الدولة المصرية والموقف الرسمى لها من الأحداث التى تجرى، منذ شهور، بالسودان الشقيق، دولة الجوار الأهم، عبر عن نفسه بقدر رصين ومقبول إلى حد بعيد، رغم مساحات التشابك والتعقيد الذى التبس المشهد منذ لحظاته الأولى. الرصانة تمثلت فى التعبير عن سياسة رشيدة فى التعاطى مع الحراك الشعبى السودانى، الذى طالب منذ اللحظة الأولى برقبة النظام السابق، وهو النظام الذى ارتكب بحق مصر العشرات، إن لم يكن أكثر مما يمكن وصفه، بما هو ليس مرضيًا ولا فى صالح الدولة المصرية، قبل أن يكون متفقًا مع طبيعة الجوار التاريخى. ورغم ذلك كانت القاهرة الرسمية على درجة رفيعة من التعقل، وأحالت الأمر برمته لرغبة الشعب السودانى وحده، له أن يقرر إزاحة حكم الإنقاذ أو الإبقاء عليه والرضا ببعض من الإصلاحات.
عندما طال أمد الاحتجاجات الشعبية، ومرت أسابيع وشهور كى تتشكل قيادات وغرف عمليات تستقر بأقدامها على أرض الخرطوم العاصمة، وتمتد أذرعها الإعلامية عبر الفضاء الإلكترونى ومنصات المتابعة الخبرية. كان هناك بعض من الهمسات التى تدور على استحياء، تحاول أن تنسب لمصر شكلًا من أشكال الدعم تقدمه للرئيس المعزول، عمر البشير، على خلفية تحسن ملحوظ لآليات العلاقة ما بين البلدين بدا مؤخرًا تلمُس بعض من ملامحه. وكانت هذه الهمسات والتأويلات هى أول فهم مغلوط للموقف المصرى، الذى لم يقدم للبشير فى أيامه الأخيرة أيًا من أشكال الدعم، رغم أن القاهرة فعلًا بذلت جهدًا كبيرًا خلال أعوام مضت فى محاولة لتفكيك معادلة الاحتقان، التى ظلت تشوب العلاقة مع هذا النظام الذى لم يُخف وقوفه فى محور مضاد تمامًا للمصالح المصرية. وكان ما يشبه النجاح المقبول فى ذلك هو سبب إلقاء هذا الاتهام من قِبل بعض الأشقاء فى السودان، وكثير من الأصوات المصرية التى استنكرت على مصر تعقلها، فى عدم الخوض أو دعم إزاحة «محطة رئيسية» من محطات المشروع الكبير لحكم الإخوان.
لكن فى تلك المحطة الزمنية، التى طالت قليلًا، كان هناك أمر غريب يتشكل على جانب آخر من الصورة، وهو أن التغطيات الإعلامية المصرية القاصرة لهذا الأمر، مع حساسية التناول الرسمى للأحداث، كلاهما أسهما فى صناعة التباس كبير لدى الرأى العام المصرى الذى تابع أحداث التظاهرات، وعلق الكثيرون عليها بانطباعات ونبرة غلب عليها طابع العداء غير المبرر، ووقف منها موقف الضد دون فهم صحيح للأمور على حقيقتها، وافتقرت كثيرًا للمعلومات والقراءة المتعمقة فيما يمكن أن تؤول إليه الأحداث، وأين هى بالضبط بوصلة المصالح المصرية مما يجرى. ربما منذ تلك المحطة، وما تشكل فيها، تدحرجت كرة ملتبسة من الثلج، جزء منها كان هنا فى القاهرة وكثير منها تنامى فى السودان، التى لم تكن تحتاج، فى تلك اللحظة تحديدًا، المزيد من سوء الفهم فى ملف متخم بما فيه على مدار ثلاثين عامًا مضت وربما تزيد. لكن هذا ما جرى، وبمجرد سؤال واحد لأى من الأشقاء السودانيين أين تقف مصر؟ أو كيف ينظرون للشقيقة الافتراضية، فى لحظة التغيير الهائلة التى تعصف بوطنهم؟، حينها سنجد الإجابات تطيش فى اتجاهات عدة، معظمها إن لم تكن جميعها، ستذهب إلى ما لا يمكن توقعه، لكن هذا هو الواقع الذى لم يتقدم أحد بأدوار مطلوبة ربما لتصحيحه على الأقل!.
بالعودة إلى مصر الرسمية، ظل خطابها وبياناتها التى صدرت من القاهرة، هى المكون الرشيد الوحيد بالمشهد، لذلك حازت على درجة عالية من القبول، وهى تثمن ما أراده الشعب السودانى ممثلًا فى «قوى الحرية والتغيير» أو «تجمع المهنيين»، وظلت على تأييد كامل لما يطالبون به من مشروع إصلاحى، يُدخل السودان إلى مرحلة جديدة تعالج آثار ثلاثين عامًا من حكم «الإنقاذ». لم يلتبس الأمر على القاهرة فى هذا الشأن، ولم تسجل سوى تحفظ وخشية معلنة من انزلاق المشهد إلى الفوضى المسلحة، مما يضرب استقرار الدولة فى الصميم، ولهذا كانت حاضرة طوال الوقت فى التأكيد على أن الوصول بتوافق سياسى سريع لإدارة مرحلة انتقالية توافقية، ربما يجنب الوطن السودانى المثخن بالجراح والأزمات المزيد مما جرت الثورة عليه من قبل جموع الشعب. ويمكن القول بأن تداخل أطراف إقليمية أخرى، سارعت بالإيحاء أنها صانعة المشهد أو تملك مفاتيح التأثير الرئيسية عليه، قد أسهم فى التشويش قليلًا على المسعى المصرى، الذى لم يكن فى حالة منافسة مع أحد، ولم يكن يهمه سوى ما جرى الإفصاح عنه والتأكيد عليه.
فى طريق البحث عن إجابة جامعة عن سؤال عنوان المقال، الذى قد يكون التبس إدراكه من قِبل الكثير من السودانيين وثلة من المصريين، أدعو كليهما وأحيلهم جميعًا إلى البيان الأخير الصادر عن الخارجية المصرية، وبالمناسبة هو أول بيان صدر معلقًا على الحادث الأخير «فض اعتصام القيادة»، الذى سقط فيه ضحايا وصفهم البيان بـ«الشهداء». ورغم زحام التداعى الذى جرى بعده، إلا أن كلمات البيان الواضحة دعت «كافة الأطراف» إلى الالتزام بالهدوء وضبط النفس، وضرورة العودة إلى مائدة المفاوضات بهدف تحقيق «تطلعات الشعب السودانى»، كما أكد البيان «دعم مصر الكامل للسودان الشقيق، فى هذا الظرف الدقيق من تاريخه، ومساندتها الكاملة للجهود الرامية لتحقيق مستقبل أفضل لأبناء الشعب السودانى، يقوم على الاستقرار والتنمية ويحقق الرخاء والرفاهية». والقاهرة وهى تصيغ كلماتها بميزان دقيق تدرك تمامًا ما تقوله وهى باليقين تقصده تمامًا. فهى ترفض أيًا من الاتهامات العشوائية لطرف بعينه، بقدر ما تدرك أن هذه اللحظات مرشحة بطبيعتها الاستثنائية لأن يرتكب فيها من الأخطاء الواجب تجنبها سريعًا، والحرص على عدم التمادى فيها، بطريقة الفعل ورد الفعل.
هذه إجابة شافية من مصر الرسمية، ومن يرد بذل بعض الجهد فى الفهم والتعمق فى هذا الموقف الأخير، باعتباره حدثًا سيظل فارقًا فى عمر الثورة السودانية، سيجد بالغ الاهتمام المصرى حاضرًا وموجهًا بالدعم الكامل لمستحقيه، بحق الأخوة والمصير المشترك.
*نقلا عن صحيفة “الدستور”، نشر بتاريخ ٦ يونيو ٢٠١٩.