تمثل الزيارة المهمة التى قام بها الرئيس الصينى شى جين بينج إلى موسكو الأسبوع الماضى ولقاؤه مع نظيره الروسى بوتين نقطة بداية لعلاقات ثنائية أكثر زخماً وأوسع مدى. الأمر لا يتعلق فقط بالاتفاقيات الثلاثين التى تم توقيعها وشملت مجالات سياسية وعسكرية واقتصادية، وإنما بالإطار الدولى العام الذى أحاط بالزيارة ومضمون الاتفاقيات، والذى يصب فى بناء علاقات استراتيجية شاملة لمواجهة التحديات المشتركة من جانب، ولبناء نظام عالمى جديد يُنهى الهيمنة الأمريكية من جانب آخر، فضلاً عن احتواء الآثار الكبرى للعقوبات الأمريكية على الاقتصاد الروسى وتداعيات الرسوم الجمركية الأمريكية على الاقتصاد الصينى وما يرافقها من جمود المفاوضات التجارية بينهما.
الأبعاد الاقتصادية فى هذه الزيارة تبدو واضحة، لا سيما فى أمرين، الأول اعتماد اليوان الصينى والروبل الروسى فى التجارة البينية للبلدين، كخطوة تدعم ترقية وضع هاتين العملتين فى مواجهة الدولار ولضبط الآثار العقابية الأمريكية عليهما، والثانى لجوء صناعات صينية كبرى للاستثمار فى روسيا فى مجالات البنية الأساسية والطرق الحديثة ونفط شرق سيبيريا وتكنولوجيا الاتصالات، لا سيما الجيل الخامس. وهى مجالات حققت فيها الصناعة الصينية تقدماً كبيراً للغاية، ولكنها تواجه قيود العقوبات الأمريكية، ومن ثم يمثل الاستثمار فى روسيا أحد بدائل الالتفاف على العقوبات الأمريكية. وفى الأمرين معاً يتضح أن الضغوط الأمريكية بأشكالها المختلفة مثّلت حافزاً كبيراً لترسيخ التقارب الصينى الروسى، وتسريع الخطوات الساعية لخفض الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمى.
النتائج المتوقعة لهذه الاستراتيجية الصينية الروسية الجديدة سوف تتطلب بعض الوقت لكى تتحول إلى واقع، فضلاً عن أن علاقات كل من الصين وروسيا مع الولايات المتحدة، رغم ما فيها من قيود وعقوبات، تظل أساسية لكلا البلدين. فعلى سبيل المثال تظل السوق الأمريكية هدفاً رئيسياً للمنتجات الصينية، حيث تستحوذ على 19 فى المائة منها، وهى السوق الأولى لها خارجياً، وتحقق بكين من وراء ذلك فوائض سنوية تقترب حالياً من 450 مليار دولار رغم رفع الجمارك الأمريكية عليها، بينما روسيا فى الموقع 12 فى قائمة المستوردين للسلع الصينية، بأقل من 2 فى المائة من إجمالى الصادرات الصينية، وقيمة 87 مليار دولار قد ترتفع إلى مائة مليار فى العامين المقبلين. وبالتالى فمن الصعوبة بمكان تصور أن الصين يمكنها أن تتخلى عن السوق الأمريكية وأن تعتمد فقط على السوق الروسية. وبالقطع فهذا الأمر ليس متصوراً من واضعى السياسات الصينية. ولذا يظل توسيع مساحات الحركة الخارجية للبلدين فى مواجهة واشنطن هدفاً عملياً وواقعياً.
فى هذا الإطار يبدو هدف إعادة بناء النظام العالمى بأبعاده الاقتصادية والسياسية والأمنية هدفاً رئيسياً. وكل الأطراف الكبرى تعلن رغبتها فى نظام عالمى جديد ولكن لأهداف مختلفة، فوزير الخارجية الأمريكى بومبيو يرى أن بلاده عليها أن تبنى نظاماً عالمياً جديداً لمواجهة الاختراقات الروسية ومحاولاتها هدم البناء الأمنى العالمى القائم والذى يشهد نفوذاً أمريكياً، ونظيره الروسى لافروف يدعو لنظام عالمى جديد للحد من الهيمنة الأمريكية، والرئيس الفرنسى ماكرون يدعو لنظام عالمى جديد من أجل الحفاظ على سيادة أوروبا ولمواجهة النفوذ الصينى الاقتصادى المتصاعد فى الاقتصادات الأوروبية، وتشاركه فى المسعى أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية. وفى وضع كهذا يتضح أن كثيراً من القادة الرئيسيين يرون أن النظام العالمى الراهن ليس كفؤا، وأن به الكثير من المشكلات الواجب حلها. وفى جوهر كل مسعى يتضح أن الهدف الرئيسى هو تحقيق المصالح الكبرى لهذه الدولة أو تلك، ومواجهة المنافسين المحتملين، وتركيز القوة لمواجهة الأخطار المتوقعة. وهى أهداف ذات طابع ذاتى لكل قوة كبرى ولا تشكل بالضرورة أهدافاً يُجمع عليها أكبر عدد ممكن من البلدان. وما دام لا يوجد توافق دولى على المطلوب لإعادة بناء نظام عالمى جديد، فسوف تستمر تلك المرحلة الانتقالية بين الوضع الراهن والوضع المرغوب لهذا البلد أو ذاك، بكل ما فيها من شد وجذب وعدم يقين، ومساع لفرض أسس جديدة، سواء طوعاً أو كراهية، على باقى الدول.
عملية البناء لنظام دولى جديد لن تقتصر فقط على بناء التحالفات كما هو الحال بالنسبة للصين التى سعت فى السنوات العشر الماضية إلى إنشاء منظمات مالية دولية جديدة تحت الإشراف الصينى المباشر مثل البنك الآسيوى للاستثمار فى البنى التحتية، ومبادرة الحزام والطريق، والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، والموجهة إلى الدول الإقليمية المحيطة بالصين كاليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وأستراليا وغيرها، ومنظمة شنغهاى للتعاون الاقتصادى، بل ستشهد تهديدات عسكرية وتلميحات بشن حروب، وهو ما يتحدث عنه مسئولون عسكريون أمريكيون بمنتهى الوضوح، من قبيل ما أشار إليه رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية الجنرال ديفيد جولدفاين فى فبراير الماضى من أن بلاده تعد خطة سماها بـ«حصان طروادة» لشن حرب خفية ضد كل من روسيا والصين، وهدفها الغزو الخفى فى عمق أراضى الدولتين، بغرض تشتيت قواتهما وتسهيل مهمة الغزو الأمريكى، وسوف تتكلف الخطة 135 مليار دولار. وهو تلميح وجد انتقادات من كبريات مواقع التحليل العسكرى الأمريكى، باعتبار أن هذين البلدين يمتلكان إمكانيات وتجهيزات عسكرية متطورة تحول دون تنفيذ مثل هذه الخطة الوهمية. ورغم عدم واقعية خطة حصان طروادة، فإنها تعبر عن الأسلوب الأمريكى فى التفكير لمواجهة من تعتبرهم أعداء، ودفعهم للتفكير فى خوض حرب يتصور بعض العسكريين والسياسيين الأمريكيين أنه يمكن كسبها بسهولة، أو على الأقل ستمثل ضغطاً نفسياً ومعنوياً على صانع القرار الروسى والصينى، وقد يضطران للإنفاق على الاستعدادات العسكرية بكثافة، ما يقلل من قدراتهما على تحقيق تفوق اقتصادى وتكنولوجى على الولايات المتحدة ذاتها.
التهديد بالحرب، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية والتجارية، وإنهاء حرية التجارة العالمية، وتغيير أسس الاقتصاد العولمى التى يرى الرئيس ترامب أنها أعطت فرصة للصين لتحدى التفوق الأمريكى، إضافة إلى تعزيز الترسانة العسكرية الأمريكية نووياً وتقليدياً، وتوقيع العقوبات على من يتعامل مع الصناعات العسكرية الروسية، تمثل عصب السياسات الأمريكية للبقاء على قمة النظام الدولى، بينما تسعى الصين وروسيا إلى تمتين شراكتهما الاستراتيجية والاستفادة من الميزات النسبية الاقتصادية للصين، إلى جانب الميزات النسبية لصناعة السلاح الروسى لمواجهة التفوق الأمريكى. وما على العالم إلا الانحياز إلى أحد الأسلوبين، أو البحث عن طريق ثالث، وهو الأسلم، يحمى البشرية من أى مغامرة عسكرية طائشة من هذا الطرف أو ذاك.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ١٢ يونيو ٢٠١٩.