الأزمة المتصاعدة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، التي تهدد بنشوب حرب بينهما، لم تحرك إسرائيل لإظهار موقف واضح منها. وحتى عندما علّق رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” على الأزمة، اختار بعناية ألا تحمل معنى التحريض المباشر لواشنطن ضد إيران. وحسب نص كلمته: “أكرر دعوتي إلى كل الدول المحبة للسلام للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في جهودها لوقف العدوان الإيراني. ونحن في إسرائيل نقف بقوة إلى جانبها”.
أيضًا لم يرد “نتنياهو” على التقديرات التي تناولتها الصحف حول احتمال تعرضها لرد انتقامي من إيران حال تلقت ضربة أمريكية، واكتفى “نتنياهو” أثناء إجراء تدريبات مكثفة لوحدات من الجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية بالتعليق: “أقول لأعدائنا إن الجيش الإسرائيلي يملك قوة تدميرية هائلة.. فلا تختبروننا”.
ونطرح فيما يلي مجموعة من العوامل التي يمكن من خلالها تفسير حالة الحذر الإسرائيلية تجاه الأزمة الإيرانية- الأمريكية.
1- عدم استفزاز الرأي العام الأمريكي
يعلم “نتنياهو” جيدًا أن أي تحريض مباشر للولايات المتحدة ضد إيران سيؤدي إلى مردود سلبي في نظرة الأمريكيين لإسرائيل؛ فالأغلبية في الشارع الأمريكي لا تودُّ الذهاب إلى حرب لا تبدو دواعيها قوية بالنسبة لهم، فضلًا عن أنها سوف تتسبب حتمًا في مقتل وإصابة آلاف من الجنود الأمريكيين، وتكلّف في الوقت نفسه دافع الضرائب الأمريكي ثمنًا باهظًا، سينعكس بالضرورة على وضعه المعيشي لسنوات قادمة. على الجانب الآخر، هناك أعضاء كونجرس وأكاديميون أمريكيون يتبنون موقفًا متحفزًا على الدوام تجاه إسرائيل، ويحذرون من انصياع السياسة الأمريكية لخدمة مصالحها، حتى ولو على حساب المصالح الأمريكية.
فعلى الجانب الأول، أوضح استطلاع للرأي نشرته وكالة “رويترز” للأنباء، في ٢١ مايو 2019، أن ٥٣% من الأمريكيين يعتقدون أن إيران مصدرٌ شديد الخطر مستقبلًا أو خطرٌ داهم على الولايات المتحدة، لكن ٦٠% منهم رفضوا رغم ذلك أن تقوم الولايات المتحدة بشن هجوم استباقي ضدها. كما أوضح ٤٠٪ منهم أنه في حال اضطرار الولايات المتحدة لشن هجوم على إيران، فإن الرد يجب أن يكون محدودًا وبضربات صاروخية وجوية فقط دون التورط في عمليات أرضية.
على الجانب الثاني، ما زالت أصداء دراسة قديمة كان قد أصدرها أكاديميان أمريكيان هما: “ستيفن والت” و”جون مارشيمر”، بعنوان “لوبي إسرائيل وسياسة أمريكا الخارجية” في عام ٢٠٠٦؛ تتردد كلما لاحت احتمالات تدخل عسكري أمريكي لصالح أحد حلفائها، خاصة إسرائيل. وكانت هذه الدراسة قد حاولت إثبات أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل بفعل الضغوط التي تمارسها منظمة إيباك (اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة) أضر بالمصالح والأمن الأمريكيين.
بمعنى أكثر وضوحًا، لم يشأ “نتنياهو” أن يظهر كمحرض على توجيه ضربة أمريكية لإيران حاليًّا حتى لا يستفز الرأي العام الأمريكي الذي يعتقد أغلبه أن تحريض “نتنياهو” للرئيس “دونالد ترامب” على سحب اعتراف الولايات المتحدة بالاتفاقية النووية الموقّعه مع إيران عام ٢٠١٥، كان البداية الحقيقية للتصعيد الجاري مع إيران الآن.
2- العقدة العراقية
رغم إدراك إسرائيل أنها لا تحتل مكانة متقدمة في بنك الأهداف الإيرانية في حال نشوب حرب بينها وبين الولايات المتحدة؛ إلا أنها تبني على خبرة حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) عام ١٩٩١؛ فقد أطلق العراق على إسرائيل أثناء هذه الحرب قرابة ٤٠ صاروخًا باليستيًّا، ولم تسمح الولايات المتحدة حينها لإسرائيل بالرد على هذه الضربات حتى لا يفقد التحالف الدولي الذي شكلته -آنذاك- تماسكه، خاصة أنه اعتمد بالدرجة الأولى على الدول العربية المعتدلة لإخراج العراق من الكويت، ومن ثم تخشى إسرائيل أن يؤدي انخراطها سياسيًّا وإعلاميًّا في التصعيد الجاري حاليًّا بين واشنطن وطهران إلى تقديمها كهدف في ترتيب بنك الأهداف الإيرانية التي يمكن تصورها على الوجه التالي، وفقًا لتطور حالة التصعيد واشتدادها: مواقع صناعية وعسكرية وسفن تجارية خليجية، سفن تجارية أمريكية، مواقع داخل إسرائيل، قواعد أمريكية في دول الخليج وأساطيل عسكرية أمريكية.
ورغم أن إسرائيل ستكون قادرة على الرد على إيران، وإلحاق أضرار كبيرة بمنشآتها الصناعية والعسكرية؛ إلا أن خسائر إسرائيل في حال تلقيها ضربات صاروخية مكثفة من داخل إيران، وعبر ترسانة حزب الله في لبنان، ستكون كبيرة للغاية، وهو ما تسعى إسرائيل لتفاديه. وفِي هذا الصدد، أشار مقال في “هآرتس”، بتاريخ ١٨ يونيو الجاري، كتبه المحلل الإسرائيلي “حمي شاليف”، إلى احتمالات أن ترد إيران على الضربات الأمريكية تجاهها عبر حث حزب الله على إطلاق آلاف الصواريخ الموجهة وغير الموجهة نحو المواقع الاستراتيجية الإسرائيلية وتجمعات السكان، خاصة في شمال ووسط إسرائيل. وتوقع “شاليف” أنه سيكون من الصعب على الدفاعات الإسرائيلية ضد الصواريخ التعامل مع مثل هذه الضربات الكثيفة، وأن رأسًا تقليديًّا متفجرًا تحمله صواريخ متوسطة المدى ولا يزيد وزنه عن ٥٠٠ كلجم، يمكن أن يقتل كل البشر المتواجدين في نطاق مائة متر من مرمى سقوط كل صاروخ.
أيضًا رجحت دراسة أجراها الخبير الأمني الإسرائيلي “إفرايم كام” ونشرت في مجلة Strategic Assessment في أبريل الماضي، أن الخطر الأكبر على إسرائيل في حالة نشوب مواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران ولجوء الأخيرة إلى توجيه ضربة انتقامية لإسرائيل، سيكون على الأرجح من جانب حزب الله وليس من قواعد إطلاق داخل إيران. وحذر “كام” من أن حزب الله لديه أكثر من مائة وخمسين ألف صاروخ متفاوتة المدى، وبعضها يحظى بأجهزة توجيه فائقة الدقة وبقوة تدميرية كبيرة.
في ظل هذه الاحتمالات، تبدو إسرائيل حريصة على ألا تضع نفسها في مرمى نيران الانتقام الإيراني المحتمل حال وصول التصعيد مع واشنطن إلى حالة الحرب، خاصة أن إيران سبق لها أن أطلقت صواريخ من داخل مواقع الحرس الثوري الإيراني في سوريا ضد مواقع للجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان السورية المحتلة. والأمر المؤكد أن خشية إسرائيل لا تنبع من الخسائر العسكرية مهما كان حجمها قدر خشيتها من الخسائر البشرية الضخمة التي قد تُمنَى بها في حالة تركيز الضربات الإيرانية وضربات حزب الله الصاروخية على التجمعات السكانية.
3- إسرئيل تسعى لتحجيم إيران لا لإسقاطها
حتى لو كان لإسرائيل مصلحة كبرى في توجيه ضربة أمريكية قوية لإيران قد تتضمن مقدراتها الاقتصادية والصناعية ومنشآتها النووية، فإنها تدرك مخاطر حدوث هذا السيناريو تأسيسًا على ما سبق أن أوضحناه من أن تدمير إيران وإسقاط حكم الملالي سيسبقه بالضرورة رد إيراني بالغ القوة والتدمير للتجمعات السكانية في إسرائيل. ولتفادي مثل هذا السيناريو، لا تسعى إسرائيل حقيقة لإيصال التصعيد الجاري بين واشنطن وطهران إلى حالة حرب شاملة، بل تؤيد تشديد العقوبات على إيران، والإبقاء على الحشد العسكري الأمريكي في الخليج لردعها. كما دعا “نتنياهو” بوضوح إلى مساهمة كافة دول المنطقة في دعم الموقف الأمريكي سياسيًّا، بحيث يمكن انتزاع إدانات دولية وتأييد واسع النطاق لتشديد الحصار من حولها، على أمل أن تنصاع في النهاية وتقبل بالجلوس إلى مائدة التفاوض بدون شروط كما قال الرئيس “ترامب”، وعندها ستحاول إسرائيل التأثير في المفاوضات لأجل تحقيق ثلاثة أهداف أساسية، هي: تقليل قدرات التخصيب النووي لدى إيران آليًّا للحد الذي لا يسمح لها بتصنيع أسلحة نووية بدون سقف زمني، والتفاوض حول الحد من التجارب الصاروخية الإيرانية ووضعها تحت رقابة دولية، وإنهاء الوجود الإيراني بكل أشكاله العسكرية من سوريا وخفض إيران دعمها التسليحي لحزب الله في لبنان.
وبرغم صعوبة تصور أن تحقق إسرائيل انتصارًا لها في هذه الملفات الثلاثة؛ إلا أنها على الأقل ستضمن تقديم إيران لتنازلات ملموسة في بعضها أو كلها وفقًا لحجم الأضرار التي ستلحقها العقوبات المشددة بإيران، ووفقًا لقدرة إيران على الصمود في مواجهة الحصار اقتصاديًّا وسياسيًّا.