تُعد منطقة شرق المتوسط Eastern Mediterranean Sea (التي تضم دول: اليونان، وقبرص، وتركيا، وسوريا، ولبنان، وإسرائيل، وفلسطين، ومصر) من أهم المناطق الاقتصادية الخالصة على المستوى العالمي، وأضحت محلًّا للاهتمام الكبير على المستويين الإقليمي والدولي، نظرًا لما تحتويه من كميات ضخمة من احتياطات الغاز الطبيعي في ضوء ما أُعلن عنه مؤخرًا من اكتشافات ضخمة لحقول الغاز الطبيعي في مصر وإسرائيل وقبرص، وفي ظل التصرفات والتصريحات التركية غير القانونية ضد قبرص واليونان.
ومن ثَمّ نجد أنه من الضروري أن نعرض لهذا الموضوع عرضًا قانونيًّا في ضوء من مبادئ وقواعد القانون الدولي العام، وعلى وجه الخصوص الأحكام القانونية الواردة باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1983، باعتبار الأخيرة هي المرجعية القانونية الشاملة والحاكمة لكافة صور الاستخدامات المشروعة للبحار. إذ يُعد إقرار الاتفاقية انتصارًا لحكم القانون ولمبدأ التسوية السلمية للمنازعات، وهي الدستور الأعلى للبحار والمحيطات، وهي ملزمة للكافة باعتبارها تدوينًا لأعراف دولية راسخة تتعلق بمصالح أساسية لعموم المجتمع الدولي.
كما نتعرض أيضًا للوضعية القانونية للاتفاقية المصرية القبرصية لتعيين الحدود البحرية بينهما، وأيضًا التصرفات التي تقوم بها تركيا في شرق المتوسط، وبيان الوضع القانوني لها في ضوء الثوابت القانونية الحاكمة لاستخدامات البحار.
أولًا- النظام القانوني للمنطقة الاقتصادية الخالصة
تُعتبر “المنطقة الاقتصادية الخالصة” استحداثًا قانونيًّا جاءت به اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، بعدما احتدم الصراع القانوني والدبلوماسي خلال أعمال وجولات التفاوض عند وضع الاتفاقية بين الدول المتقدمة التي تملك الأساطيل الكبرى والمعدات المتقدمة التي تمكنها من استغلال الثروات الحية وغير الحية في قيعان البحار والمحيطات، والتي كانت تهدف إلى بسط سلطانها لأقصى اتساع من تلك البحار، وبين الدولة النامية التي كانت ترغب في استخراج تلك الثروات القابعة في قيعان البحار المواجهة والمتلاصقة لمياهها الإقليمية لاستغلالها في عمليات التنمية.
والمنطقة الاقتصادية الخالصة هي منطقة تقع وراء البحر الإقليمي، وملاحقة له، ولا تمتد إلى أكثر من 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يُقاس منها عرض البحر الإقليمي، وهي بالتالي ليست بحرًا إقليميًّا تمارس عليه الدولة الساحلية كافة مظاهر السيادة التي تمارسها في بحرها الإقليمي. كما أنها ليست من أعالي البحار لأن الدولة الساحلية تتمتع فيها بحقوق سيادية مانعة بغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحية وغير الحية للمياه التي تعلو قاع البحر وباطنه، وكذلك حفظ وإدارة هذه الموارد، على أن تتقيد الدولة الساحلية في الوقت ذاته بعدم إعاقة حرية الملاحة والتحليق بل سائر المبادئ التقليدية لأعالي البحار.
1- تعيين وترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة
تنص المادة (74) من الاتفاقية على أن يكون تحديد “المنطقة الاقتصادية الخالصة” بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي، طبقًا لمقتضى نص المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من أجل التوصل لحل منصف. كما أن المحكمة الدولية لقانون البحار قد استقرت على أن تعيين الحدود البحرية المشتركة ليس عملًا أحاديًّا تنفرد به الدولة الساحلية دون مراعاة لوجهات نظر الدول الأخرى المشاركة لها في الحدود البحرية. وأكدت محكمة العدل الدولية أنه لا توجد طريقة بعينها لتعيين الحدود البحرية، بحيث تكون ملزمة في جميع المجالات، بل إن التعيين يجب أن يتم بالاتفاق وفقًا لقاعدة الإنصاف Equitable Principle مع مراعاة جميع الظروف ذات الصلة.
وتأسيسًا على ما تقدم، فإن تحديد خطوط الحد الخارجي للمنطقة الاقتصادية الخالصة يكون وفقًا لنص المادة (74) على خرائط ذات مقاس أو مقاييس ملائمة للتثبت من موقعها. ويجوز حين يكون ذلك ملائمًا الاستعاضة عن خطوط الحد الخارجي أو خطوط التحديد هذه بقوائم الإحداثيات الجغرافية.
خلاصة القول هنا، إن تعيين الحدود البحرية للمناطق الاقتصادية الخالصة يوجب تحديد النطاق الخارجي لها مقاسًا من خط الأساس على ألا يتجاوز 200 ميل بحري، سواء من خلال الخرائط أو القوائم الإحداثية، شريطة الالتزام بالمحددات الجغرافية والاعتبارات القانونية المتفق عليها على أساس قواعد القانون الدولي ذات الصلة. لذلك نجد أن الدولة الساحلية ملتزمة من الناحية القانونية بالإعلان عن هذه الخرائط أو القوائم الإحداثية، وأن تودع لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة نسخة من كل خريطة أو قائمة معها.
2- حقوق الدولة الساحلية في المنطقة الاقتصادية الخالصة
حددت المادة (56) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار حقوق وواجبات الدولة الساحلية في المناطق الاقتصادية الخالصة والنابعة من حق الملكية باعتبارها حقوقًا سيادية تمارسها الدولة الساحلية بنفسها، أو بواسطة غيرها من الدول والشركات الأجنبية. وتتمثل هذه الحقوق في استكشاف الموارد الطبيعية الحية وغير الحية، وحق استغلال وحفظ وإدارة هذه الثروات، وأيضًا الحق في التصرف في هذه الموارد، سواء عن طريق الاستثمار أو التصنيع والبيع، بل والقيام بكل ما من شأنه تحقيق مصلحة الدولة الساحلية. وهناك أيضًا حق الدولة الساحلية في استخدام الرياح من خلال الاستفادة من تيارات الرياح التي تعلو المنطقة الاقتصادية الخالصة في مجال إنتاج الطاقة، وأيضًا الحق في ممارسة النشاط العسكري، حيث يجوز للدولة القيام بالمناورات البحرية العسكرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة بشرط ألا تؤدي إلى عرقلة حركة ملاحة السفن أو حرمانها من المرور في المنطقة. كما تملك الدولة الساحلية الحق في إقامة الجزر الصناعية والمنشآت، ويكون لها الحق في الولاية الخالصة على ما تقوم بإنشائه. بالإضافة إلى هذه الحقوق، تملك الدولة الساحلية أيضًا الحق في البحث العلمي، وصيانة البيئة البحرية والحفاظ عليها من خلال رقابتها وتنظيمها لهذه الحقوق وإصدار التراخيص الخاصة بها. كما يجوز للدولة الساحلية الحق في ممارسة المطاردة الحثيثة في منطقتها الاقتصادية الخالصة للسفن التي تقوم بانتهاك القوانين التي تضعها الدولة الساحلية.
كما نصت المادة ذاتها على عدة التزامات على الدولة الساحلية، أهمها: الالتزام بتعيين الحدود البحرية المشتركة بينها وبين الدول المتلاصقة والمتقابلة معها في تلك الحدود، وذلك قبل البدء في أعمال الاستكشافات والتنقيب عن الثروات الطبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها. وأيضًا الالتزام بعدم إعاقة حركة الملاحة الدولية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، والالتزام بصون وحماية الثروات الطبيعية الحية والبيئة البحرية وإدارتها إدارة رشيدة، بالإضافة إلى الالتزام بالموافقة على مشاريع البحث العلمي البحري التي تضطلع بها الدول الأخرى والمنظمات الدولية المعنية وفقًا للأغراض السلمية التي نصت عليها الاتفاقية.
أما فيما يخص وضعية الدول الغير فنجد أن هذه الدول تتمتع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة بحرية الملاحة، والتحليق وإرساء الكابلات ووضع الأنابيب، وغير ذلك مما يتصل بهذه الحريات من أوجه استخدام البحار المشروعة دوليًّا. كما أقرت الاتفاقية بحق الدولة الحبيسة في المشاركة في جزء من الثروات الحية بالمنطقة الاقتصادية الخالصة. وأعطت الاتفاقية كذلك الحق للدول المتضررة جغرافيًّا في المشاركة في الثروات الحية. وفي مقابل هذه الحقوق نصت الاتفاقية على التزامات قانونية صريحة على الدول الغير، من أهمها الالتزام بمراعاة الحقوق السيادية للدولة الساحلية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وكذلك التزام رعايا الدول الأخرى الذين يقومون بالصيد في المنطقة، والالتزام أيضًا ببعض الشروط المتعلقة بضمان حقوق الدولة الساحلية.
ثانيًا- التوصيف القانوني لاتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر وقبرص
وقعت مصر وقبرص في 17 فبراير 2003 على اتفاقية لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين، وذلك استنادًا إلى قاعدة خط المنتصف. وتضمنت 8 نقاط إحداثية، حيث تكون كل نقطة على طول امتداده متساوية الأبعاد من أقرب نقطة على خطوط الأساس لكلا الطرفين، وأن يظهر خط المنتصف الحدود على الخريطة البحرية الدولية الصادرة عن (الأدميرالية البريطانية) برقم 183، بمقياس رسم (100000 : 1)، وأن يتم الاتفاق بين الطرفين -بناء على طلب أي منهما- على إجراء أي تحسينات إضافية لزيادة ودقة توقيع خط المنتصف عند توافر البيانات الأكثر دقة. ونصت الاتفاقية في مادتها الثانية على أنه “في حال وجود امتدادات للموارد الطبيعية، تمتد بين المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الأطراف وبين المنطقة الاقتصادية للطرف الآخر، يتعاون الطرفان من أجل التوصل إلى اتفاق حول سبل استغلال تلك الموارد.
ثم وقع البلدان اتفاقية أخرى في عام 2013، بمثابة اتفاق تنفيذي، تمت صياغتها تأسيسًا على مبادئ القانون الدولي العام، وأيضًا على أساس القواعد الواردة باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، مع مراعاة الدولتين حقوق كافة دول الجوار البحرية وبخاصة الساحلية المتجاورة والمتقابلة في شرق البحر المتوسط.
وتم استخدام نقاط الأساس لمصر وقبرص، والتي شملت (53) نقطة أساس مصرية تم إيداعها عام 1991 لدى الأمين العام للأمم المتحدة، وكذلك عدد (57) نقطة أساس قبرصية تم إيداعها في عام 1996 لدى الأمين العام للأمم المتحدة مدعومة بالخرائط البحرية، ولم يعترض عليها أي من دول العالم منذ ذلك الحين.
وبذلك يمكن التأكيد على صحة وسلامة ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر وقبرص والذي تم وفق قاعدة (خط الوسط) Median Line وذلك تطبيقًا لحكم المادة 15 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وأيضًا لحكم محكمة العدل الدولية في قضية تعيين الحدود البحرية بين مالطا وليبيا باعتبارهما دولتين متقابلتين في الحدود البحرية، فضلًا عن استيفاء الاتفاقية لكافة الشروط الإجرائية والموضوعية الواجبة لصحة ونفاذ المعاهدات الدولية طبقًا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969.
ثالثًا- الوضع القانوني لتعيين الحدود البحرية التركية
أ- موقف تركيا من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982
تُطل تركيا على ثلاثة من البحار الدولية، هي: البحر الأبيض المتوسط، وبحر إيجه، والبحر الأسود. وعلى الرغم من ذلك فإن تركيا تُعد من الدول التي لم تنضم لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتي تعد بمثابة الإطار القانوني الرسمي والحاكم لكافة استخدامات البحار الدولية، وبخاصة الأحكام القانونية المعنية بتعيين وترسيم الحدود البحرية المشتركة بين الدول الساحلية، إذ ألزمت الاتفاقية كافة الدول الساحلية بعدم البدء في أعمال الاستكشاف والاستغلال للثروات الطبيعية في قيعان المنطقة الاقتصادية الخالصة لها، إلا بعد أن تتوافق على تعيين حدودها المتقابلة أو المتلاصقة مع الدول الأخرى على أساس قواعد القانون الدولي. لذا فإن تركيا تُعد في مرتبة قانونية هشة في مواجهة سائر دول البحر المتوسط المنضمة لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وجدير بالذكر أن أهم الدول غير المنضمة للاتفاقية هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا، وسوريا، وإسرائيل.
وعلى الرغم من الوضعية القانونية الضعيفة لتركيا، نجد أنها تقوم ببعض الأعمال والتصرفات غير القانونية في شرق المتوسط، أبرزها قيامها مؤخرًا بإرسال سفن للتنقيب عن النفط والغاز في مياه البحر المتوسط، سواء أمام شواطئها أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص التركية، مع مواصلة “التحرش” الجيوستراتيجي بجيرانها في شرق المتوسط، وهو ما من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين الذي يعد أسمى الأهداف التي من أجلها تأسست منظمة الأمم المتحدة.
ب- المقترحات التركية لحماية حقوقها الاقتصادية في شرق المتوسط
اقترح مسئول عسكري تركي وخبير في القانون البحري خطوتين “عاجلتين” يجب على تركيا اتخاذهما لحماية حقوقها في شرق المتوسط حسب ما نقلت صحيفة “حرييت” التركية. الأولى: ضرورة تحديد تركيا مناطقها الاقتصادية الخالصة دون تأخير، وثانيهما: توقيع اتفاقية لتعيين الحدود البحرية مع ليبيا.
وهذه المقترحات مردود عليها بأن تحديد تركيا لمناطقها الاقتصادية مع الدول المشتركة معها في الحدود البحرية هو التزام قانوني عليها يلزمها بعدم البدء في أعمال الاستكشاف والتنقيب إلا بعد أن تتوافق مع الدول المتلاصقة والمتقابلة معها على تعيين الحدود البحرية المشتركة على النحو الوارد بنص المادة (74) من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 على النحو سالف الذكر، وهو الأمر الذي تُطالب به باقي دول شرق المتوسط.
المقترح الثاني، هو الإسراع في تعيين تركيا حدودها مع ليبيا، لكن هذه الخطوة لن تنال من الثوابت القانونية الراسخة والحاكمة لتعيين الحدود البحرية، وأهمها الالتزام القانوني التركي باحترام الاتفاقية المصرية القبرصية لتعيين الحدود البحرية بينهما والتي تحظى بحماية القانون الدولي العام لاستيفائها كافة الشروط الإجرائية والموضوعية الواجبة، فضلًا عن الأحكام القانونية الواردة باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ذات الصلة.
أضف إلى ذلك أن الدولة الليبية تُعاني من حالة فوضى وحرب أهلية، وحالة من الانقسام السياسي، الأمر الذي ينال من سلامة وصحة إبرام مثل تلك الاتفاقيات. كما أن الدولة الليبية ملتزمة هي الأخرى بالتوافق مع مصر لتحقيق الحدود البحرية المشتركة التي قد تتقاطع مع الحدود البحرية التركية.
ونخلص مما تقدم إلى إلزامية الأحكام القانونية التي وردت باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، باعتبارها المظلة القانونية الشاملة والحاكمة لكافة استخدامات البحار الدولية، وأن الدول الساحلية مطالبة بتغيير حدودها البحرية المشتركة وفقًا للاتفاق مع الدول المتلاصقة أو المتقابلة معها على أساس قواعد القانون الدولي، وذلك قبل القيام بأعمال الاستكشاف والتنقيب عن الثروات الطبقية في المناطق الاقتصادية الخالصة لها، وهو الأمر الذي التزمت به كل من مصر وقبرص عندما توافقتا على تعيين حدودها البحرية بإبرام اتفاقية دولية تحظى بحماية القانون الدولي. ومن ثَم فإن التصرفات التركية في شرق المتوسط تمثل انتهاكًا صارخًا لقواعد القانون الدولي العام، وأيضًا لمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة. كذلك، فإن قواعد القانون الدولي تعطي لمصر الحق في استغلال حقوقها الاقتصادية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لها والدفاع عنها.