كنت وما زلتُ أنوي تقديم بعض الكتب الفرنسية المهمة، أو على الأقل الدالة لجماعة السياسة الخارجية المصرية، منها ما يتناول السياسة الخارجية الفرنسية، ومنها ما يخص أزمات أوروبا، ومنها ما يتعلق بالعلاقات بين أوروبا والعالم العربي وإسرائيل.
وأبدأ اليوم بمذكرات السفير “كلود مارتان”، التي صدرت في باريس في سنة 2018، والتي حصلت على إجماع اللجنة المشرفة على جائزة سان سيمون. السفير “مارتان” هو من القلائل الحاصلين على درجة “سفير فرنسا”، وهو أكبر متخصص فرنسي في الشئون الصينية، وكان سفيرًا لبلاده في الصين وفي ألمانيا، ومديرًا لإدارة آسيا، ثم لإدارة أوروبا (بما فيها روسيا) بوزارة الخارجية الفرنسية، ورئيسًا للجنة تقدم توصيات تتعلق بتنظيم عمل الوزارة. وقد أمضى حياته المهنية التي استمرت نصف قرن (١٩٦٤-٢٠١٤) مقيمًا إما في باريس أو في بكين أو برلين. وشارك في رسم السياسة الفرنسية تجاه الصين وألمانيا ومشروعات البناء الأوروبي.
الكتاب يحتوي على ٩٣٥ صفحة من الحجم الكبير. وما لا يقل عن ثلاثة أرباع مضمونه يتعلق بالصين وكمبوديا، حيث لعب السفير دورًا مهمًّا في حل الأزمة الكمبودية، وكان صديقًا مقربًا للأمير “سيهانوك”. ونستطيع أن نجزم أن الكتاب مقدمة ضرورية لمن يريد أن يلم على عجالة بتاريخ الصين منذ عام ١٩٦٤ وبشخصيات الفاعلين على ساحتها الثقافية والفنية.
لا نستطيع طبعًا عرض كل محتويات الكتاب، ولا تلخيصه، ولكن يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1- الكاتب كان يتعلم اللغة الصينية وأتقنها، وتم إرساله إلى الصين ليعمل في السفارة قبل أن يتم تعيينه في الخارجية، بل قبل أن يتخرج، فالرئيس الفرنسي “شارل ديجول” قرر إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية رغم الاعتراض الأمريكي في أوائل سنة ١٩٦٤، ولم يكن هناك العدد الكافي من الدبلوماسيين القادرين على إتقان اللغة أو فهم ثقافة البلاد، ولذا قررت السلطات أن يؤدي “مارتان” خدمته العسكرية في سفارة الصين. وأمضى السنوات الأولى يحسن من مستواه في اللغة بالاستماع إلى الراديو وقراءة الأدب الصيني.
2- سعى الكاتب في كل مكان، ولا سيما في الصين، إلى التعرف على “الثقافة” و”الشعب”. وسعى إلى تقديم الثقافة الفرنسية وإلى إقامة الجسور بين أهل الفن والأدب والفكر في كل دولة وفرنسا، وإلى دفع حركة الترجمة. وحرص على زيارة أغلب أقاليم الصين، وأغلب المعالم الأثرية، وحاول قدر الإمكان فك شفرات الحياة السياسية الغامضة في الصين.
3- يمكن القول إن الكتاب يجمع بين وصف الصين وتطور خريطتها الاجتماعية والعمرانية والثقافية، وتحليل صراعات السلطة فيها وتفاعلات الكواليس، وتأريخ العلاقات الفرنسية-الصينية، وتقديم تفصيلي لعدد ضخم من الفاعلين المؤثرين الصينيين والفرنسيين وتصرفاتهم وتأثيرها على العلاقات بين الدولتين. ولا شك أن أهم هؤلاء الفاعلين هو الزعيم العملاق “دانج هسياو بنج”، يليه الزعيمان “ماو” و”شو وان لاي”، ورؤساء الجمهورية الفرنسية والمستشارون الألمان، وعدد كبير من الوزراء ومن الكوادر ومن الشخصيات العامة ومن المثقفين.
4- يمكن القول بصفة عامة إن المذكرات هي إعادة اعتبار لدور ومسئولية الأفراد، ولا نجد في الكتاب كلامًا كثيرًا وتفصيليًّا عن المصالح وعن محدِّدات السياسة الخارجية، بل تذكرة لمبادئ عامة مهمة. ولا نجد عروضًا تحليلية للبرقيات الدبلوماسية، بل إشارات عارضة ومختزلة إلى محتواها، مع بعض الملاحظات الكاشفة عن نوع من المرارة. فيقول إن البرقية ثمرة مجهود ضخم وتحريات ولقاءات، ولن يقرأها إلا صغار الدبلوماسيين بالوزارة، وسيقومون بتلخيصها لكبار القائمين على أعمال الوزارة. وقد يقرأ هؤلاء التلخيص أو لا. ويقول في موضع آخر، إنه من أنصار الإفراج المبكر عن الوثائق والأرشيف، ليتأكد الرأي العام من أن كوادر الوزارة تعمل بجدية وتقدم توصيات حكيمة. جاء هذا الكلام للدفاع عن السفير الفرنسي في تونس أيام الثورة التونسية، والذي كان كبش فداء لفشل السياسيين الفرنسيين.
5- الجزء الأكبر من الكتاب تم تخصيصه لوصف بعض الشخصيات؛ سلوكهم، وتصوراتهم، والتفاعلات فيما بينهم، وتأثيرهم على مجرى الأحداث. ولا نعرف الكثير عن آليات مؤسسية لرسم السياسات، بل نرى حوارات بين الدبلوماسيين، أو بين الدبلوماسيين والسياسيين، ومفاوضات ولقاءات رسمية، الكل يدافع عن وجه نظره. ميزة تلك المقاربة أنها تحصن ضد التعميمات السهلة حول مجرى طبيعي للأمور (هناك دائًما خيارات) وضد التفسيرات المفترضة لحتمية ما. أما عيبها فهو ميل إلى تجاهل أو التقليل من شأن تأثير المحددات وشح الموارد على القرارات والممارسات، وسأعود إلى تلك النقطة. إضافة إلى هذا يمكننا القول إن الكاتب يوحي بإمكانية تبني بعض التفسيرات لما جرى دون أن يفرض أحدها قبل الخاتمة وبوجوب استبعاد أخرى.
6- الكاتب يكشف بحرفية، وبالتنقيط، عن معلومات شحيحة عن نفسه. قال لنا في مطلع الكتاب إنه كان يحب “ديجول”، وإنه أُعجب بسياسته الخارجية الرافضة للثنائية القطبية والساعية إلى بناء جسور بين الأمم/ والشعوب بصرف النظر عن طبيعة الأنظمة، مع الاحترام الكامل لسيادة الدول، وأن هذا الحب دفعه إلى الالتحاق بالخارجية. وقال لنا بسرعة إنه لم يلتحق أبدًا بحزب، ولكننا لا نعلم قبل الوصول إلى النصف الثاني من الكتاب أنه قصير القامة، وأنه عانى من ذلك. ولا نعلم قبل الربع الأخير من الكتاب أنه تزوج صينية رغم أنه أشار إلى لقائهما الأول في محطة قطار في بداية الكتاب. ولا يقول أي شيء عن عائلته ولا عن قناعاته الدينية طبعًا.
7- يحتوي الكتاب على ملاحظات حول مهنة الدبلوماسي. من ناحية، يعارض الكاتب الرأي المنتشر في بعض أوساط الباحثين الغربيين الذاهب إلى تحبيذ تقليل عدد السفارات في العالم لأن المعلومات أصبحت متاحة للجميع، ولأن الدبلوماسي لا يرى الصورة كاملة، بل يركز فقط على العلاقات الثنائية. ويدحض الكاتب هذا الكلام، فلا يمكن معرفة ما يدور في بلد ما دون الإقامة فيها، ودون التفاعل مع سكانها حكامًا ومحكومين. ومن ناحية ثانية، ينتقد الكاتبُ الدبلوماسيَّ السطحيَّ الذي لم يتخصص في منطقة أو ثقافة ما، ويعتمد على ما يحصل عليه في صالونات ومجالس. ومن ناحية ثالثة، يبدي نوعًا من عدم الارتياح للعلاقة بين الدبلوماسية ورجال الأعمال، ولتأثير الشركات الوطنية الكبرى على رسم السياسة؛ فالأصل في رأيه أن الاقتصاد والشركات الكبيرة تخدم سياسة الدولة وليس العكس، وقلب الوضع الطبيعي يؤدي إلى نتائج سلبية. ومن ناحية رابعة، يشدد على واجبات الدبلوماسي تجاه وطنه، فعليه أحيانًا اتخاذ مبادرات دون العودة إلى رؤسائه، وعليه في أحوال كثيرة الاعتراض على قراراتهم وتصريحاتهم، وإدارتهم للمفاوضات، لا سيما إن تسببت في أزمة لا ضرورة لها وتبعاتها سلبية. ومن ناحية خامسة، تبنى السفير مقولة أثارت فضولي، وهي أن السفير لا يمثل بلده فقط، ولكنه يمثل أيضًا رئيس الدولة الذي اختاره لهذا المكان. ويقول إن هذا ما دفعه إلى اتخاذ قرار أن يكون الرئيس “شيراك” آخر رئيس دولة يعمل معه، وألا يكون سفيرًا بعده (انتقل إلى الجهاز المركزي للمحاسبات، وظل رئيسًا للجنة الاقتراحات والتوصيات بالخارجية). ولا أدري إن كان يرى في هذا القرار سنة يجب اتباعها؟ أم هو موقف من الرئيس “ساركوزي” -خَلَف “شيراك”- الذي يرفض شخصه وسياساته؟. هل هو موقف وفاء لرئيس أحبه كثيرًا؟ أم رفض لشخص الرئيس “ساركوزي” ولأسلوبه في التعامل ولجهله فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وتنكره لإرث “ديجول” (لا سيما فيما يتعلق بالعلاقة بالأمريكيين والناتو).
8- يرى “مارتان” أن إلحاق الهيئات التي تتولى الدفاع عن حقوق الإنسان بوزارة الخارجية خطأ كبير أضر بالسياسة الخارجية وبقضية حقوق الإنسان، حيث يرى أنه يتعين على الدبلوماسي الفرنسي الاتصال بالمعارضين دون مساعدتهم في أنشطتهم المعادية للدولة، وعلى فرنسا احتضان وتوفير حق اللجوء للمثقفين والمنشقين المطالبين بالحرية والديمقراطية، ولكنه يعارض سياسة التوبيخ العلني وتسجيل المواقف والتدخل في السياسات الداخلية والتضحية بالمصالح السياسية والاستراتيجية للدفاع عن الحقوق.
9- كما قلنا، هذه المذكرات جولة في مفاتيح مئات من الشخصيات العامة. قد يذهب قارئ إلى أن الكاتب يعرف الفرنسيين معرفة أعمق من معرفته بالصينيين، ويبني على هذا التشخيص مقولات واستنتاجات حول الاستشراق وحدوده، ولكنني لا أذهب هذا المذهب. من الطبيعي أن العمل مع زملاء لعقود يسمح بمعرفة أعمق لخصالهم لا تسمح بها المقابلات الاجتماعية. وقد يكون الكاتب تحفّظ في عرضه للصينيين لكي لا يُدخلهم في مشكلات مع النظام. ولا يتسع المجال لعرض تقييمه المفصل لكل الشخصيات العامة التي تعامل معها. ونكتفي بالقول إنه اعتبر “ديجول” و”دانج” شخصيات أسطورية وقادة عظامًا، واحترم واحتقر شخصيات من شتى ألوان الطيف السياسي، ودافع عن المستشار الألماني “شرودر” وعن دوره، ويرى فيه صاحب الإصلاحات التي دفعت ألمانيا إلى القمة وهي إصلاحات كلفته مستقبله السياسي. دافع عنه دون التقليل من شأن سلفه وخلفه. وأنه أحب “شيراك” واحترمه واحتقر “ساركوزي”. ونلفت النظر إلى تحليله لشخصيات سفراء احتلت منصب رئيس الخلية الدبلوماسية في الرئاسة، وكان أقربهم إلى قلبه السفير “بول جان-أورتيز” الذي عمل مع هولاند، وكان من المتخصصين في الشأن الصيني شأنه شأن صاحب الكتاب. ولم يكن يحب السفير “ليفيت” الذي عمل مع “ساركوزي”، حيث رأى فيه شخصًا ذكيًّا مثقفًا لا قناعات له، يقبل من الإهانات ما لا يمكن قبوله، ويتلذذ بإذلال زملائه في المقابل.
10- تتغير نبرة الكتاب تدريجيًّا؛ الحماسة غالبة في تغطية أحداث الستينيات والسبعينيات، ويحل محله تدريجيًّا الانزعاج ثم نوع من الأسي، انزعاج وأسى يرصدان التراجع الفرنسي. وبالمناسبة، هو لا يستخدم أبدًا مصطلحات مثل “تراجع” أو “انحلال”، ولكنه استخدم مصطلح “اختفاء” الدور في الخاتمة. ويبدو لي أن تركه مبكرًا (نسبيًّا) العمل الدبلوماسي قرار فرضه عدم الرضا.
11- يقول في آخر صفحات الكتاب إن دور فرنسا اختفى للأسباب التالية: ترك والتنازل عن رؤية للعالم تحبذ وتثمن التعددية القطبية وتحترم سيادة كل دولة، والعجز عن بناء مقاربة ومنهج أوروبيين، والتقوقع حول الذات وتمجيد ماضي فرنسا دون النظر إلى المستقبل ودون أي محاولة جادة لفهم “الآخر” واحترامه.
12- تحتاج نقطة موقفه من أوروبا إلى شيء من التفصيل؛ فهو لم يكن من معارضي المشروع الأوروبي، ولكن نظرته له أقرب إلى نظرة “ديجول. وكان متحفظًا على قبول عضوية المملكة المتحدة رغم تقديره للحجة “التاريخية”. المملكة المتحدة هي التي أنقذت القارة من النازية. ويقول إن الرئيس “بومبيدو” قبل تلك العضوية في النصف الأول من السبعينيات لأسباب وجيهة ولكنها زائلة. كان الرئيس الفرنسي ممتعضًا من المستشار الألماني “ويلي براندت” وسعيه إلى الانفتاح على المعسكر الشرقي، وكان يحب رئيس الوزراء البريطاني “إدوارد هيث” الكاثوليكي والمحب للمشروع الأوروبي، وقرر موازنة الأول بالثاني، ولم يستمر أحدهم في المنصب، وظل خلفاء “هيث” يثيرون المشكلات ويعطلون المسيرة ويفرضون تغييرات لقواعد العمل تفسد العمل المشترك. اعتراضهم الدائم كان أحيانًا مفيدًا، ولكنه بصفة عامة كان معرقلًا ومعطلًا ومضرًّا. ولم يكن متحمسًا لتوسيع العضوية الأول الذي تم في الثمانينيات، ولكن المشكلة كانت فيما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. من ناحية التوسع الكبير في العضوية جمع دولًا لا مصالح مشتركة بينها ولا ثقافة واحدة، بل عطل آليات العمل المشترك، عرض المنظومة لخطر ديكتاتورية الدول الصغيرة صاحبة الأغلبية العددية (أظن أن ما حدث في أول الأمر مختلف). يقول مثلًا: كيف نترك رسم السياسة الدفاعية لدول لا جيش لها، والسياسة العلمية لدول لا تعلم ما هو البحث العلمي.. إلخ؟. مشروع اليورو لم يدرس جيدًا وجاء ليناسب مطالب ألمانيا، ظهرت بوادر تصدع التحالف الألماني الفرنسي القائد للمجموعة، فرنسا متمسكة بالمساواة التامة بين الشريكين، وألمانيا ترى أنها أصبحت رقم واحد دون وجود أول مكرر. يُفهم من السرد أن “شيراك” و”شرودر” نجحا في تأجيل المشكلة، ولكنها عادت وظهرت، لأسباب منها أن “ميركل” لم تتحمل كثيرًا تقلبات “ساركوزي” واندفاعه غير المحسوب، ومنها أيضًا رفض الشركات الفرنسية التعاون مع الشركات الألمانية.. إلخ. فشلت كل محاولات خلق مجموعة صغيرة تضم الدول الكبيرة وتتولى القيادة لأنه لم يتم الاتفاق على تحديد من هي الدول الكبرى (إيطاليا مثلًا كانت معترضة أشد الاعتراض على اعتبار بولندا دولة كبيرة). لم ينجح الكبار في تفادي فخ إقصاء روسيا ومعاداتها رغم اعتراض “شيراك” و”شرودر” و”بوتين” على سياسات “بوش الابن”. إقصاء روسيا كان مطلبًا دائمًا لأغلب دول أوروبا الشرقية. وتدريجيًّا انقلب صاحب الكتاب من متحمس للمشروع الأوروبي إلى معترض عليه، وصوت بلا في استفتاء عام ٢٠٠٥.
نستطيع طبعًا ألا نؤيد الكاتب في كل ما ذهب إليه. إذ رأى، وما زال يرى، أن الحل هو في تقوية العمل الثنائي مع ألمانيا. وقد يكون هذا غير ممكن. ويرى كاتب هذه السطور أن على فرنسا بحث خيار بديل وهو العمل مع إيطاليا، ولكن موظفًا كبيرًا فرنسيًّا قال لي إن هذا الحل غير ممكن بصرف النظر عن توجهات الحكومة الإيطالية الحديثة، لأن جهاز الدولة الإيطالية أضعف كثيرًا من نظرائه.
13- من الصعب تلخيص مئات من الصفحات عن الصين والعلاقات الفرنسية معها، لكن يمكن القول إن فرنسا كانت أول دولة أوروبية تعترف بالصين، ولكن الفرنسيين بالغوا في تقدير أهمية هذا من ناحية، ولم يوفقوا في استغلاله من ناحية أخرى. بالغوا لأن الصين مع تقديرها لهذه الخطوة وتثمينها رأت أن فرنسا فشلت في إقناع أوروبا بضرورة اتخاذ نفس الموقف الفرنسي. وبالمناسبة يقول “مارتان” إن الصين ظلت لفترة طويلة تدعو إلى وحدة أوروبية وتثمن الخطوات في هذا الاتجاه، ثم اكتشفت أنها تستطيع استغلال الانقسامات الأوروبية للحصول على تنازلات وامتيازات، وفي المقابل فشلت فرنسا في استغلال هذا “السبق” لأسباب تتضح من السرد وتتابع الأحداث. ويركز “مارتان” بشدة على خوف كل من “بومبيدو” و”جيسكار ديستان” من التفاعل مع دولة لا يعرفونها ولا يعرفون ثقافتها ولا أسرار سياستها، ولا يملكون مفاتيح تسمح بمتابعة سياساتها الداخلية. وكان “ميتران” أكثر شجاعة. ويتحدث الكاتب باستفاضة عن عدوانية بعض الوزراء الاشتراكيين وقلة أدبهم، مثلًا شتم وزير فرنسي لحوح نظيره الصيني الذي رفض توقيع عقد، ووصفه بالغبي، وقالها مرات. ولعبت المنافسة مع ألمانيا وغيرها دورًا في الحد من التأثير ومن المبيعات، ولكن الكاتب يذكر على عجالة محددات تبدو لي أعمق تأثيرًا من الأخطاء التي لا تُحصى والتي ذكرها بالتفصيل. يقول بسرعة إن الاستثمار في الصين في السبعينيات والثمانينيات كان يتطلب دعمًا ماليًّا حكوميًّا من الدولة الفرنسية، لأن الصين كانت فقيرة وغير مضمونة وتطالب بصلابة بتسهيلات في الدفع ونقل تكنولوجيا.. إلخ. ولم تكن الدولة قادرة أو راغبة في تقديم هذا الدعم. وبصفة عامة، تعتمد الشركات الفرنسية الكبرى على الدولة في علاقاتها الدولية اعتمادًا كبيرًا، وقد يكون مبالغًا فيه. ويقول “مارتان” في موضع آخر، إن الصينيين ذكروا الفرنسيين بأن الكثير من منتجاتهم ضعيف التنافسية لارتفاع ثمنها، وهي مشكلة عانى منها الاقتصاد الفرنسي مع الارتفاع المتواصل في تكلفة السياسات الاجتماعية وتأثيرها على تكلفة قوى العمل. ويبدو أن هذا دفع الكثير من الشركات إلى اعتماد متزايد على ضغوط سياسية من قبل دولتهم وإلى دفع الرشاوى. ولا يعني ما سبق أن فرنسا لا تتمتع بمميزات نسبية مهمة في مجالات كثيرة منها الاتصالات والطاقة النووية والطيارات على سبيل المثال لا الحصر.
14- يفهم من الكتاب أن “هوبير فيديرن” لعب دورًا جوهريًّا في إقناع “ميتران” (ويعلم كاتب هذه السطور أنه وغيره لعبوا نفس الدور مع كل من “هولاند” و”ماكرون”) بحكمة وضرورة اتباع سياسة خارجية تستلهم خياراتها من مدرسة “ديجول” مع التكيف مع المستجدات وبعض من التراجع. لكن “ميتران” عين في أول الأمر وزيرًا لا يؤمن بتلك المبادئ وتسبب في مشكلات لا حصر لها لتوجهاته اليسارية الراديكالية. وعلى العموم، كان “ساركوزي” أول رئيس لا يعير لتلك المدرسة أي اهتمام.
15- مرت العلاقات مع الصين بأزمة عميقة بعد سحق بكين لاحتجاجات وانتفاضة طلابية سنة 1989. طالبت أغلب الدول الأوروبية بعقوبات، منها ضرورة حظر بيع الأسلحة للصين. وطبعًا كانت أكثر الدول مطالبة بالغلظة في العقوبات تلك التي لا تتعامل مع الصين أصلًا أو لا تبيع لها سلاحًا، أي تلك التي لن تخسر شيئًا. ولعب “مارتن” دورًا في تحرير القرارات الموقعة للعقوبات، وفي تخفيفها حماية لمصالح فرنسا. ولكن الصينيين فيما يبدو عرفوا أنه كان المحرر، ولكنهم لم يعرفوا أو تظاهروا بعدم معرفة أنه ساهم في تخفيف اللهجة، والحد من قائمة العقوبات. الأسوأ من هذا أن مجموعة ضغط نشطت في كواليس الحكومة تطالب باستغلال “الفرصة” لخرق تعهدات فرنسا وبيع سلاح لتايوان بالمليارات. وكانت هذه المجموعة تضم رئيسة وزراء ووزراء نافذين، وحصلت بسهولة على تأييد قوي من المؤسسة العسكرية، وكانت حجتهم أن تايوان غنية وستدفع ثمن الصفقة دون أي تأجيل. وعلم “مارتان” بوجود مثل هذا التوجه عندما أخبره الصينيون، وقام بمحاولات جبارة لمنع الصفقة المهددة لمصالح فرنسا السياسية والاقتصادية على المدى الطويل، وشرح الموضوع تفصيليًّا في عشرات من الصفحات، وحصل على وعد من وزير الخارجية “رولان دوما” بأن هذه الصفقة لن تتم، ولكنها تمت. وتصور “مارتان” أن “رولان دوما” خسر معركة الكواليس، وفجع عندما اكتشف بعد سنوات أن “رولان دوما” متهم بقبول هدايا ورشاوى في تلك العملية، وتساءل: هل كانت المقاومة لرفع سعر الهدية؟ أم هل قاوم “دوما” فعلًا ثم اضطر إلى تغيير رأيه؟.
ويتحدث “مارتان” بمرارة عن أسلوب وزير هو “دومينيك ستروس” الذي قال للصينيين: الصفقة مع تايوان ستجلب لفرنسا ٦ مليارات دولار.. لن ألغيها إلا إذا حصلت فرنسا على صفقات معكم بنفس القيمة. وطبعًا رفض الصينيون تلك المساومة، وذكّروا الفرنسيين بوعودهم. بذل “مارتان” جهودًا مضنية للتخفيف من تداعيات الأزمة وتجاوزها ولكنها طبعًا تركت آثارًا عميقة. ويبدي “مارتان” مرارًا تعجبه من وزراء يجمعون بين التسويق اللحوح للمنتجات والتوبيخ العلني للمشتري المحتمل في قضايا حقوق الإنسان.
16- المذكرات لفارس نبيل دافع دفاعًا مجيدًا عن المدرسة الديجولية في السياسة الخارجية، وعن “جاك شيراك”، في كتاب بديع أميل إلى اعتباره “تغريدة البجعة”، وانتقد -بل أطال في الانتقاد- تأثير النشطاء الحقوقيين مع إقرار أن على فرنسا دورًا يجب أن تلعبه في حماية من يطالب بالحرية وبالديمقراطية دون أن تتدخل فعلًا في شئون الدول الأخرى. وتحدث بسرعة عن بعض المحافظين الجدد رافضًا على عجالة سياساتهم القائمة على الشيطنة لأنظمة ما. وفي النهاية يبقى السؤال: هل تراجعت فرنسا لأنها تخلت تدريجيًّا عن مبادئ ديجول؟ أم العكس هو الصحيح؟ أي إنها لم تعد قادرة على تبنيها كلية لأنها تراجعت؟
إجابتي هي: المزيج من الاثنين.