يعقد كل عام مؤتمر ضخم لمناقشة قضايا الأمن فى أسيا تحت عنوان «منتدى حوار شانجريلا» ويشارك فيه شخصيات رفيعة المستوى من مختلف أنحاء العالم. وقد استضافت سنغافورة هذا المنتدى فى الأسبوع الماضي. منتدى هذا العام ناقش العديد من القضايا الأمنية و الاستراتيجية، وكان على رأسها قضية صعود التنين الصينى والعلاقات الأمريكية الصينية، انطلاقا من أن العلاقات بين البلدين هى الأهم فى العالم اليوم، وأن الطريقة التى سوف يتعامل بها البلدان بشأن التوترات الحالية بينهما هى التى سوف تحدد شكل النظام الدولى و البيئة الدولية لعقود مقبلة.
فى هذا الإطار تحدث كثيرون أمام المنتدى منهم وزيرا الدفاع الأمريكى والصينى وغيرهما. إلا أن اهم الخطابات من وجهة نظرى كان ذلك الذى ألقاه رئيس الوزراء السنغافورى لى هسين لونج فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وطرح فيه رؤية استراتيجية لظاهرة صعود الصين وآثارها وكيفية التعامل معها. وأعتقد أنه من المهم أن يتعرف القارئ العربى على هذا الطرح لأننا بالتأكيد جزء من العالم وسوف نتأثر بالتغيير فى النظام الدولى الناتج عن صعود التنين الصيني.
فى البداية تحدث السيد لونج عن أن نمو وصعود الصين يعد نعمة هائلة، حيث تم انتشال أكثر من 850 مليون صينى من الفقر، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل فى تاريخ البشرية. كما استفاد العالم من التنمية فى الصين، حيث أصبحت قاعدة ضخمة للإنتاج والتصنيع، وخفضت تكاليف المنتجين فى العالم، أولاً للسلع الكثيفة الاستخدام للعمالة، والآن بشكل متزايد للإنتاج العالى القيمة والكثيف التكنولوجيا، كما أنها أيضا سوق ضخمة، يستفيد العالم من التصدير إليها.
على العكس لو ظلت الصين مغلقة وغير متطورة لكانت قد صدرت العديد من المشكلات للعالم. ويقتبس حوارا دار منذ سنوات طويلة، عندما كانت الصين لا تزال فقيرة، حيث طلب الرئيس الأمريكى جيمى كارتر من الرئيس الصينى السماح بمزيد من الهجرة. فأجاب: حسنًا سيدى الرئيس، كم عدد المواطنين الصينيين الذين تريدهم؟ عشرة ملايين؟ عشرون مليونا؟ ثلاثون مليونا؟ أى أن نجاح الصين جنب العالم هذه النتيجة الكارثية.
وأضاف رئيس وزراء سنغافورة أن النمو الصينى قد أسهم أيضا فى تغيير الموازين الاستراتيجية، وأن هذا التحول مازال مستمرا، حيث أصبحت الصين الآن قوة رئيسية لها ثانى أكبر ميزانية دفاعية فى العالم، ومن الطبيعى أن ترغب فى تطوير قوات مسلحة حديثة وقادرة لحماية أراضيها وطرقها التجارية، وأن تتطلع لأن تصبح ليس مجرد قوة قارية ولكن أيضا قوة بحرية، وأشار الى أنه سوف تنشأ احتكاكات بين الصين ودول أخرى من وقت لآخر، مثل المطالبات البحرية المتداخلة فى بحر الصين الجنوبي، وسيتعين على الصين حل هذه النزاعات سلميا، وممارسة قوتها بضبط النفس واستنادا لقواعد الشرعية. وبمرور الوقت سوف تبنى الصين سمعتها كقوة مسئولة وخيرة لا داعى للخوف منها.
ولكن أهم ماجاء فى خطاب رئيس الوزراء السنغافورى هو أنه يتعين على بقية العالم وخاصة الولايات المتحدة الامريكية أن تتكيف مع دور أكبر للتنين الصيني، وقبول أن الصين ستواصل نموها وقوتها، وأنه ليس من الممكن ولا من الحكمة منع هذا من الحدوث، وأنه سيكون للصين مصالحها وطموحاتها المشروعة بما فى ذلك تطوير تكنولوجيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعى وغيرها، كما ينبغى تشجيع الصين على لعب أدوار متناسبة وبناءة فى المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، وإذا لم تستطع الصين القيام بذلك، فسوف توجد بدائلها الخاصة. كما يجب وضع قواعد دولية جديدة فى العديد من المجالات، بما فى ذلك التجارة والملكية الفكرية والأمن السيبرانى ووسائل التواصل الاجتماعي، و تتوقع الصين أن يكون لها رأى فى هذه العملية، لأنها ترى أن القواعد الحالية قد تم إنشاؤها فى الماضى دون مشاركتها.
خلاصة رسالة رئيس وزراء سنغافورة هى أن التفكير فى تبنى سياسات لاحتواء الصين أو استراتيجية لحرب باردة جديدة ضدها لن تنجح، وأن التكيف مع صعود التنين الصينى هو الأفضل للعالم. فهل يكون هو الأفضل أيضا لعالمنا العربي؟ قضية تحتاج بالتأكيد للمزيد من المناقشة.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ١٤ يونيو ٢٠١٩.