ألقت المستجدات الأخيرة في إثيوبيا الضوء على ما تعانيه البلاد مؤخرًا من تدهور حادٍّ في الأوضاع الأمنية والسياسية. ففي مساء السبت، الثاني والعشرين من يونيو من عام 2019، لقي رئيس ولاية أمهرة “أمباتشيو ميكونين” ومستشاره “إزيز واسي” مصرعهما في مدينة “بحر دار” عاصمة الولاية، وذلك بعد أن اقتحمت مجموعة مسلحة اجتماعًا لمسئولي الولاية في مقر حكومتها. كما أسفر الحادث عن إصابة النائب العام للولاية “ميجبارو كبيدي” بإصابات بالغة أدت إلى وفاته بعد يومين.
ووفقًا للتصريحات الرسمية الإثيوبية فإن جنرال الجيش المتقاعد “أسامنيو تسيجي” -رئيس جهاز السلم والأمن في حكومة ولاية أمهرة- قاد بنفسه المجموعة المسلحة بعد علمه بأن اجتماع مسئولي حكومة الولاية كان بغرض بحث آليات التصدي للتوجهات المتطرفة لـ”تسيجي” الذي سبق وأن دعا أبناء جماعة أمهرة لحمل السلاح، وشرع في تشكيل ميليشيات مسلحة من المتطوعين خارجة عن سلطة الحكومة الإثيوبية وحكومة ولاية أمهرة.
وفي العاصمة أديس أبابا، أشارت العديد من المصادر، وفي مقدمتها السفارة الأمريكية، إلى سماع دوي إطلاق نار قرابة التاسعة ليلًا من اليوم ذاته، وهو ما تبين لاحقًا أنه مرتبط بحادث اغتيال رئيس أركان الجيش الإثيوبي “سياري ميكونين” في مقر إقامته على يد أحد حراسه الشخصيين ليلقى مصرعه هو الآخر مع اللواء المتقاعد “جيزاي أبيرا” أثناء تخطيطهما لاستجابة صارمة من المؤسسة العسكرية للتمرد في “بحر دار”.
في اليوم التالي أعلن العميد “تيفيرا مامو” -قائد القوات الخاصة في إقليم أمهرة- أن معظم الأشخاص المشاركين في “محاولة الانقلاب” تم القبض عليهم وفرار عدد قليل آخر. وقد بادر رئيس الوزراء الإثيوبي بالظهور إعلاميًّا في خطاب مصور ارتدى فيه زيًّا عسكريًّا مموهًا -بدون رتبة- اعتبر فيه ما جرى انقلابًا تم إحباطه في ولاية أمهرة، قاده عدد من كبار المسئولين العسكريين في الولاية وعدد من المنتسبين للقوات المسلحة. ورفض “أبيي أحمد” في خطابه المصور اتهام جماعة إثنية معينة بارتكاب الحادث، داعيًا كل الإثيوبيين، “مسلحين وغير مسلحين”، للوقوف بجانب الحكومة وتقديم المعلومات للدفاع عن وحدة بلادهم. وربط “أبيي أحمد” بين ما جرى في “بحر دار” وبين التفجير الذي وقع في ساحة “مسكل” بالعاصمة أديس أبابا خلال تجمع جماهيري لأنصاره قبل عام. كما أعلنت “بيلين سيوم”، المتحدثة باسم رئيس الوزراء، أن الجنرال المتقاعد “أسامنيو تسيجي” -رئيس جهاز الأمن في ولاية أمهرة- كان هو العقل المدبر للعملية، وأن الوضع في ولاية أمهرة تحت السيطرة الكاملة للحكومة الفيدرالية. وفي الرابع والعشرين من يونيو، أُعلن عن مقتل “أسامنيو تسيجي” على يد قوات الأمن في العاصمة أديس أبابا أثناء محاولته الهرب.
ويُعد الحادث الأخير -بما تضمنه من اغتيالات لكبار المسئولين السياسيين والعسكريين في “بحر دار” وأديس أبابا- هو ثالث مظاهر تمرد المؤسستين العسكرية والأمنية على حكم “أبيي أحمد”. ففي الثالث والعشرين من يونيو 2018، تورط عدد من منتسبي المؤسسة الأمنية في حادث الهجوم على تجمع لأنصار “أبيي أحمد” أثناء إلقائه خطابًا جماهيريًّا، ليخرج رئيس الوزراء بعد الحادث ليؤكد ضلوع عدد من منتسبي المؤسسة الأمنية، قبل أن يتم إلقاء القبض على تسعة من الضباط من بينهم أحد كبار القادة في شرطة العاصمة. وفي أكتوبر 2019، قام عدد من ضباط القوات الخاصة بمحاصرة مقر رئاسة الوزراء للاحتجاج على سوء الأوضاع الداخلية، قبل أن يستعيد “أبيي أحمد” السيطرة على الوضع بنفسه، ليكرر اتهامه لبعض المسئولين في المؤسسة العسكرية بلعب أدوار تحريضية.
وبينما تتبنى الحكومة الإثيوبية صياغة سياسية للحوادث الثلاثة تقوم على فرضية اعتبارها “انقلابات عسكرية” تسعى لتقويض الديمقراطية، تشير الوقائع إلى أن أيًّا من الوقائع الثلاث لم تستهدف الإطاحة بالحكومة المركزية وتنصيب حكومة عسكرية بديلة. ولا يُقلل غياب الهدف السياسي الواضح عن وقائع التمرد الثلاثة من خطورة أي منها، أو من وجود تيارات متصاعدة داخل المؤسستين العسكرية والأمنية غير متوائمة مع سياسات رئيس الوزراء.
ويأتي التمرد الثالث -على وجه الخصوص- ليكشف عن الكثير من مشكلات الواقع السياسي والأمني الإثيوبي التي ترتبت على سياسات “أبيي أحمد” التي انتهجها خلال خمسة عشر شهرًا قضاها رئيسًا للوزراء في إثيوبيا. ونناقش فيما يلي أبرز هذه المشكلات.
أولًا- تداعيات سياسات التغيير غير محسوبة العواقب
من بين الظواهر الملفتة أن “أسامنيو تسيجي” الذي اتهمته الحكومة بتدبير التمرد هو عسكري سابق، قضى الأعوام التسعة الأخيرة في السجن على إثر اتهامه بالاشتراك في انقلاب عسكري، قبل أن يُفرج عنه مؤخرًا. ففي مايو من عام 2009، أُلقي القبض على “تسيجي” مع مجموعة من ضباط القوات المسلحة العاملين والمتقاعدين بتهمة تدبير محاولة انقلابية استهدفت الإطاحة برئيس الوزراء الأسبق “ميلس زيناوي” بالتنسيق مع مجموعة Ginbot 7 المعارضة والتي صنفتها الحكومة الإثيوبية كجماعة إرهابية، ليُحْكَمَ على “تسيجي” بالسجن المؤبد. لكنه قضى تسع سنوات فقط في السجن قبل أن يُفرج عنه بعد تولي “أبيي أحمد” السلطة في ظل سياسة الإفراج عن المعتقلين “السياسيين”.
وبالرغم من خطورة الجريمة التي حُكم على “تسيجي” بموجبها بالسجن؛ إلا أن السياسات الجديدة لم تكتفِ بإطلاق سراحه؛ ففور خروجه من السجن اعتُبر “تسيجي” متقاعدًا من الخدمة العسكرية بكافة مزايا رتبته السابقة. كما سُمح له بالانخراط في العمل السياسي عبر حزب أمهرة الديمقراطي -أحد الأحزاب الأربعة المكونة للجبهة الديمقراطية الثورية الحاكمة في إثيوبيا- ليُنتخب في أكتوبر 2018 عضوًا في اللجنة المركزية التي تُعد أهم دوائر اتخاذ القرار في بنية الحزب. كما شارك “تسيجي” في حكومة الإقليم التي يهيمن عليها حزب أمهرة الديمقراطي، بعد أن تولى منصبًا بالغ الأهمية تمثل في رئاسته جهاز الأمن التابع لحكومة ولاية أمهرة. ومنذ ذلك الحين، كشف “تسيجي” عن توجهات شديدة التعصب والخطورة؛ إذ ترتكز أفكاره على قضية “المظلومية الأمهرية” التي تراكمت خلال سنوات حكم “ميلس زيناوي” المنتمي لجماعة تيجراي. وسرعان ما تواترت الأنباء عن إقامة “تسيجي” معسكرات تدريب لقوات غير نظامية من أبناء جماعة أمهرة تتبنى نسخة شديدة التعصب من التوجهات القومية الأمهرية. وخلال حفل تخريج دفعة جديدة من قوات أمن الولاية ألقى “تسيجي” خطابًا تحريضيًّا دعا فيه أبناء الجماعة لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم، في ظل الصراعات الإثنية التي تخوضها الجماعة مع الجماعات المجاورة والتي تفاقمت آثارها في ظل الأوضاع الأمنية والسياسية المتدهورة في إثيوبيا. ولم تكن كل هذه المؤشرات كافية للفت انتباه الحكومة المركزية لخطورة نشاط “تسيجي” بعد الإفراج عنه بما سمح له بأن يخطط وينفذ التمرد الأخير.
ولا يُعد الموقف من “أسامنيو تسيجي” حالة فردية تكشف عن التداعيات السلبية للسياسات “الإصلاحية” غير محسوبة العواقب، إذ يتشابه وضعه إلى حدٍّ بعيد مع موقف “أبيي أحمد” من جبهة تحرير أورومو إحدى أهم حركات التمرد المسلحة التي عانت إثيوبيا من نشاطها طوال فترة حكم “ميلس زيناوي”. فبعد أن وقع “أبيي أحمد” مع الجبهة اتفاقًا للسلام قضى بعودة مقاتليها من منفاهم في إريتريا، واجهت البلاد معضلة أمنية جديدة تمثلت في عجز الدولة عن نزع سلاح هؤلاء المقاتلين الذين اتجهوا للنشاط الإجرامي في مدن إقليم أوروميا، ولممارسة اعتداءات متكررة على مدن الأقاليم المجاورة، الأمر الذي استدعى تدخل القوات المسلحة في بعض المواقع.
ثانيًا- الإصلاحات المتعثرة للمؤسسة العسكرية والأمنية
من بين ما كشفت عنه التطورات الأخيرة ما تعانيه المؤسستان العسكرية والأمنية في إثيوبيا من مظاهر ضعف شديد، تتمثل في: غياب الانضباط، والتسييس، وهيمنة الولاءات الإثنية. وقد أولى “أبيي أحمد” أهمية خاصة لمعالجة القضايا الداخلية للمؤسستين العسكرية والأمنية، لكن الحدث الأخير كشف عن التقدم المحدود الذي أحرزته هذه الإصلاحات؛ فالوحدة العسكرية الجديدة التي حملت اسم “الحرس الجمهوري” والتي تأسست في أعقاب تمرد القوات الخاصة في أكتوبر 2018 كانت مهمتها الأساسية حماية كبار المسئولين، وهو ما لم يكن كافيًا لحماية رئيس الأركان ورئيس حكومة ولاية أمهرة. كذلك فإن عملية الإصلاح التي أعلن عنها عدد من قيادات المؤسسة العسكرية في ديسمبر 2018 كانت تستهدف بالأساس تعزيز التزام العسكريين بالحيادية والاحترافية، وهي الأهداف التي لا تزال بحاجة للكثير من الوقت والجهد كي تتحقق على أرض الواقع.
وبعيدًا عن سياسات الإصلاح التي لم تحقق نجاحًا ملموسًا، كشف التمرد الأخير أيضًا عن مستوى حاد من التدهور متعدد الأبعاد الذي يضرب المؤسسة العسكرية الإثيوبية. فمن ناحية، كان العقل المدبر وراء الحادث رجل عسكري سابق يتولى الإدارة الأمنية في واحدة من الحكومات الإقليمية، بما يعني أنه كان بعيدًا تمام البعد عن بنية قيادة المؤسسة العسكرية، ومع ذلك تمكّن من تحريك مجموعات مسلحة للهجوم على مقر حكومة إقليم أمهرة وغلق بعض الشوارع. ومن ناحية أخرى، تمكن المتمردون من التنسيق مع الحرس الشخصي لرئيس أركان القوات المسلحة، الأمر الذي يمثل اختراقًا أمنيًّا كبيرًا. ومن ناحية ثالثة، تضمن التمرد الأخير عمليتين منفصلتين إحداهما في العاصمة والأخرى في مدينة رئيسية أخرى هي بحر دار، الأمر الذي يشير إلى تطور في القدرات التخطيطية والتنفيذية للتيارات المناوئة لـ”أبيي أحمد” داخل المؤسسة العسكرية.
ثالثًا- تصاعد مخاطر النزعات الانفصالية في الولايات الرئيسية
من بين المشاهدات المهمة في الحادث الأخير تأكد حقيقة أن الهدف الأصلي لم يكن اغتيال “أبيي أحمد” أو السيطرة على مؤسسات الحكم الفيدرالية في العاصمة أديس أبابا. ويشير هذا الوضع إلى أن الخطر الأكبر الذي يواجه “أبيي أحمد” لم يعد متمثلًا في الإطاحة به عبر انقلاب عسكري، بل في النزعات الانفصالية المتصاعدة لدى مختلف الجماعات الإثيوبية، والتي قد لا تستهدف مؤسسات الحكم في العاصمة، لكنها عوضًا عن ذلك ستهدد بقاء إثيوبيا الموحدة مستقبلًا.
وتعزز عدة عوامل من تصاعد هذا الخطر على وجه التحديد؛ أولها طبيعة النظام السياسي المعززة للانتماءات الأولية؛ فالفيدرالية الإثنية التي يتبناها الدستور الإثيوبي تعترف بالهويات الإثنية وتجعل منها أساسًا لتقسيم البلاد إلى تسع ولايات على أساس المكون الإثني الغالب مع منح حكومات الولايات صلاحيات موسعة. أما العامل الثاني فيتعلق بتآكل قدرات المؤسسات المركزية السياسية والأمنية على فرض السيطرة على مختلف الولايات، الأمر الذي تكررت معه حالات التمرد من جانب حكومات الولايات على نحو ما شهده الإقليم الصومالي في صيف عام 2018. ويتصل العامل الثالث بطبيعة الإصلاحات التي طرحها “أبيي أحمد” والتي أتاحت الفرصة للتوجهات الانفصالية المتشددة للظهور بحرية لدى مختلف الجماعات الإثيوبية.
على ذلك، تشهد العلاقة بين الجماعات الإثنية الإثيوبية حاليًّا مستويات غير مسبوقة من العنف يشمل تقريبًا كل جماعة والجماعات المجاورة لها، حيث تنخرط الولايات الإثيوبية الآن في “صراعات حدودية” متعددة خلفت أكثر من مليوني نازح في أعقاب تبني كل جماعة إثنية سياسات “تطهير” إقليمها من “الأجانب” من أبناء الجماعات الإثيوبية الأخرى. ففي شرق البلاد، قام أبناء الجماعة الصومالية بطرد “الأورومو” من الإقليم الصومالي، كما انخرط “الأورومو” في ممارسات عنيفة استهدفت أبناء كل الجماعات المجاورة من القاطنين في الإقليم وعلى رأسهم “الأمهرة”. كما اشتبك إقليم أمهرة في صراع حدودي مع “التيجراي” في جواره الشمالي، ومع إقليم “بني شنقول-جوموز” في جواره الجنوبي.
وترتيبًا على العوامل السابقة، ظهر متغير جديد تمثل في الانخراط المتزايد للجماعات الإثيوبية الكبيرة (وخصوصًا الأمهرة والأورومو) في الصراعات البينية، ومن ثم تصاعد خطاب انفصالي أدى إلى تفشي الممارسات العنيفة بين مختلف الجماعات الإثيوبية على نحو جعل من الانفصال وتأسيس دولة مستقلة مطلبًا مطروحًا، خاصة في ظل ما يقره الدستور الإثيوبي من حق تقرير المصير لأي جماعة إثنية ترغب في الانفصال.
رابعًا- تصاعد المعارضة السياسية لـ”أبيي أحمد”
برر البعض التمرد الذي شهدته ولاية أمهرة بأنه نتاج السياسات المنحازة للتيجراي التي شهدتها البلاد طوال فترة حكم “ميلس زيناوي”، بما دفع بعض متعصبي الأمهرة لمحاولة رفع المظالم المتراكمة عن الجماعة عبر السيطرة على حكومة الإقليم. كما ذهب البعض الآخر للربط بين الحادث وبين المتغيرات الإقليمية، بالقول بأنه منذ التغير الذي شهده السودان عقب سقوط “البشير” تراجعت السيطرة على الحدود بين البلدين، مما عزز فرص حصول بعض الأطراف الإثيوبية على السلاح من دون رقابة.
وبعيدًا عن مناقشة قدرة مثل هذه المتغيرات على تحريك التمرد الذي شهدته ولاية أمهرة في هذا الوقت بالتحديد، تبدو المتغيرات المتعلقة بسياسات “أبيي أحمد” هي الأكثر قدرة على تفسير المستجدات الأخيرة. فلم يكن من قبيل المصادفة أن يقع التمرد الأخير في ولاية أمهرة في الوقت الذي تفجرت فيه أزمة زادت من غموض المستقبل السياسي في إثيوبيا. ففي مطلع شهر يونيو 2019، أعلن المجلس الوطني للانتخابات في إثيوبيا عن احتمال تأجيل عقد الانتخابات العامة عن موعدها المقرر في مايو 2020، بعد أن تعذر إجراء المسح السكاني في موعدين متتاليين، وهو الإجراء الذي يعتبره المجلس ضروريًّا لعقد الانتخابات وتحديد عدد المقاعد وتوزيعها على الولايات المختلفة تبعًا لعدد السكان وتقسيمهم الإثني. وخلال الأيام القليلة السابقة على التمرد تواترت تصريحات عديدة رافضة لأي نية لتأجيل الانتخابات جاء بعضها من المعارضة، وجاء البعض الآخر من داخل التحالف الحاكم خاصة من طرف قيادات جبهة تحرير شعب تيجراي.
ومن بين الأسباب الرئيسية وراء هذا الرفض كون “أبيي أحمد” وصل للمنصب -بموافقة البرلمان الذي يسيطر التحالف الحاكم على جميع مقاعده- استكمالًا لمدة سلفه “هايليماريام ديسالين” الذي استقال في فبراير 2018، وفي ظل التغيرات السياسية المتلاحقة وما ارتبط بها من عودة العديد من الحركات المعارضة الكبيرة لممارسة نشاطها في الأشهر الأخيرة، يصبح من المحتمل أن تشهد الانتخابات التالية كسرًا لاحتكار الجبهة الديمقراطية الثورية لمقاعد البرلمان، بما يعني مواجهة “أبيي أحمد” منافسة حقيقية على منصب رئاسة الحكومة، فضلًا عن المنافسة القائمة داخل الجبهة الحاكمة ذاتها. على هذه الخلفية، اعتبر الكثير من الأطراف التصريحات بشأن تأجيل محتمل للانتخابات بداية لتلاعب “أبيي أحمد” بالعملية السياسية لتجنب الأخطار المتعددة لخسارته منصبه في أعقاب الانتخابات، وهو ما زاد من تحفز معارضيه.
خامسًا- عجز سياسات التوجه للخارج عن مواجهة التحديات الداخلية
منذ وصوله للحكم في أبريل 2018 انتهج أبيي أحمد سياسة واضحة قوامها الهروب من مشكلات الداخل عبر تكثيف النشاط في الملفات الخارجية. فخلال عام من حكم “أبيي أحمد” تفجرت مشكلات الصراعات الإثنية بما ارتبط بها من تحول إثيوبيا للدولة الأولى في العالم من حيث عدد النازحين، كما تراجع معدل النمو الاقتصادي إلى 7,7% خلال العام المالي الأخير مقارنة بأكثر من 10% في العام المالي السابق، ولم تشهد العملية السياسية الداخلية تحولات إيجابية كبيرة في ظل تردي الأوضاع الأمنية التي حالت دون عقد الانتخابات المحلية في موعدها المقرر في عام 2018، فضلًا عن تعقد العلاقة بين الأحزاب الأربعة في التحالف الحاكم.
وأمام هذا المشهد الداخلي المعقد، شهدت الفترة ذاتها تبني “أبيي أحمد” سياسة خارجية نشطة بعد أن فضل التعامل المباشر مع عدد من الملفات الخارجية المعقدة، كالعلاقة المتدهورة بدول الجوار وفي مقدمتها إريتريا، وإعلان الالتزام بعدم الإضرار بمصالح مصر المائية على النحو الذي عبر عنه في زيارته للقاهرة، فضلًا عن إعادة صياغة تحالفاته الدولية على النحو الذي ظهر في تقاربه من المحور الأوروبي ممثلًا في فرنسا وألمانيا. وتمثلت آخر تحركات “أبيي أحمد” الخارجية في الوساطة بين المجلس العسكري الانتقالي وبين قوى الحرية والتغيير في السودان.
وعلى الرغم من تفاوت نجاحات “أبيي أحمد” الخارجية من ملف لآخر، ساهم نشاطه الخارجي في إكسابه دعمًا دوليًّا شكل أحد أهم أرصدته في مواجهة المشكلات الداخلية. لكن التمرد الأخير كشف عن عجز كبير في معالجة مصادر التهديد الداخلية خلال السنة الماضية بما بلغه من مستوى مرتفع من الخطورة بعد أن أودى بحياة رئيس أركان القوات المسلحة، ورئيس حكومة أحد أهم الأقاليم الإثيوبية.
وتأتي الحقائق التي كشف عنها التمرد الأخير في إثيوبيا لتشير إلى واقع معقد ومستقبل شديد الغموض؛ فالتعويل على قدرة “أبيي أحمد” على تبني سياسات “إصلاحية” لا يمثل وحده ضامنًا لاستقرار إثيوبيا في ظل الوضع الإقليمي المعقد، خصوصًا بعد التطورات الأخيرة في السودان. وبات من الضروري على رئيس الوزراء الإثيوبي مواجهة الأسباب الجذرية لمشكلات بلاده إذا ما أراد النجاح لمشروع التغيير الذي يتبناه.