وأهداف السياسة المصرية تجاه الأزمة الليبية.
فلئن كانت تلك العملية تعزز التعاون الأمني بين القاهرة والجيش الوطني الليبي؛ إلا أنها تشير -على جانب آخر- إلى أن طبيعة الرهان المصري على بناء مؤسسة وطنية عسكرية لمنع البيئة الميليشياوية الليبية التي توظفها جماعات الإرهاب، تبدو أكثر فعالية في حماية أمنها القومي، لا سيما وأن “عشماوي”، الذي كان قد اعتُقل خلال تطهير الجيش لمدينة درنة في أكتوبر 2018، لم يتورط في عمليات إرهابية في الداخل المصري فحسب، وإنما ارتبط بكيانات إرهابية ليبية.
معادلة مصرية حاكمة
يبدو ذلك الرهان المصري حاكمًا تجاه أزمة ليبيا منذ ثورة 2013، إذ صاغت القاهرة معادلة تجاه الأزمة، مفادها أن بناء مؤسسات الدولة الوطنية ينبغي أن يتوازى مع الحلول السياسية التوافقية بين المتنازعين، وهي معادلة امتدت تجاه مناطق الصراعات في الإقليم، خاصة سوريا واليمن بعد الثورات العربية في 2011، حيث ركزت القاهرة على منظور استعادة الدولة الوطنية، كونها تُعد شرطًا مهمًّا ضد حدوث فوضى أو عدم استقرار أو استغلال فواعل مسلحة دون الدولة، سواء أكانت إرهابية أم مناطقية أم مرتزقة.
على أساس تلك المعادلة، برزت أربعة أهداف مصرية تجاه ليبيا:
الأول- منع انتقال تهديدات الإرهاب، وتهريب السلاح، وتدفق الهجرة، من ليبيا إلى مصر عبر الحدود الغربية المشتركة، خاصة في ظل مواجهة القاهرة لإرهاب داخلي في سيناء والصحراء الغربية يتغذى على السلاح والفوضى في ليبيا.
الثاني- دعم عملية بناء مؤسسات الدولة الليبية، خاصة المؤسسة العسكرية، كي تكون حارسًا وضامنًا للاستحقاقات السياسية، خاصة أن الانتقال الليبي شهد تعثرًا سياسيًّا بسبب التأثيرات الميليشياوية في إفساد مراحل ما بعد انتخابات 2012 و2014.
الثالث- تحجيم تدخلات القوى الإقليمية والدولية في الداخل الليبي، والتي قد تُشكل أوراقًا ضاغطة على مصالح مصر في ملفات ثنائية وإقليمية أخرى، في ظل هيمنة منطق التشابك والمقايضة المصلحية للأدوار بين أزمات المنطقة، ناهيك عن تداخل أزمة ليبيا مع أزمات الجوار الإفريقي والشرق الأوسط، بسبب طبيعة التهديدات العابرة للحدود من إرهاب وهجرة وجريمة منظمة.
الأهم من ذلك، أن الدولة المصرية تواجه في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير نطاقًا جغرافيًّا من التهديدات الإقليمية المتداخلة في محيطها الحيوي. ذلك أن الفواعل الخارجيين الساعين للنفوذ والتأثير في أزمة ليبيا يشتبكون في الوقت نفسه مع المصالح المصرية في أزمات أخرى في غزة والسودان، وسوريا واليمن أو نطاقات مصلحية مصرية جيو اقتصادية برزت في السنوات الأخيرة، خاصة في البحرين الأحمر والمتوسط.
على سبيل المثال، لا يمكن عزل تحويل تركيا لمعركة طرابلس إلى حرب وكالة صريحة ومعلنة عبر دعم ميليشيات حكومة الوفاق بالأسلحة عن الصراع الإقليمي مع القاهرة في ملفين رئيسيين؛ أولهما: اكتشافات الطاقة في البحر المتوسط، وثانيهما: المواجهة المصرية ضد تنظيم الإخوان الإرهابي الذي تدعمه تركيا، ناهيك عن مكافحة تمويل الإرهاب، والذي كان سببًا في نشوء مقاطعة رباعية (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين) لنظام الدوحة في يونيو 2017. بل إن استقرار ليبيا، خاصة في منطقتها الجنوبية، يحد من التأثيرات السلبية على أزمة دارفور في غرب السودان، لا سيما وأن هناك حركات دارفورية مسلحة انخرطت في الصراعات الداخلية في ليبيا.
وبالتالي، فإن امتلاك القاهرة دورًا مؤثرًا في الأزمة الليبية يُعزز قدراتها الداخلية والخارجية على مواجهة التهديدات وتحقيق مصالحها، سواء كانت في الملف الليبي أو الملفات المرتبطة معه في المنطقة، كما يتيح أيضًا لها وضعًا دوليًّا مواتيًا لمصالحها الخارجية، خاصة مع القوى ذات الرؤية المتقاربة لها نسبيًّا للأزمة الليبية، مثل فرنسا والولايات المتحدة، لا سيما إذا علمنا أن هاتين القوتين الأخيرتين تنظران بدورهما لارتباط مصالحهما في ليبيا بمنطقة الساحل الإفريقي على أساس ترابط تهديدات الإرهاب والميليشيات والهجرة.
الرابع- تأمين الحضور الاقتصادي والاستثماري المصري في مرحلة إعمار ليبيا، بحكم طبيعة الارتباطات الاجتماعية والاستثمارية بين البلدين المتجاورين، إذ يمكن القول إن مصر تضررت اقتصاديًّا من الفوضى وعدم الاستقرار في ليبيا بعد “القذافي”، إثر تراجع التبادل التجاري، وانخفاض أعداد العمالة المصرية في السنوات الثماني الماضية، بعدما كانت تربو على المليونين ونصف المليون عامل مصري في ليبيا وفقًا لبعض التقديرات، خاصة مع بروز عمليات اختطاف من قبل الميليشيات المسلحة، بخلاف قتل بعض المصريين على يد جماعات الإرهاب مثل “داعش”.
في ضوء تلك الرؤية، سعت القاهرة إلى تفعيل أدوات متعددة لسياساتها تجاه الأزمة الليبية، على عدة أصعدة، سواء عبر دعم جهود توحيد المؤسسة العسكرية الليبية خلال عامي 2017 و2018، أو بناء توافق مع دول الجوار الإقليمي الليبي حول دعم جهود الاستقرار والتسوية السياسية في أزمة ليبيا، كما بدت فاعلًا إقليميًّا في الجهود الدولية حول تسوية أزمة ليبيا، كما برز في مؤتمر باليرمو بإيطاليا في نوفمبر 2018، والذي أقر بيانه الختامي جهود مصر في مسار إعادة بناء المؤسسة العسكرية.
بموازاة ذلك، مارست القاهرة سياسة الردع لجماعات الإرهاب، فلم تتردد من قبل في توجيه ضربة جوية عسكرية لمعاقل تنظيمات الإرهاب في درنة، ردًّا على مقتل 20 مواطنًا مصريًّا على يد “داعش” في منتصف فبراير 2015. كما لم تتردد أيضًا في ملاحقة العناصر الإرهابية خارج أراضيها، كما برز في عملية تسلّم الإرهابي “عشماوي” وحارسه.
القاهرة ومعركة طرابلس
في هكذا سياقات، جاءت الخطوط العامة لموقف القاهرة تجاه معركة طرابلس. فمن جهة، تمسكت مصر بمواصلة دعم الجيش الوطني الليبي في محاربة الإرهاب والميليشيات، كما برز خلال استقبال المشير “حفتر” في القاهرة مرتين التقى فيهما الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” خلال شهري أبريل ومايو 2019. ومن جهة ثانية، توافقت القاهرة مع التوجهات الدولية والأممية حول عدم وجود حلول عسكرية للأزمة الليبية ودعم الحل السياسي، كما برز في بيان للخارجية المصرية في الرابع من أبريل 2019، بالتزامن مع نشوب معركة طرابلس. وتأكد ذلك الموقف المصري في قمة الترويكا ورئاسة لجنة ليبيا في الاتحاد الإفريقي في القاهرة خلال شهر أبريل 2019، حيث أكد “السيسي” على مكافحة مخاطر الإرهاب والتدخلات الخارجية في ليبيا، وتمكين الجيش والشرطة من ممارسة وظائفهما في حفظ الأمن ومكافحة الميليشيات، حتى يتوافر مناخ لدعم المسار السياسي يُفضي إلى انتخابات تستعيد فيها البلاد مقومات الشرعية.
ولا يُشكّل دعم القاهرة جهود كلٍّ من الجيش الوطني والتسوية السياسية في ليبيا -في آنٍ واحد- تناقضًا للموقف المصري إذا نظرنا إلى اعتبارين جوهريين في ديناميات الأزمة الليبية:
الأول- أن معضلة التسوية السياسية منذ اتفاق الصخيرات المتعثر في 2015 وحتى 2019، تكمن في أنها لا تولي اعتبارًا لموازين القوى في الواقع، فالجيش الليبي حاز خلال تلك السنوات كلًّا من الشرق والجنوب، بخلاف غالبية النفط، لكن -في المقابل- تحدث حالة تساوٍ سياسي على المائدة التفاوضية مع حكومة الوفاق، لمجرد حيازة الأخيرة اعترافًا أمميًّا. وهو ما يجعل نتائج أي تفاوض سياسي غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، حيث عادةً ما كان الفرقاء اللييبون يُصدرون تصريحات حول ضرورة إنهاء الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، كما في أبو ظبي في أواخر فبراير 2019، ولكن ما إن يعودوا إلى بلدانهم حتى يلجئون للأداة العسكرية، كونها الأكثر حسمًا لقواعد اللعبة السياسية.
الثاني- أن الانقسام الدولي حول وقف النار في معركة طرابلس عكس في طياته تململًا من أن التفاوض بين الفرقاء الليبيين في الأزمة لم يؤدِّ إلى نتائج مرجوة لإنهاء التعثر الانتقالي لهذا البلد، حيث لم تؤتِ خطة المبعوث الأممي في سبتمبر 2017 أو يناير 2019 أُكُلها في رأب الانقسام بين الشرق والغرب. ولعل هذا ما يفسر نسبيًّا أن القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، كانت قد غضت الطرف في السنوات الماضية عن تمدد سيطرة الجيش الوطني من الشرق إلى الجنوب وحيازته غالبية النفط، وإن مارست ضغوطًا عليه لتحويل إيراداته إلى البنك المركزي في طرابلس، والذي للمفارقة يمول الميليشيات المسلحة. ولعل ذلك التململ انعكس في التطور اللافت في السياسة الأمريكية تجاه ليبيا إبان معركة طرابلس، عندما تواصل الرئيس “ترامب” مع “حفتر” في أبريل 2019، داعمًا إياه في معركته ضد الإرهاب وتأمين النفط، على الرغم من موازنة وزارة الخارجية الأمريكية لذلك الموقف بالدعوة لوقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات.
وعليه، فمن الممكن تفسير الدعم المصري المتزامن للجيش الوطني والتسوية السياسية بأنه ينطلق من أهمية إيلاء الأخيرة أهمية لتوازنات القوى على الأرض، والتي جعلت هنالك ميلًا واضحًا للجيش الوطني كمؤسسة عسكرية نظامية تهيمن على غالبية الأراضي الليبية، بخلاف منع تأثير الميليشيات على القرار السياسي بل والاقتصادي، وكذلك تحجيم القوى الخارجية مثل تركيا التي باتت الشواهد العديدة تثبت دعمها لحكومة الوفاق بالسلاح بحرًا، بينما تقف القوى الأوروبية صامتة أمام إنفاذ حظر السلاح في ليبيا، برغم وجود سفنها في البحر المتوسط.
مصر ومسارات طرابلس
السؤال المهم: إلى أي مدى تؤثر مسارات معركة طرابلس على مصالح وأهداف مصر في ليبيا؟ هنا، يمكن القول إن تلك المعركة تتراوح مساراتها ما بين سيطرة الجيش الليبي على طرابلس كاملًا، أو اقتسام السيطرة مع ميليشيات حكومة الوفاق، خاصة أن الجيش حاز نقاط قوة ميدانية في محيط طرابلس تمكنه من الضغط على حكومة الوفاق لفترة زمنية أطول، أو تعرض الجيش الوطني لمعارك خلفية استنزافية خاصة في منطقتي الوسط والجنوب.
ويصب المسار الأول في صالح أهداف ومصالح السياسة المصرية في ليبيا، حيث يحجم مخاطر وتهديدات الفوضى الميليشياوية وجماعات الإرهاب، ويحول الجيش الليبي إلى المؤسسة العسكرية المركزية بما يساعد في توفير بيئة أمنية للاستحقاقات السياسية، فضلًا عن تحجيم القوى الإقليمية، خاصة تركيا وقطر في غرب ليبيا. وعلى العكس، فإن المسار الثالث قد يزيد المخاطر أمام السياسة المصرية تجاه ليبيا، في ظل مخاوف تسرب عناصر إرهابية إلى الداخل المصري، والذي كان قد أطل بوجهه ثانية إبان معركة طرابلس، خلال شهري أبريل ومايو 2019، إثر هجمات تبناها تنظيم “داعش” في كل من سبها جنوب غرب ليبيا، وبلدة الفقهاء في الجفرة وسط ليبيا.
أما المسار الثاني، أي اقتسام السيطرة على طرابلس بين الجيش الليبي وميليشيات حكومة الوفاق، فهو يتضمن هو الآخر فرصًا وتحديات للسياسة المصرية في ليبيا، وإن كانت أقل من السيناريو الأول، وأكثر من الثالث. فمن جهة، يزيد قوة الجيش حال العودة التفاوض السياسي كونه امتلك نقاطًا ميدانية في نطاق طرابلس ستضاف لحيازته للشرق والغرب وورقة النفط في موازين القوى.
لكن في المقابل، قد يفتح ذلك المسار الباب لتحديات أخرى من قبيل: احتمال بروز اتجاه لدى بعض القوى الغربية للحث على بناء قوة أمنية موازية للجيش الوطني في المنطقة الغربية إذا توقف إطلاق النار، أو قد تظهر سيناريوهات تهديدية بتقسيم ليبيا قد توظفها بعض القوى في غرب ليبيا للضغط على عملية التفاوض السياسي المحتمل، وهو أمر لا يصب في مصالح مصر ولا في مصالح ليبيا، أو المنطقة ككل. بل إن المشير “حفتر” كان قد انتقد بشدة المبعوث الأممي “غسان سلامة” كونه حذر من هكذا سيناريوهات في إفادته لمجلس الأمن في 21 مايو 2019، إذ اعتبر “حفتر” أن “سلامة” منحاز ويروج لسيناريوهات تقسيمية وأنه لن يسمح بذلك.
وعليه، فإن نواتج معركة طرابلس تمثل أهمية قصوى للسياسة المصرية في ليبيا، حيث إن هذا البلد لا يمثل فقط مجالًا لمكافحة الإرهاب وردعه كما تجلى في تسليم الإرهابي “العشماوي”؛ وإنما أيضًا مواجهة تهديدات أخرى من قوى إقليمية داخل ليبيا باتت تهدد مصالح مصر في ساحات أخرى تحيط بالنطاق الحيوي للدولة المصرية.