يُعد الفاعلون المسلحون من غير الدول حاليًّا من أخطر التهديدات، ذلك أنهم يضربون بشدة مركزية الدولة، خاصة إذا كانوا يستندون إلى هوية معينة تجمعهم، ويتمتعون بدرجة من الاستقلال المالي عن الدولة التي يعملون على أرضها؛ فوجود موارد خاصة يُعزز سياستهم المستقلة عن سياسة الدولة التي يتواجدون بها. وقد يصل الأمر إلى قدرتهم على التأثير على سياسات الدولة، وأحيانًا في البيئة الإقليمية والدولية . وغالبًا يكون للفاعلين المسلّحين من غير الدول أهداف سياسية اقتصادية ودينية واجتماعية، أو مزيج فيما بينها. كما يلجئون عادةً للتخويف والإكراه والعنف لتحقيق أهدافهم. وتتنافى هذه الوسائل مع مبادئ القانون الدولي الإنساني .
وعادةً يكون للفاعلين المسلحين من غير الدول جناح عسكري، وأيضًا جناح سياسي؛ وهو التنظيم الذي يظهر في العلن وقد يكون له شكل قانوني يظهر في العلن، وكذا لجان اجتماعية تستقطب مجموعات من السكان المدنيين ليشكلوا دعمًا لهم (يتم استهدافهم في حالة الممانعة)، ولهم شبكات من الدعم يجمع لها الأموال والدعم المادي الذي غالبًا يكون مزيجًا من الأعمال القانونية والجرائم المنظمة. وقد يتلقون دعمًا علنيًّا أو مستترًا من دول توفر لهم دعمًا ماديًّا ومعنويًّا مقابل تنفيذ أجنداتها وأهدافها (الحرب بالوكالة). وفي هذه الحالة تستخدمهم الدول لضرب نقاط الضعف في الدولة المستهدفة، وإلحاق الضرر المادي والنفسي بها. ولهم أيضًا جناح إعلامي للدعاية والترويج لأفكارهم وتبرير عملياتهم.
وتتنوع عمليات الفاعلين المسلحين من غير الدول، فتأخذ شكل العمليات الإرهابية التقليدية، أو التمرد بكل أشكاله (سلمي، عنيف، مسلح)، بالإضافة إلى بعض الأنشطة القانونية (قضايا ضد الحكومة). وتزداد خطورة الفاعلين من غير الدول نتيجة سهولة تواصلهم مع المتمردين أو المتطرفين سياسيًّا أو دينيًّا، وأيضًا الإرهابيين والخارجين على القانون، وبعض الحركات الاحتجاجية، والمجموعات والأفراد، وذلك بعد أن غيرت العولمة مفهوم الجغرافيا وقللت المسافات وزمن انتقال الأفكار والمعلومات بسبب التنامي المتزايد لتكنولوجيا الاتصالات، الأمر الذي سهّل للأيديولوجيات المتطرفة سهولة التواصل والحصول على التمويل، مما أكسبها قدرات كبيرة في تنفيذ أهدافها.
وتُعتبر الجماعات الإرهابية هي المستوى الذي يلي الفاعلين المسلحين من غير الدول. وقد يلجأ الفاعلون لاستخدام الجماعات الإرهابية الصغيرة لتنفيذ عملياتهم التي تتسم بالقدرة العالية على التنوع والتكيف مع البيئة التي يعملون فيها، الأمر الذي يصعب معه التنبؤ بهذه العمليات من حيث التوقيت أو أسلوب التنفيذ (عمليات انتحارية، سيارات مفخخة، دهس لتجمعات المدنيين باستخدام السيارات.. إلخ). ولم يعد التنظيم الهرمي هو الشكل الأساسي للجماعات الإرهابية، ولكن أيضًا تكونت مجموعات ذات انتشار أفقي وخلايا منفصلة من الصعب تتبعها والتعامل معها، وليس لها مراكز ثقل واضحة Centre of Gravities. وقد سهّلت لها التكنولوجيا التواصل فيما بينها.
ويوفر الفاعلون المسلحون من غير الدول للجماعات التي تعمل تحت مظلّتهم الدعم المعنوي والمادي (أموال، أسلحة صغيرة، صواريخ مضادة للدبابات والطائرات، ألغام متنوعة، تدريب، معلومات، ملاذ آمن.. إلخ). وتُعد هذه الجماعات مستوى ثانيًا من الحرب بالوكالة، مما يُصعّب من مواجهة هذه الظاهرة في شكلها العسكري فقط، نتيجة الاحتمال الكبير لتكوين الجماعات الإرهابية لمجتمعات افتراضية تجمعهم هوية واحدة وتربطهم قوة ناعمة، ليس فقط مع بعضهم ولكن بينهم وبين الفاعلين المسلحين من غير الدول، الأمر الذي يجعل الإرهاب أكثر تعقيدًا ويصعب مواجهته ليس فقط عسكريًّا ولكن سياسيًّا واجتماعيًّا أيضًا .
شكل يوضح العلاقة بين الفاعلين المسلحين من غير الدول والجماعات الإرهابية والمجتمعات الافتراضية
وقد بدأت بوادر ظهور مصطلح “المجتمع الافتراضي” مع الثورة التكنولوجية، خاصة في مجال المعلومات والاتصالات والحواسب. وحاليًّا أصبح “المجتمع الافتراضي” حقيقة ملموسة في حياة الأفراد والمؤسسات، خاصة في مجال الخدمات، والتجارة الإلكترونية، وبنوك المعلومات، والترفيه، والإدارة الإلكترونية. و”المجتمع الافتراضي” عبارة عن شبكة اجتماعية لمجموعة من الأفراد الذين يتفاعلون فيما بينهم باستخدام وسيلة تواصل، متجاوزين كل الحواجز الجغرافية والسياسية، سعيًا وراء الاهتمامات والأهداف المشتركة. ويُعد أحد أكثر أنواع المجتمعات الافتراضية انتشارًا “مجتمعات الإنترنت”، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي. ووفقًا لهذه التفاعلات الجديدة التي نتجت عن سهولة تواصل مستخدمي الإنترنت ظهرت آثار اجتماعية أثرت على العديد من المفاهيم ومن أهمها مفهوم الهوية .
ويُفسَّر مفهوم الهوية في العلوم الاجتماعية على أنه “عملية تمييز الفرد لنفسه عن غيره”، وأنها الميزة الثابتة في الذات، وتتعلق بعلاقة الاستمرارية التي يُقيمها فرد ما مع ذاته والعلاقات التي يُقيمها مع الأحداث على اختلاف أشكالها. وتُعتبر هوية الشيء هي ثوابته التي لا تتغير، وتتجلى وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة. ويوضح علم الاجتماع مدى تأثر هوية الشخص بالإطار الاجتماعي، وأنه يشعر بالهوية مع أشخاص المجتمع الذي يعيش وينمو فيه، وهو ما يوحد أفراد المجتمع ويمنحهم سمات حضارية وثقافية تميزهم عن غيرهم من المجتمعات الأخرى. ومن ثم، فإن الهوية هي كل ما يشخص الذات ويميزها، وهي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، وهي منظومة متشابكة من الواقع والتاريخ، لذا فإن الوظيفة التلقائية للهوية هي حماية الذات الفردية والجماعية من عوامل التعرية والذوبان، وهي المحصلة التي ينطلق منها الفرد في إقامة علاقات تفاعلية مع الآخر.
في ضوء ما سبق، بدأت تتشكل هوية جديدة للمجتمعات الافتراضية للإرهابيين، خاصة مع ضعف انتمائهم لهوية المجتمعات الأصلية التي نزحوا منها، واستعدادهم العالي للانضمام لمجتمعاتهم “الجديدة” التي انضموا إليها، في ظل قدرة الفاعلين المسلحين من غير الدول على جذب العديد من الأفراد من الإقليم المباشر، وأيضًا من قارات أخرى مثل أوروبا، بأعداد كبيرة انتقلت بشكل غير قانوني عبر مسافات كبيرة، ومن ثقافات ولغات مختلفة، لتكوين تجمعات إرهابية لها أهداف واضحة ولديها استعداد كبير للتضحية بالنفس في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وقد استمرت هذه الجماعات والأفراد في التفاعل من بعضها اجتماعيًّا عددًا من السنوات لا بأس به، وبالتالي شكلت مجتمعات إرهابية.
ويتضح تأثير القوة الناعمة التي يتمتع بها الفاعلون المسلحون من غير الدول والجماعات الإرهابية في جذب عدد كبير من الأفراد من داخل وخارج الإقليم، واستمرارهم تحت مظلتهم لفترات طويلة. وقد ساعد ذلك على تشكيل هويتهم الخاصة بهم. ويزداد التصاقهم بها أنها نشأت تحت مظلة من المفاهيم الدينية (الخاطئة بالطبع). وساعدت الضغوط والأزمات التي تعرضوا لها نتيجة المواجهات العسكرية لمكافحة الإرهاب على زيادة ارتباطهم بهويتهم الجديدة. ويزيد ذلك من فرصة الأفراد المنتمين لهذه الجماعات الإرهابية أو المتطرفة في استمرار التواصل بينهم في حالة تركهم أماكن تجمعهم وانتشارهم في العالم نتيجة النجاحات التي تحققت ضدهم. كما تساعد تكنولوجيا الاتصالات على تكوين مجتمعات افتراضية تحمل نفس الأفكار، والتي ستؤدي إلى نفس السلوك الإرهابي أو تغيره لأشكال وأنماط جديدة، خاصة مع قدرتهم على التكيف مع البيئات التي ينتقلون إليها.
في ضوء ما سبق، من المنتظر أن يكون شكل التهديدات الإرهابية على النحو التالي:
1- استمرار بسط نفوذ بعض الدول على الفاعلين المسلحين من غير الدول، وبالتبعية ينتقل هذا النفوذ من الفاعلين إلى الجماعات الإرهابية الأصغر، ثم إلى الأفراد المتعاطفين والمنتشرين في أماكن كثيرة في المنطقة والعالم. وعمليًّا يُعتبر النفوذ حالة وجدانية وعاطفية، لا يمكن استهدافها أو التأثير عليها بسهولة، وهي التي تُحرك هؤلاء الأفراد تجاه الأعمال الإرهابية (على سبيل المثال لا يمكن فصل إيران عن حزب الله والحوثيين).
2- زيادة انتقال الإرهابيين كأفراد إلى أماكن متفرقة في الإقليم والعالم، متبنين نفس الأفكار والمعتقدات الإرهابية والمتطرفة التي تأصلت في مناطق الصراع.
3- استمرار تجنيد أفراد جدد ليسوا بالضرورة من نفس المكان ولكن من أماكن متفرقة متباعدة وغير متوقعة، منتشرة بصورة كبيرة يصعب رصدها وتتبعها في ظل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، خاصة مع تنامي الصلة بين الإرهاب والجريمة المنظمة والخارجين على القانون.
4- من المتوقع أن تظل العمليات الإرهابية الفردية أهم التهديدات التي تواجه دول العالم، وتزداد خطورتها في ظل تكوين الإرهابيين لمجتمعات افتراضية، وأيضًا قدرة الأفراد على تحليل الأهداف المهمة في الدول المستهدفة ومراكز الثقل فيها، خاصةً مع تلقّيهم معلومات عنها من الفاعلين المسلحين من غير الدول ومن الدول الراعية للإرهاب.
5- استنباط الفاعلين المسلّحين من غير الدول أشكالًا وأنواعًا جديدة من أساليب القتال، وتدريب الأفراد عليها. من ذلك، على سبيل المثال، استخدام الطائرات بدون طيار، والتي أصبحت وسيلة إرهابية فعالة للاستطلاع والاستهداف يتم تشغيلها بواسطة عدد قليل من الأفراد لا يتطلب تدريبهم وقتًا طويلًا، بالإضافة لسهولة انتقال هذه الطائرات مفككة عبر الدول وسهولة تجميعها وأيضًا تصنيعها، ووجود أنواع من الطائرات بدون طيار ذات مدى كبير يُمكن إطلاقها من دول أخرى تجاه الدولة المستهدفة، الأمر الذي يعمل على وجود قواعد جديدة للإرهابيين مختلفة في أشكالها عن الشكل التقليدي (معسكرات التدريب). أضف إلى ذلك سهولة انتقال مراكز تجميع وإطلاق الطائرات بدون طيار من مكان لآخر مما يصعب تتبعها، لذا فإنه من المنتظر انتشار الطائرات المسلحة بدون طيار في أماكن متعددة من العالم واستخدامها من قبل الجماعات المسلحة في ظلّ نقل بعض الدول هذه التقنيات للفاعلين من غير الدول وبالتالي للجماعات الإرهابية.
6- من المتوقع قيام الإرهابيين بهجمات سيبرانية على بعض القطاعات في الدول المستهدفة، خاصة مع قيام الدول بتحويل كل/ معظم النظم التقليدية إلى رقمية حتى يمكنها الاندماج في النظام العالمي.
7- من المحتمل استخدام الإرهابيين للأسلحة الكميائية والبيولوجية، خاصة مع إمكانية تصنيع بعضها، وسهولة نقلها، وأنها لا تحتاج لمهارات خاصة لاستخدامها. ويؤكد ذلك استخدام “داعش” المتكرر لخردل الكبريت في العراق وسوريا في السنوات الماضية.
الخلاصة
وصل شكل التهديدات في المنطقة إلى درجة من التعقيد يصعب على بعض الدول مواجهتها منفردة، ولا تُجدي معها الحلول العسكرية فقط، ولذا يجب أن يكون العمل العسكري ضمن استراتيجية شاملة متعددة في مختلف المجالات (السياسة، الاقتصادية، العسكرية، الاجتماعية)، فرغم ما تملكه بعض الدول من قدرات عسكرية وأمنية تتوفر فيها التكنولوجيا الحديثة؛ إلا أنه سيصعب عليها مواجهة الأشكال الجديدة والمتغيرة من التهديدات الأمنية، خاصة في ظل الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي تُسهّل عملية انتقال المعلومات والتقنيات المزدوجة الاستخدام. كما أن تأخر المواجهة المتكاملة والشاملة سيجعل من الصعب التحكم في هذه التهديدات أو السيطرة عليها.
[1] إيمان رجب، “حماس وحزب الله – تأثير الهوية والمصلحة على الفاعلين العنيفين من غير الدول في الشرق الأوسط”، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كراسات استراتيجية، مايو 2016، ص30.
[2] Anthony H. Cordesman, “The New State Department Report on Terrorism: Rethinking the Numbers and Coverage”, Center for Strategic and International Studies (CSIS), Washington, D.C, September 20, 2018. Available at:
https://www.csis.org/analysis/new-state-department-report-terrorism-rethinking-numbers-and-coverage
[3]Dave Wallace & Shane Reeves, “Non-State Armed Groups and Technology: The Humanitarian Tragedy at Our Doorstep”, USA, Department of Defense, United States Army, New York, West Point, United States Military Academy, 2013, pp. 4-10.
[4]Jahangir Arasli, “States vs. Non-State Actors: Asymmetric Conflict of the 21st Century and Challenges to Military Transformation”, Dubai, United Arab Emirates, the Institute for Near East & Gulf Military Analysis (INEGMA), March 2011, pp4-8.
[5] إسراء أبو زيد، “المجتمعات الافتراضية”، مؤتمر حروب الفضاء السيبراني، القاهرة، 15 مايو 2015, أنظر الموقع الإلكتروني التالي:
[6] أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م، ص 206.
[7] محمد فاضل رضوان، “نحن والعولمة: مأزق مفهوم ومحنة هوية”، الرابط التالي:
http://www.qattanfoundation.org
[8] محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، نهضة مصر للطباعة والنشر، فبراير 1999م، ص ص 6-7.
[9] عبد الرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية، المؤسسة العربية للدرسات والنشر، المجلد 2، 1996، ص569-570.
[10] “Dealing with Today’s Asymmetric Threat to U.S. and Global Security”, co-sponsored by California Analysis Center, Incorporated (CACI)) and the United States Naval Institute (USNI), USA, February 2009, pp. 2-4. Available at: https://apps.dtic.mil/dtic/tr/fulltext/u2/a485280.pdf
[11] Eric Schmitt, “ISIS May Be Waning, but Global Threats of Terrorism Continue to Spread”, July 6, 2018. Available at: https://www.nytimes.com/2018/07/06/world/middleeast/isis-global-terrorism.html
[12] Secretary-General on the threat posed by ISIL (Da’esh) to international peace and security and the range of United Nations efforts in support of Member States in countering the threat, Security Council, United Nations, S/2019/103,n1 February 2019.
[13] Country Reports on Terrorism 2017, The Global Challenge of Chemical, Biological, Radiological, or Nuclear(CBRN) Terrorism, United States Department of State, USA, September 2018, P221.