من المعروف -تاريخيًّا- أنه من الصعب التنبؤ بمسارات العلاقات الروسية-التركية في مراحلها المختلفة منذ صراعات الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وحربيهما المدمرتين في القرن التاسع عشر، واللتين انتهيتا بتحلل الإمبراطوريتين خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، وتحولهما إلى دولتين جديدتين، هما: الاتحاد السوفيتي، والجمهورية التركية. وظلت الخلافات والمشاكل قائمة بين الطرفين، على خلفية انضمام تركيا إلى حلف الناتو، واستمرار روسيا على رأس حلف وارسو الذي ضم الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الأخرى.
الخلافات التاريخية بين موسكو وأنقرة هي خلافات معقدة ومتشعبة. وعلى الرغم من التقارب الأخير بين البلدين، لكن كان وما يزال العامل الذي يجمعهما هو العداء للولايات المتحدة. وتجلى ذلك عندما دعمت موسكو الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ضد محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016. والمهم هنا، أن درجة الاحتقان كانت قد وصلت إلى ذروتها بين روسيا وتركيا بسبب الأزمة السورية من جهة، وبسبب إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية، ومقتل السفير الروسي في أنقرة من جهة أخرى.
لقد وصلت درجة الاحتقان هذه إلى إلغاء تسهيلات قنصلية مهمة بين البلدين، وتراجع السياحة الروسية في تركيا، وهبوط حجم التبادل التجاري من 60 مليار دولار سنويًّا إلى ما فوق الثلاثين بقليل. وكان من المتوقع، حسب تصريحات الطرفين، أن يصل حجم التبادل التجاري بينهما بحلول عام 2020 إلى 100 مليار دولار. ورغم هذا المستوى من الاحتقان؛ إلا أن موسكو دعمت “أردوغان” ضد الانقلاب. وتبعها حدوث نقطة تحول لا تزال تثير التساؤلات في علاقة “أردوغان” بالولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وحدث العكس تمامًا في علاقته مع روسيا.
تاريخ فاصل في العلاقات التركية-الروسية
يُعتبر تاريخ 12-13 يونيو 2019 تاريخًا فاصلًا ومهمًّا في العلاقات الروسية-التركية. في هذا التاريخ تحديدًا، اتضح أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” قد تأكد بدرجة كبيرة أنه وضع نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” في أضيق زاوية ممكنة. وبات من الصعب على “أردوغان” المناورة. ولم يعد يستطيع الرد إلا بتصريحات -على لسان مرءوسيه- معادية للولايات المتحدة، وتؤكد تصميمه على شراء منظومة “إس 400” الروسية. وأصبح من الملاحظ جيدًا أن “بوتين” نجح في إخضاع “أردوغان”، وهو ما لم تقدر عليه الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي.
وخرج “بوتين” في 14 يونيو ليعلن أنه “من الضروري القضاء التام والنهائي على البؤر الإرهابية في إدلب”. ولم يكن هذا التصريح مجرد تصريح عابر أو بروتوكولي؛ فقد سبقه يومان عصيبان؛ إذ أكدت وزراة الدفاع الروسية، صباح 13 يونيو، في بيان رسمي لها، أن سلاح الجو الروسي شن 4 ضربات على إدلب وفق الإحداثيات التي قدمها الجانب التركي، وأن القيادة التركية قدمت طلبًا لروسيا للمساعدة “في توفير الأمن لعسكرييها وشن ضربات على مواقع الإرهابيين في إدلب”. وجاء في البيان أنه “نتيجة لذلك تم القضاء على تجمعات كبيرة من المسلحين ومواقع للمدفعية الميدانية”.
قبل هذه التصريحات المهمة والخطيرة بساعات قليلة، كان المركز الروسي للمصالحة في سوريا، التابع لوزارة الدفاع الروسية، قد أعلن عن التوصل إلى اتفاق يقضي بالوقف التام لإطلاق النار في منطقة إدلب. وقال رئيس المركز الروسي للمصالحة في قاعدة حميميم الروسية في سوريا “فيكتور كوبتشيشين”، إنه “بمبادرة من الجانب الروسي وتحت رعاية روسيا وتركيا، تم التوصل إلى اتفاق ينص على الوقف التام لإطلاق النار في كامل أراضي منطقة إدلب لخفض التصعيد، اعتبارًا من منتصف ليلة 12 يونيو 2019”. ولكنه لم يحدد إلى متى سيستمر وقف إطلاق النار. وبطبيعة الحال، لم يستمر، أو بالأحرى لم يبدأ أصلًا، لأن موسكو قامت بتوجيه ضرباتها في إدلب، مؤكدة أن “التنظيمات الإرهابية، حلفاء إرهابيي جبهة النصرة، رفضت وقف إطلاق النار واستمرت بالإطلاق المكثف باستخدام المدفعية”.
وأوضح “فيكتور كوبتشيشين” أنه “نتيجة لوقف إطلاق النار، سجلنا انخفاضًا كبيرًا في عدد الهجمات من جانب الجماعات المسلحة في المنطقة، حيث رصد المركز وقوع حالتي قصف فقط منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ”. وأكد بطبيعة الحال أن “القوات التابعة لنظام دمشق التزمت في الفترة المذكورة ببنود الاتفاق، ولم تطلق النار ردًّا على قصف المسلحين”. لكن بسبب قصف المسلحين “سجل المركز الروسي، في 11 يونيو، أي عشية سريان الاتفاق، 12 حالة قصف من قبل الجماعات المسلحة الناشطة في منطقة إدلب، طالت مدنًا وبلدات في محافظتي اللاذقية وحلب وريفها”، حسب تصريحات رئيس المركز الروسي.
ومن الواضح أن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يُعاني من ظروف سيئة للغاية، وموقفه ضعيف جدًّا؛ إذ يواصل نظام الأسد ضرباته في ريف إدلب، وتقوم روسيا بقصف أهداف ومواقع في إدلب أيضًا، بينما “أردوغان” نفسه لا يستطيع حتى الإعلان عن موقف محدد. وتتسم أغلب تصريحات أنقرة بأنها مطاطة وفضفاضة وغير مفهومة، وتعكس حالة من التأرجح والضعف والحرج. ومن الواضح أيضًا أن الروس تأكدوا تمامًا الآن أن “أردوغان” بات مكتوف الأيدي، ولم يعد لديه حلفاء حقيقيون يمكنه الاستناد إليهم؛ فبدأوا بالضغط عليه لإتمام شراء منظومات “إس 400” الروسية من جهة، وتوجيه ضربات في إدلب بالتزامن مع ضربات قوات الأسد، من جهة أخرى.
كذلك، بات من الواضح أن “أردوغان” لا يستطيع التراجع عن أي خطوة اتخذها في اتجاه التعاون مع روسيا، وإلا سيخسر كثيرًا، وقد يتعرض هو شخصيًّا، وتتعرض تركيا، لمخاطر غير محمودة العواقب.
إن موسكو ببساطة تتعامل مع “أردوغان” وفق سياسة خطوة للأمام وخطوتين للخلف. وتتبع معه تكتيكات تنم عن ذكاء روسي شديد، وقدرة على المناورة والضغط. بينما هو قد خسر حلفاءه، وشتت قدرات تركيا لدرجة لافتة ومثيرة للمخاوف. ومن أجل الخروج من مأزقه هذا بدأ يدلي بتصريحات مثيرة للدهشة لا علاقة لها بالأحداث من جهة، وتحمل رسائل في اتجاهات متباينة، من جهة أخرى.
مأزق “أردوغان”
مثل هذا التوجه يشير إلى أن “أردوغان” في مأزق حقيقي بعد أن نجح “بوتين” في حصاره تمامًا، وإحكام قبضته عليه، ومن ثم عزله ليس فقط عن محيطه الإقليمي، بل وأيضًا عن حلفائه في حلف الناتو، ودق أكثر من إسفين بينه وبين واشنطن وبروكسل. في هذا السياق، يحاول الرئيس التركي الآن الخروج من هذا “الفخ” الروسي، وإلا سيصبح مصيره مثل مصير دمشق وطهران وكاراكاس، حيث بات مصير العواصم الثلاث مرهونًا بأي تحركات وقرارات وتوجيهات روسية حصرًا. العداء للولايات المتحدة هو الذي يجمع بين هؤلاء جميعًا.
لقد استفادت روسيا من كل أخطاء تركيا وانفعالات رئيسها لتتقرَّب من المملكة العربية السعودية، ووظفت بشكل جيد الخلاف السعودي-التركي على خلفية قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”، حيث أيَّدت موسكو جميع تصريحات وخطوات وإجراءات الرياض. واستفادت كذلك من خلافات السعودية مع قطر، لتتقرَّب من الأخيرة، وتدفعها نحو إيران وتركيا، تمهيدًا لعزلها تدريجيًّا. واستفادت من التناقضات الأمريكية-السعودية، لتتقَرَّب من الأخيرة وتبدأ في طرح مشروعات اقتصادية وعسكرية وأمنية ليس فقط داخل المملكة، بل على مستوى منطقة الخليج بشكل عام.
وإذا كنا نتحدث الآن عن الأوراق التي بيد كلٍّ من موسكو وأنقرة، والسيناريوهات المستقبلية لكل منهما تجاه الأخرى، ولكل منهما على حدة تجاه المنطقة، ولكل منهما معًا تجاه قضايا وملفات بعينها؛ فإن روسيا نجحت في عزل تركيا، وتجريدها من أوراق وتحالفات وصداقات كثيرة. كما نجح “أردوغان” نفسه في إضعاف حزبه السياسي المحافظ بسبب مغامراته السياسية والأيديولوجية، وتجريد بلاده من أذرع وعلاقات مفيدة مع محيطها العربي والأوروبي.
أوراق موسكو
لقد أعربت روسيا أكثر من مرة، وعلى مستويات مختلفة، عن امتعاضها من دعم أنقرة “للإرهابيين وللفصائل المسلحة في إدلب”، وحتمية قيام قوات الأسد والقوات الروسية بالقضاء عليها. وبطبيعة الحال، يمكن أن نلمح أن إدلب أصبحت مكانًا لتضارب مصالح الأسد والمعارضة، والمقاومة الكردية والجيش التركي، وروسيا وتركيا. كما أن روسيا مستاءة جدًّا من تحركات تركيا طالما أنها لا تخدم روسيا عمومًا، ولا تضر بالولايات المتحدة على وجه الخصوص. وبالتالي، إذا بقيت تركيا تدعم الإرهابيين والمسلحين وفصائل المعارضة الذين يقاتلون في إدلب، فإن موسكو ستفعل مثل واشنطن، وستبدأ في التعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية. وإذا جرت الأمور كذلك، فستعود الثقة بين روسيا والأكراد من جديد، كما كان الأمر عليه إبان وجود الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان يدعم المقاومة الكردية في تركيا.
هناك شكوك كبيرة في قدرة موسكو حاليًّا على الوقوف مع الأكراد السوريين، لأن روسيا لا تزال بحاجة ماسة إلى علاقاتها “الجيدة” مع تركيا. لكن الأتراك، من جهة أخرى، عاجزون عن حل مشكلة إدلب. وبالتالي، ووفقًا لرؤية الكرملين، لا حل لنزاع إدلب إلا بإدخال قوات الأسد إلى المدينة، وتمكينها من تدمير الإرهابيين هناك، ومن ثم سيتم الحفاظ على العلاقات الروسية التركية “الجيدة”، ذلك أن أسباب تدهورها ستنتفي، خلاف ما سيحصل حتمًا إذا وقفت روسيا إلى جانب الأكراد. ومن الممكن، طبعًا، أن تقف روسيا ليس فقط مع الأكراد، وإنما تبدأ باستخدام أوراق أخرى، إذا ما بدأت تركيا في التذمر أو إبداء التمرد. وفي كل الأحوال، لن تظل روسيا طويلًا إلى جانب تركيا، فالمسألة مرهونة بقدرة موسكو على إخضاع أنقرة، لكي تبدأ الأولى في مواصلة تحقيق طموحاتها، وتبديل أولوياتها وتحالفاتها التكتيكية التي تندرج تركيا ضمنها.
هناك رأي يتبناه جناح مؤثر في السياسة الروسية، وهو أنه في الوقت الذي ستقضي فيه قوات الأسد، بدعم من روسيا، على المسلحين في إدلب، ستغضب تركيا، وسيطالب “أردوغان” “بوتين” بوقف إطلاق النار فورًا. لكن هذه كلها لعبة دبلوماسية، كما تراها تلك الأجنحة. وفي الواقع، سيتعين على أنقرة قبول ما يحدث؛ إذ لا مخرج أمامها، ذلك أن تركيا، على خلفية تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة، تحتاج إلى روسيا لتهديد الغرب، على مبدأ، إذا لم تلعبوا وفق قواعدنا، سنتوجه نحو موسكو.
إن أي خلاف بين “بوتين” و”أردوغان” سيضع الطرفين بين فكي الولايات المتحدة. ولذلك فكل منهما مجبر على تملق الآخر وتحمله. لكن موازين القوى هي الفيصل في تشكيل العلاقة وتوجيهها. ومن الواضح أن الموازين تميل لصالح روسيا التي تدفع بأردوغان إلى حتفه بالمعنى السياسي والدبلوماسي. وحتى إذا كان “أردوغان” يدرك ذلك ويلمسه جيدًا على أرض الواقع، فهو لا يملك أي أوراق تساعده على المناورة أو المقاومة أو المواجهة. ولم يعد لديه إلا العودة لعلاقات طيبة مع دول الجوار العربي، والتخلي عن “وهم” مشروع الخلافة والإمبراطورية الأردوغانية، ومراجعة سياساته نحو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. فهل “أردوغان” قادر على اتخاذ أي من هذه الخطوات أو جميعها؟! وهل يمكن أن تقبله هذه الأطراف بعد كل ما فعله؟! وهل يمكن أن تتركه روسيا ببساطة وهي لم تستكمل بعد مشروع “السيل الجنوبي” لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وبناء المحطة الكهروذرية التركية، وإمداد الترسانة العسكرية التركية بمنظومات “إس 400″، وهل يمكنها أن تتنازل عن خططها مع تركيا بعد أن أحكمت قبضتها على أنقرة بدرجة ليست أقل من مثيلتها بالنسبة لدمشق وطهران؟!