اجتمع وزراء دفاع الدول الأعضاء في الناتو، يومي الأربعاء والخميس ٢٦-٢٧ يونيو 2019. وكان جدول الأعمال مزدحمًا، وإن طغى عليه بحث أساليب التعامل مع الانهيار المتوقع لمعاهدة حظر القوى النووية متوسطة المدى على الملفات الأخرى، ومنها: سياسات تأمين الفضاء، ورفع جاهزية القوات والتنسيق بينها، وتوزيع الأعباء بين الدول، والوضع في أفغانستان، والحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومنع عودتها. ولم يكن الوضع في الخليج مدرجًا على جدول الأعمال، لكن أكد بعض الوزراء عزمهم إثارة القضية في اليوم الثاني للمباحثات للاجتماع، وهو ما حدث بالفعل.
فقد قال السيد “جنس ستولتانبارج”، سكرتير عام الحلف، أثناء مؤتمر صحفي عُقد في ٢٧ يونيو، إن وزير الدفاع الأمريكي أطلع الدول الأعضاء على آخر التطورات في الخليج، وأكد الجميع على ضرورة بقاء مضيق هرمز مفتوحًا للملاحة، وعلى التعبير عن القلق من أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط وتأييدها للإرهاب، وبرنامجها الصاروخي، ونيتها إعادة تخصيب اليورانيوم. وقال “ستولتانبارج” إن الدول تثمن موقف الولايات المتحدة غير الراغبة في الحرب، وإن الدول المشاركة اتفقت على تبادل المعلومات الاستخباراتية. وشدد “ستولتانبارج” على ضرورة تخفيض حدة التوتر.
وبحث الوزراء مستجدات الوضع في أفغانستان، واستمعوا إلى تقرير كل من قائد القوات هناك والممثل المدني للحلف، وأقروا استمرار تواجد القوات هناك طالما كان هذا ضروريًّا لضمان عدم تحول أفغانستان مرة أخرى إلى ملاذ للإرهابيين، وحتى سنة ٢٠٢٤ على الأقل، وذلك بهدف “توفير الظروف والشروط التي تسمح بالسلام”، على حد قول سكرتير عام الحلف، الذي أضاف أن هناك فرصة حقيقية للسلام. وأشاد “ستولتانبارج” بتحسن أداء قوات الأمن الأفغانية، لكنه شدد على ضرورة “أن تفهم طالبان أنها لن تنتصر عسكريًّا”، محذرًا ضمنًا من انسحاب متسرع. واختتم تصريحه قائلًا: “ذهبنا معًا هناك، وسنتخذ معًا القرارات المتعلقة بمستقبل مهمتنا هناك”.
لكن جدول الأعمال تناول أساسًا السياسات الدفاعية والخطط المستقبلية للحلف في إطار المستجدات، لا سيما مع زيادة التحديات الروسية وتنوعها، ومع انهيار معاهدة حظر القوى النووية المتوسطة.
وكان السيد “ستولتانبارج” قد عقد مؤتمرًا صحفيًّا في ٢٥ يونيو انتقد فيه الموقف الروسي، وحمله مسئولية الأزمة، وبادلته موسكو الاتهامات، لكنه استبعد قيام الناتو بنشر صواريخ جديدة في أوروبا، قائلًا: “لا نريد سباقًا للتسلح”. ولكنه شدد -في الوقت نفسه- على ضرورة الاحتفاظ بردع له مصداقية. وأضاف أن الحلف سيتخذ عددًا من التدابير للتعامل مع الوضع الجديد، لكنه لم يُفصح عنها.
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي “ترامب” قد أعلنت في أكتوبر 2018 أنها ستنسحب من المعاهدة لأن روسيا لم تلتزم بها، لقيامها بتطوير وإنتاج ونشر صاروخ إم ٧٢٩ إس. إس. سي٨، وانسحبت بالفعل منها في ١/٢/٢٠١٩، كما انسحبت منها روسيا، وإذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق قبل يوم ٢/٨ المقبل ستُعتبر الاتفاقية ملغاة، ولا توجد مؤشرات لاحتمال التوصل إلى حل يُنقذ المعاهدة. ويقول الطرفان ما معناه إن الكرة في ملعب الآخر.
ويُذكر أن كل الدول الأعضاء في الحلف أيدت الموقف الأمريكي، فتلك الصواريخ الروسية القادرة على حمل رؤوس نووية تمثل خرقًا للاتفاقية، فهي قادرة على ضرب أهداف، وعلى تضييق عدد الدقائق المتاحة للتعامل معها إلى أقصى حد. ويُذكر أيضًا أن بعض الدول الأعضاء قام بدراسة القضية بعيدًا عن المؤسسات الجماعية قبل أن يتوصل إلى نفس التشخيص، وأن الرئيس “بوتين” أكد مرارًا أن روسيا لن تبادر بشن حرب نووية، لكنها ستدمر تدميرًا كاملًا من يهاجمها، وأن هناك خبراء أمريكيين انتقدوا قرار “ترامب” بالانسحاب من المعاهدة. فعلى سبيل المثال، قال وزير خارجية لاتفيًا في حديث مع موقع “فورين بوليسي”، نُشر في أبريل الماضي، إن إلغاء المعاهدة لا يغير الواقع لأن روسيا توقفت عن الالتزام ببنودها منذ مدة، ولأن هناك أربعة أنواع من الصواريخ تستهدف بلاده، ولكن هذا الإلغاء له مغزى رمزي لا يُنكر لأنه ينهي عهد التفاؤل. ودعا إلى العمل على إبرام اتفاق جديد يُلزم كل دول العالم.
على جانب آخر، يتبادل الحلف وروسيا الاتهامات بخرق المعاهدة منذ سنة ٢٠٠٧. وذكر بعض الخبراء من الجانبين أن أحد دوافع الانسحاب من المعاهدة هو أنها ليست ملزمة لكل دول العالم، بمعنى أن الصين غير مقيدة بها. وفي السياق نفسه، نشير إلى أن أوكرانيا أعلنت مؤخرًا عن نيتها إنتاج صواريخ متوسطة المدى “نظرًا لمستجدات الوضع”.
واستعرضت الدول الأعضاء ما تم في إطار مبادرة الجاهزية التي أُطلقت في يونيو ٢٠١٨، حيث يعتزم الحلف بحلول سنة ٢٠٢٠ توفير ٣٠ كتيبة، و٣٠ سرب طائرات، و٣٠ سفينة قتالية تكون جاهزة للتدخل في خلال ثلاثين يومًا من إخطارها. وليس المقصود هنا إضافة قوات جديدة، بل رفع جاهزية القوات للتعامل مع التحديات لتكون قادرة على التدخل في أوروبا وعبر المحيط الأطلسي. وقال “ستولتانبارج” إنه تم إنجاز ثلاثة أرباع المهمة، وإنه راضٍ عن معدل الإنجاز، وإن القوات ستكون جاهزة مع انتهاء السنة الحالية.
ووافق الوزراء بقمة الناتو على الخطوط العامة لسياسة شاملة حول الفضاء الخارجي للتعامل مع الفرص والتحديات. وحرص “ستولتانبارج” على تأكيد أنه لن تتم عسكرة الفضاء. وأضاف أن الفضاء مهم لدفاعات الحلف والردع، وللقدرة على تيسير الملاحة وتحريك القوات، ولمراقبة تحركات الآخرين وعمليات إطلاق الصواريخ. وقال إن ناتو سيكون منتدى لتبادل المعلومات وزيادة القدرات على القيام بعمليات مشتركة وضمان التأييد للعمليات.
وعرض السكرتير العام مرات عديدة لمسار الحلف، مركزًا بالأساس على النقاط الإيجابية لعدد من التطورات. ووفقًا لسكرتير عام الحلف، فقد ترتب على غزو روسيا للقرم، وصراعها مع أوكرانيا، وبرنامجها لتحديث وتطوير قواتها المسلحة، وعلى تزايد التهديدات الروسية المتزايدة منذ سنة ٢٠١٤ من ناحية، وعلى خطاب ترامب المناوئ لأوروبا والمهاجم لألمانيا الممتنعة عن الاضطلاع بمسئولياتها وغير الواضح حيال استحقاقات الدفاع المشترك؛ ترتب على كل ذلك أنه للسنة الخامسة على التوالي ارتفع الإنفاق على الدفاع في دول الحلف ارتفاعًا ملحوظًا بلغ ٤٪ تقريبًا، مقارنة بالسنة السابقة، وهي نسبة معتبرة وإن كانت أقل من معدل الزيادة في سنة ٢٠١٧. وبلغ عدد الدول الملتزمة بالنسبة المحددة لميزانية الدفاع إلى الناتج المحلي الإجمالي (وهي ٢٪) ثماني دول، هي: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليونان، وبولندا، ورومانيا، ودول البلطيق الثلاث. ولم يقل السكرتير العام إن الإنفاق العسكري لدول مثل ألمانيا وإيطاليا وكندا وهولندا وإسبانيا والمجر والتشيك ما زال بعيدًا عن النسبة المطلوبة رغم زيادته الكبيرة. لكنه أضاف أن ١٦ دولة تلتزم بما تم الاتفاق عليه، من تخصيص خُمس ميزانية الدفاع لشراء معدات مهمة ومحورية major equipment. وأشاد بالمجهود الكبير الذي بذلته أوروبا.
والدارس لتصريحات “ستولتانبارج” وأحاديثه يراه متفائلًا، إذ يرى أن الرد على السياسات الروسية جاء قويًّا، وأن أفعال “ترامب” وإدارته تناقض تصريحاته، فعمل “ترامب” على زيادة عدد القوات الأمريكية المرابطة في شرق أوروبا وعلى زيادة ميزانية الدفاع، ولم يعد في الناتو دولة تستمر في تخفيض الإنفاق على الدفاع كما جرت العادة قبل سنة ٢٠١٤. ويرى أيضًا أن الرئيس “ترامب” يدرك تمامًا أن أحد عناصر تفوق الولايات المتحدة على روسيا والصين هو العدد الهائل لحلفائها، ومنها الـ٢٨ دولة المجتمعة تحت لواء الناتو، وأن خطاب “ترامب” القاسي نبه الجميع إلى ضرورة المشاركة في تحمل الأعباء، وهي ليست أعباء مالية فقط، بل تتعلق ببناء القدرات وبالمشاركة الفعالة في العمليات، حيث قال أمام الكونجرس إنه لا يجوز التقليل من شأن المساهمة الأوروبية ومن فائدتها للولايات المتحد. أوروبا على سبيل المثال تمد الحلف بعشرات الآلاف من رجال المخابرات ومن خبراء الحرب السيبرانية. ويمكننا أن نضيف إلى هذا ما رصدناه من حوار استراتيجي رفيع المستوى داخل أروقة الحلف.
وقلل “ستولتانبارج” من خطورة التوترات الحالية بين الولايات المتحدة وأوروبا، معتبرًا -مع خبراء- أن الحلف مر بأزمات أكثر جسامة قبل ذلك، مثل: العدوان الثلاثي سنة ١٩٥٦، وسعي المملكة المتحدة وفرنسا إلى امتلاك قنابل نووية وهيدروجينية رغم اعتراضات واشنطن الشديدة.
ولكن الحالة ليست وردية تمامًا على عكس ما توحي به التصريحات الرسمية؛ فمن ناحية، فإن حقائق موازين القوى تقول صراحة إن أهمية أوروبا تتراجع بانتظام، وإن الولايات المتحدة مجبرة على التركيز على الخطر الصيني على حساب الأمن الأوروبي ولو نسبيًّا. وبدأ هذا التحول قبل “ترامب” وسيستمر بعده.
ومن ناحية ثانية، تشكل البنية السكانية عاملًا مهمًّا في موازين القوى، وفي القدرة على إدارة صراع دولي، لا سيما إن كان مسلحًا. والوضع ليس مثاليًّا في الولايات المتحدة، ولكنه أفضل من أوضاع منافسيها، وأفضل من أوضاع أوروبا المتراجعة. من ناحية ثالثة، لا يمكن لحجم الإنفاق أن يعوض عدم وجود خبرات عملياتية في أغلب جيوش أوروبا. ومن ناحية رابعة، يدخل الحلف في مرحلة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات بين جانبي الأطلسي. وكان النمط السائد قديمًا أن الولايات المتحدة تتحمل الأعباء وتنفرد بالقرار (أو تكون صاحبة اليد العليا)، وتكون أوروبا في وضع التابع الذي لا يتحمل أعباء عديدة، ولا يشارك في القرار، ولكن الطرفين سئما هذا النوع من تقسيم العمل. أما الوضع الحالي فإن الولايات المتحدة ترى الضغط بشدة على أوروبا لكي تتحمل المزيد من الأعباء، ولكنها تمتعض من طلبات أوروبا المشاركة في اتخاذ القرار، وتخشى من تصدعات في الحلف إن تعددت الأصوات فيه. وبالطبع، فإن أوروبا تريد مشاركة أكبر في صنع القرار، ليس فقط لأن أداء القادة الأمريكيين لم يكن موفقًا، ولكن لصعوبة أحوالها المالية وازدياد نسبة المسنين وعمق الأزمات الداخلية التي تحد من قدرتها على تحمل أعباء جديدة. أضف إلى ذلك أن دولًا أوروبية كثيرة، لا سيما في أوروبا الشرقية، لا تثق في فرنسا ولا في ألمانيا المرشحتين لقيادة أوروبا. ويمكن أيضًا الإشارة -في هذا الإطار- إلى أن زيادة الإنفاق الأوروبي على شئون الدفاع سيؤدي إلى تطوير صناعات عسكرية أوروبية قد تنافس المجمع الصناعي الأمريكي.
وتشتد المعارك السياسية بين دول أوروبا -لأن التنسيق والترشيد اللازمين لنهضة الصناعات يفترضان غلق مصانع ودمج شركات.. إلخ- وبين الولايات المتحدة حول ملفات الصناعات الحربية.
ولا يتسع المجال لدراسة الثقافات الاستراتيجية المختلفة والمتناحرة في الحلف، والخلافات حول تحديد الأولويات وسيناريوهات تأثير صعود اليمين الشعبوي القومي في عدد مهم من الفاعلين الرئيسيين.
ولا يعني كل ما سبق أن حلف الناتو سينهار؛ فالمصالح المشتركة ما زالت أقوى من المصالح المتعارضة، وتنوع الثقافات الاستراتيجية والتهديدات سيعقد بالتأكيد عمليات التنسيق ورسم السياسات، لكنه قد يؤدي إلى تقسيم العمل فيما بين الحلفاء وتقوية الجميع. وأحيت تهديدات اللاعبين الجدد أو العائدين إلى المقدمة الوعي بأهمية الحلف وبضرورة التمسك به. وأخيرًا وليس آخرًا ما زال الحلف أقوى قوة عسكرية في العالم، وسيبقى كذلك لعقود ما لم تتسبب رعونة الساسة في كارثة.
الكثير سيتوقف على مسار ألمانيا، ونعرض لهذا في موضع آخر.