تلعب المنظمات الحقوقية أدوارًا مهمة في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته العامة. وتُفيد تقاريرها في هذا الشأن الدولَ والشعوبَ من أجل ترقية هذه الحقوق، وتحقيق الرفاه والكرامة الإنسانية. وتكتسب هذه المنظمات مصداقيتها وتأثيرها الفاعل في تحقيق أهدافها من مدى التزامها في عملها بمجموعة من المبادئ، أبرزها الحيدة وعدم التسييس، فضلا عن أهمية الالتزام بقواعد المهنية والموضوعية. لكن الواقع العملي يشير إلى عدم التزام بعض هذه المنظمات بهذه القواعد بشكل صارم.
ورغم الخبرة التاريخية المهمة التي اضطلعت بها منظمة “هيومن رايتش ووتش” في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان على المستوى العالمي، إلا أن تقريرها الأخير الصادر في أواخر مايو الماضي حول حقوق الإنسان والعمليات الجارية في سيناء ضد العناصر والتنظيمات الإرهابية تضمن عددا من المغالطات، بدءا من التكييف القانوني لتلك العمليات، وهو ما سنحاول في هذا المقال تفنيده استنادا إلى قواعد ومبادئ القانون الدولي المستقرة.
تكييف قانوني خاطئ
لقد أخطأت منظمة “هيومن رايتش ووتش” عندما وصفت العمليات الجارية ضد التنظيمات الإرهابية في سيناء بأنها “نزاع مسلح داخلي”، ذلك أن أي باحث في القانون يعلم جيدا أن هناك مجموعة من العناصر القانونية والوقائع المادية الواجب توافرها للزعم بوجود نزاع مسلح داخلي داخل إقليم أي دولة ذات سيادة. يأتي في صدارة هذه العناصر والوقائع أن تُقر الدولة وفق إرادتها الحرة بصفة المحاربين الشرعيين للجماعات السياسية المعارضة للدولة، حتى يصح القول بوجود “نزاع مسلح داخلي” يخضع لأحكام القانون الدولي الإنساني (قانون النزاعات المسلحة)، حتى تُعامل هذه الجماعات معاملة المحاربين الشرعيين.
هذا الشرط المهم بات شرطا مستقرا، على الأخص في القانون الإيطالي (المادة 242 في فقرتها الأخيرة)، وبه أخذت المادة 85 من قانون العقوبات المصري، حيث تقضي هذه المادة بضرورة الاعتراف من الجمهورية نفسها ولو ضمنيًّا، ولا يكفي في ذلك معاملة أو اعتراف دول أخرى لهذه الجماعات بتلك الصفة، لأن الاعتراف له أثره فقط بالنسبة للدولة التي يصدر عنها هذا الاعتراف.
إن سيطرة ومباشرة سلطات مماثلة لسلطات الدولة على جزء من إقليم الدولة بواسطة “الجماعات المسلحة المتمردة ضد الدولة” يُعد أيضًا شرطًا لازمًا للقول أو القضاء بوجود نزاع مسلح داخلي في إقليم الدولة. والراسخ والثابت في الحالة المصرية، وتحديدًا في شبه جزيرة سيناء ومنذ ثورة يونيو 2013، لم تسيطر أي من التنظيمات المُدَّعَى تمردها ضد الدولة المصرية على بوصة واحدة من سيناء ولو لبرهة من الزمن. وقد انتصرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لهذا الرأي عندما رفضت الدعوى التي أقامتها جماعة الإخوان الإرهابية في عام 2015 ضد عدد من القيادات المصرية بعد ثورة يونيو، حين أشارت المحكمة إلى أنها خلُصت إلى أن حزب الحرية والعدالة الممثل للجماعة الإرهابية لا يسيطر على أي جزء من إقليم الدولة المصرية، وأن السلطات القائمة حينئذ هي السلطات الشرعية المعترف بها لدى منظمة الأمم المتحدة.
مصر تُعيد توطين السكان في سيناء وقايةً لهم
لقد ميّز القانون الدولي بين النقل القسري (إحدى الجرائم ضد الإنسانية) بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وبين إعادة التوطين للسكان المدنيين حماية لأرواحهم وممتلكاتهم في حالات الضرورة والخطورة الملحة مثل حالات الحروب أو الظروف الاستثنائية مثل الإرهاب، أو لحمايتهم من آثار الكوارث الإنسانية المميتة. وأساس الممايزة يتأسس دومًا، وفي سائر الأحوال، على الأهداف التي تُنجز أعمال النقل من أجلها.
فإذا سعت الدولة لتجنّب كارثة إنسانية كما في حالة وجود بركان شديد الانفجار، أو حالة الكارثة النووية كتلك التي حلت باليابان في عام 2011، أو كما حدث في مناسبات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية للوقاية من مخاطر الأعاصير الكارثية المميتة؛ ففي هذه الحالة يُعد نقل الدولة للسكان عملًا مشروعًا حتى ولو كان قسريًّا، شريطة أن يكون هذا الإجراء مؤقتًا ينتهي بانتهاء أسبابه.
ولم تكلف المنظمة نفسها عبء البحث القانوني، وعبء دراسة البواعث الأمنية التي حدت بالدولة المصرية لاتخاذ التشريعات والقوانين السيادية الداخلية التي تهدف لإعادة توطين بعض سكان المناطق المتاخمة للحدود في سيناء وقاية لهم من الأخطار المحدقة بأرواحهم والمحيقة بممتلكاتهم من قوى الإرهاب.
بل إن هذا التوجه من جانب الدولة المصرية لم يقتصر على سيناء ومنطقة الحدود الشرقية، فقد أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القرار الجمهوري رقم 444 لسنة 2014، بشأن تحديد المناطق المتاخمة لحدود جمهورية مصر العربية، لتأمين المناطق المتاخمة للحدود الغربية والجنوبية والشرقية للجمهورية، ما يعني أن الأمر لم يقتصر على المنطقة الحدودية الشرقية لمصر، بل امتد ليشمل أيضًا الحدود الغربية والجنوبية، في إطار إضطلاع الدولة المصرية بمسئولية حماية مواطنيها من المخاطر والتهديدات المختلفة، وعلى رأسها خطر الإرهاب.
وهناك العديد من السوابق التاريخية والدولية المهمة في هذا الإطار، أبرزها -على سبيل المثال- قيام رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” أثناء الحرب العالمية الثانية -في ظل سيل قنابل القاذفات الألمانية ضد المدن البريطانية- بإجلاء الآلاف من الأطفال البريطانيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. من ذلك أيضا قيام الولايات المتحدة بعد هجوم “بيرل هاربر” الأشهر أثناء الحرب العالمية الثانية بنقل مائة ألف أمريكي من أصل ياباني إلى شرق جبال الروكي، وتسكينهم واحتجازهم في مستعمرات مخصصة لهم، تَوَقّيًا وتحرّزًا من تعاونهم مع دولتهم الأصلية اليابان.
لقد أغفلت المنظمة أن نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي دخل حيز النفاذ عام 2002 بيّن أن إبعاد السكان أو النقل القسري يعني “نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يتواجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون أي مبررات قانونية يسمح بها القانون الدولي”. وهكذا، فإن التعريف الذي قدمته المحكمة الجنائية الدولية يفسح المجال أمام إمكانية إجلاء سكان من أماكم إقامتهم في حالة وجود مبرر يسمح به القانون الدولي. وهنا نقول أيضا أن العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية للأمم المتحدة لعام 1966 رخص للدول أطراف هذا العهد، وفي حالات الحرب والظروف الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، أن تلجأ الدولة الطرف في هذا العهد إلى تقييد بعض الحقوق والحريات ولفترة مؤقتة لحين زوال هذه الظروف المهدِّدة لحياة الأمة.
أي إخفاء قسري؟
من ناحية أخرى، زعمت المنظمة أن السلطات المصرية ترتكب ما اسمته جريمة الإخفاء القسري ضد بعض المصريين ممن وسمتهم المنظمة بنشطاء حقوق الإنسان المعارضين للنظام المصري.
هنا نقول إن المحكمة الجنائية الدولية عرّفت جريمة الإخفاء القسري في نظامها الأساسي بأنها: “إلقاء القبض على أي أشخاص أو احتجازهم واختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم، بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة”.
ولا يتّسع المقام هنا لعرض وتحليل كافة الفقرات الثماني من المادة السابعة المحدِّدة لأركان وعناصر جريمة الإخفاء القسري كجريمة ضد الإنسانية، لكن لابد من الإشارة أن المادة المشار إليها تشترط أن يرتكب السلوك المكون لجريمة الإخفاء القسري كجزء من هجوم واسع أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، وأن يعلم مرتكب الجريمة أن هذا السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك من ذلك الهجوم، وهو ما لا يتحقق في الحالة المصرية على الإطلاق.
***
خلالصة القول إذن إن التقرير الأخير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” حول حالة حقوق الإنسان في مصر لا يتأسس على بحث قانوني رصين، ولا ينهض إلى قراءة دقيقة وموضوعية لقواعد ومبادئ القانون الدولي ذات الصلة. كما لا يقوم على قراءة للخبرات الدولية، بما فيها الأوروبية والأمريكية، والتي أشرنا إلى نماذج منها. كل ذلك قاد إلى وقوع المنظمة في تكييفات قانونية خاطئة لاضطلاع الدولة المصرية بمسئولياتها في الحرب على الإرهاب داخل إقليمها، ومسئولياتها تجاه حماية مواطنيها.