ارتكزت السياسة الخارجية التركية على دعم تيارات الإسلام السياسي في عددٍ من الدول العربية، خاصة في أعقاب أحداث 2011، وذلك بفعل الروابط الأيديولوجية التي تربط حزب العدالة والتنمية التركي بجماعات الإسلام السياسي في مختلف الدول العربية، ومحاولة تركيا تقديم نفسها كنموذج لدمج الإسلاميين في الحكم. غير أن هذه المحاولات لم تؤتِ ثمارها. ومع فشل تركيا في رسم صورة الدولة “النموذج”، اتجهت إلى دعم الفصائل المُعارضة والميليشيات المُسلحة في مناطق الصراع، إذ عمدت إلى تقديم الدعم المالي والعسكري واللوجيستي، فضلًا عن تمويل وتدريب عدد من العناصر في الصراع الدائر في سوريا وليبيا.
ويحاول هذا المقال الوقوف على طبيعة وحدود الدور التركي في دعم الميليشيات المُسلحة في ليبيا، والأسباب والدوافع وراء تبني أنقرة لهذا النهج.
لقد ظل الموقف التركي في ليبيا منذ اندلاع أحداث فبراير 2011، مرورًا بسقوط نظام “معمر القذافي”؛ داعمًا للتيارات الإسلامية والجماعات المُتطرفة، سواء من خلال تقديم الدعم لحزب العدالة والبناء (الذراع السياسية لجماعة الإخوان في ليبيا)، أو من خلال دعم ميليشيات طرابلس، وتحديدًا الجماعات المُسلحة المتمركزة في مصراتة غرب ليبيا، فضلًا عن تبني أنقرة نهجًا مُعارضًا لعملية الكرامة التي أطلقها الجيش الليبي عام 2014؛ إذ اختارت تركيا -آنذاك- دعم الميليشيات والكتائب الموالية لتحالف فجر ليبيا على حساب الجيش الليبي.
وفي ظل حالة الانقسام السياسي في ليبيا، قامت أنقرة بدعم حكومة الوفاق الوطني، إذ سعت إلى إضفاء الشرعية مبكرًا على حكومة “السراج”، وهو ما بدا واضحًا من خلال الزيارات المتبادلة بين الجانبين، حيث أعرب رئيس الوزراء التركي السابق “أحمد داود أوغلو” عن دعم وتأييد حكومة “السراج” خلال الزيارة التي قام بها الأخير لأنقرة (11 يناير 2016)، لافتًا إلى أن تركيا ستقف إلى جانب ليبيا بكل إمكاناتها. في الإطار ذاته، جاءت زيارة وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، إلى طرابلس (30 مايو 2016) في أعقاب تولي “فايز السراج” رئاسة حكومة الوفاق لتعبر عن هذا الدعم. كما جاءت خطوة إعادة فتح السفارة التركية في طرابلس (30 يناير 2017) بعد ثلاث سنوات من إغلاقها في 2014 لتصب في صالح الاتجاه القائم على دعم الإسلاميين في الغرب الليبي والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني.
بالتوازي مع ذلك، شكّل الموقف التركي من معركة طرابلس التي انطلقت في 4 أبريل 2019، مرحلة جديدة من مراحل مناهضة تركيا للدولة الوطنية الليبية ودعم الميليشيات المُسلحة؛ فقد أعرب “أردوغان” عن دعمه لحكومة الوفاق برئاسة “فايز السراج”، وذلك خلال اتصال هاتفي بين الجانبين في 28 أبريل 2019، حيث أكد “أردوغان” أن بلاده “ستقف بكل حزم إلى جانب الليبيين، وستدعم الحكومة الشرعية المتمثلة في حكومة الوفاق الوطني”، في دلالة واضحة لطبيعة الموقف التركي الداعم بشكل مُطلق ومستمر للجماعات والتنظيمات الإرهابية. فعلى الرغم من التأييد الإقليمي والدولي لعملية الجيش الليبي ضد ميليشيات طرابلس، إلا أن أنقرة اتخذت موقفًا مضادًا لموقف الجماعة الدولية التي أيدت عملية طرابلس من أجل القضاء على الجماعات والتنظيمات الإرهابية هناك.
حظر دولي.. وانتهاكات تركية
دعا قرار مجلس الأمن رقم 1970 لسنة 2011 كافة الدول الأعضاء بالأمم المتحدة إلى “منع بيع أو توريد الأسلحة وما يتصل بها من أعتدة إلى ليبيا، ويشمل ذلك الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية والمعدات شبه العسكرية وقطع الغيار“. كما صدر القرار رقم 2292 لسنة 2016 المُتعلق “بحظر توريد السلاح إلى ليبيا، وتفتيش السفن في عرض البحر قبالة سواحلها بالقوة”، وذلك في محاولة للتصدي لعمليات تهريب الأسلحة إلى ليبيا. وقد عبر مبعوث الأمم المتحدة لليبيا (في يونيو 2016) “مارتن كويلر” عن مدى خطورة انتشار السلاح في ليبيا، والذي أشار إلى أن “ليبيا تسبح في بحر من الأسلحة بوجود 20 مليون قطعة سلاح في هذا البلد الذي يسكنه ستة ملايين نسمة”.
ورغم كل ذلك، عملت أنقرة على دعم العناصر والميليشيات المُسلحة في ليبيا، وهو ما يُعد انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن. وقد اتخذ هذا الدعم عدة أشكال، يمكن إجمالها فيما يلي:
1- نقل وتوريد الأسلحة: عملت تركيا على نقل الأسلحة والمعدات العسكرية إلى الميليشيات المسلحة غرب ليبيا، خاصة في مصراتة التي تعتبر معقلًا رئيسيًّا للجماعات المتطرفة والمُسلحة، إذ يُشير عدد من التقارير إلى وجود نحو ستين كتيبة ولواء عسكريًّا، فضلًا عن نحو 30 ألف مقاتل مُدججين بالأسلحة والمُعدات. وقد ثبت في عدد من المناسبات تورط تركيا في نقل وتوريد الأسلحة للميليشيات المُسلحة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال عدد من العمليات، يأتي في مقدمتها قيام السلطات اليونانية بضبط سفينة تركية محملة بالأسلحة متجهة إلى ليبيا (سبتمبر 2015)، وضبط خفر السواحل اليونانية سفينة أخرى في يناير 2018. وقد أشارت بيانات تأمين السفينة -آنذاك- إلى أنه جرى تحميل ما عليها من مواد في ميناءَيْ مرسين والإسكندرونة التركيين. أضف إلى ذلك ضبط سفينة تركية في ميناء الخمس من قبل جمارك مطار بنينا في بنغازي (ديسمبر 2018)، محملة بنحو 3 آلاف مسدس تركي وبنادق وذخائر. كما وصلت سفينة “أمازون” التركية إلى ميناء طرابلس قادمة من ميناء سامسون التركي في مايو 2019، كانت مُحملة بنحو 40 مدرعة وعدد من الصواريخ والمدافع المضادة للطائرات، فضلًا عن أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية.
2- إيواء العناصر الإرهابية: أصبحت تركيا ملاذًا آمنًا لعدد من القيادات الليبية المُتطرفة والمتورطة في جرائم إرهابية، والمرتبطة بالجماعة الليبية المقاتلة. ومن بين هذه العناصر القيادي الإخواني “علي الصلابي”، المُدرج على قوائم الدول العربية للشخصيات والكيانات الإرهابية، حيث يستغل “الصلابي” تركيا في شن هجوم على الجيش الليبي، كما يتولى عملية عقد اجتماعات ولقاءات في تركيا لمساعدة الإخوان على العودة للمشهد في ليبيا مرة أخرى. كما تستضيف تركيا عددًا من القيادات المحسوبة على “مجلس شورى بنغازي”، وفي مقدمتهم “طارق بلعم”، و”أحمد المجبري”، حيث قامت السلطات البريطانية في نوفمبر 2017 بترحيلهما من أراضيها، ولم يجدا مكانًا يحتويهما آنذاك سوى تركيا. ناهيك عن استضافة أنقرة لعضو المؤتمر الوطني المنتهية ولايته “محمد مرغم” الذي يشن هجومًا دائمًا على الجيش الليبي وصل إلى حد أنه طالب في تصريحات له بضرورة تدخل تركيا عسكريًّا في ليبيا ضد الجيش. ومن هؤلاء أيضًا “محمد الزهاوي”، زعيم تنظيم أنصار الشريعة، الذي توفي أثناء علاجه في أحد المستشفيات التركية في يناير 2015 إثر إصابة بالغة تعرض لها في مواجهة مع الجيش الوطني الليبي.
3- نقل المقاتلين: لعبت تركيا دور الدولة “الترانزيت” فيما يتعلق بنقل المقاتلين من سوريا إلى ليبيا، خاصة العناصر التابعة لتنظيم جبهة النصرة، وهو ما عبر عنه اللواء “أحمد المسماري”، المتحدث باسم الجيش الليبي، والذي أكد “أن هناك خطوطًا مفتوحة من تركيا ومالطا جوًّا وبحرًا لدعم مجموعات طرابلس بالسلاح والمقاتلين”، مضيفًا أن هناك رحلات جوية مباشرة من تركيا إلى مصراتة لنقل مسلحين من “جبهة النصرة”. وفي وقت سابق، نجحت الإدارة العامة لمكافحة الإرهاب التابعة للجيش الليبي في مارس 2018 في القبض على 16 مقاتلًا من “جبهة النصرة” كانوا قد تسللوا من سوريا إلى ليبيا. وقد كشفت التحقيقات أن أحد هذه العناصر كان محتجزًا في سوريا قبل تهريبه وإرساله إلى تركيا، في دلالة على دور تركيا في توفير ممر آمن لنقل المقاتلين والجهاديين من سوريا إلى ليبيا.
4- توفير المنصات الإعلامية: وفرت تركيا عددًا من المنصات الإعلامية والقنوات الفضائية للتحريض على الجيش الوطني الليبي، وهو ما أشار إليه اللواء “أحمد المسماري” (في يناير 2019)، حيث أكد أن “أنقرة لا تدعم الإرهاب في ليبيا بالأسلحة فقط، بل تقوم بتأجيجه إعلاميًّا، بعد أن أصبحت قاعدة إعلامية تحتضن أراضيها عددًا من القنوات الليبية التابعة لعناصر متطرفة وجماعات إرهابية تكن العداء للدولة، وتقود الفوضى في ليبيا وترعى الإرهاب داخلها”. ومن بين هذه القنوات والمنصات “شبكة الرائد الإعلامية” التي تأسست في سبتمبر 2015، ويديرها “إسماعيل القيراتلي” الذي وُضع على قائمة الإرهاب التي أصدرها مجلس النواب الليبي عام 2017، فضلًا عن قناة “التناصح” التي يديرها “سهيل الغرياني” نجل “الصادق الغرياني”. وتعتبر القناة من أشد القنوات تحريضًا وتطرفًا، حتى إنها وُضعت ضمن قائمة الكيانات الإرهابية التي أعدتها الدول العربية. أضف إلى ذلك قناة “ليبيا الأحرار” التي انطلق بثها من الدوحة قبل أن تنتقل إلى إسطنبول عام 2017. ويدير هذه القناة القيادي الإخواني “علي الصلابي”. ناهيك عن عدد من المنصات الإلكترونية المناهضة للدولة الليبية ومؤسساتها.
الدوافع التركية وراء دعم الميليشيات الليبية
ثمة عوامل ساهمت في إصرار تركيا على دعم الجماعات المُتطرفة والميليشيات المُسلحة في ليبيا، نطرحها فيما يلي:
1- البحث عن موطئ قدم: تعمل تركيا من خلال دعمها للغرب الليبي والميليشيات المُسلحة على ضمان تواجدها المستقبلي في المشهد الليبي، خاصة في مرحلة ما بعد إنهاء الصراع وإعادة الإعمار. إذ تمتعت تركيا قبل أحداث 2011 بنفوذ اقتصادي قوي في ليبيا، عكسه حجم الاستثمارات التركية في ليبيا التي بلغت نحو 15 مليار دولار، بالإضافة إلى وجود ما يقرب من 120 شركة تركية داخل لبيبا، وحجم تبادل تجاري بين الجانبين بلغ نحو 9.8 مليارات دولار في عام 2010. ومن ثم، يظل أحد الأهداف التركية في ليبيا هو ضمان بقائها في المشهد الليبي من أجل لعب دور مستقبلي في عمليات إعادة الإعمار، الأمر الذي من شأنه أن يعوض الخسائر والأضرار التي لحقت بتركيا في أعقاب سقوط نظام “القذافي”، بما ينعكس بالإيجاب على الاقتصاد التركي المُتأزم.
2- الحاجة لاستعادة النفوذ: تسعى تركيا عبر دعمها للميليشيات والعناصر المسلحة الليبية إلى استعادة نفوذها، والتأثير على الترتيبات المستقبلية في ليبيا، خاصة أن الموقف التركي المشبوه في ليبيا بات محل تساؤل لعددٍ من الدول التي تطالب بإبعادها وتحييدها، من خلال وقف الدعم التركي للميليشيات المسلحة أملًا في تسهيل عملية التسوية السياسية للأزمة. وقد عبّر عن الموقف الدولي من هذا الدور التركي مؤتمر باليرمو (نوفمبر 2018) الذي عُقد في إيطاليا لبحث سبل حلحلة الأزمة الليبية، والذي استبعد تركيا من المشاورات والنقاشات حول الأزمة الليبية، ما أدى إلى انسحاب تركيا -آنذاك- من المؤتمر اعتراضًا على هذا الاستبعاد، وهو ما عبر عنه “فؤاد أقطاي”، نائب الرئيس التركي، الذي أكد أن “الانسحاب جاء بعد استبعاد أي ممثل لتركيا من اجتماع ضم أبرز أطراف الصراع الليبي وعدة دول أوروبية”، مضيفًا: “كل اجتماع يستثني تركيا لا يمكن إلا أن تكون نتائجه عكسية لحل المشكلة”.
3- الاستثمار في التصنيع العسكري: تنظر تركيا إلى ليبيا باعتبارها سوقًا لاختبار وتصدير السلاح التركي، كما هو الحال في سوريا، عبر دعم الميليشيات والعناصر المسلحة، حيث يشير عدد من التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يذهب إلى مناطق هذه الصراعات.
4- مناكفة دول الجوار: بالإضافة إلى الأهداف السابقة، تسعى تركيا إلى إرباك دول الجوار الليبي، وعلى رأسها مصر، من خلال دعم الميليشيات والعناصر المُسلحة وجماعات الإسلام السياسي التي تتماهى مع التوجهات والسياسات التركية، في إطار مصالح متبادلة بين الجانبين.
خلاصة القول، يظل الدعم التركي المتواصل للميليشيات والعناصر المسلحة في ليبيا من أسباب استمرار وتفاقم الأزمة الليبية. وكما تمت مناقشته، فإن هذا الدور مدفوع بعددٍ من المصالح والأهداف التركية.